المهندس سليم البطاينه
الأسئلة في هذا السياق كثيرة ،وثمة كثير من التفاصيل بدأت تبرز أمام كل من له عيون ترى أو أذان تسمع ، وإلى وقت قريب لم يكن أحد منا يفكر في يوم من الايام أن يرى أنه قد تم عزل وبتر الصراع الفلسطيني الصهيوني عن محيطه العربي وعمقه الاقليمي ! وأن نسمع عن مصطلح جديد وهو ( الصهيوني العربي ) ! حتى جاء زمن أنقلب فيه كل شيء ،،،، وهذا ما تنبّأ به مُبكراً المفكّران العربّيان الدكتور ( عصمت سيف الدولة ) والدكتور ( عبدالوهاب المسيري ).
يصعبُ الحديث دوماً عن المفكرين أينما كانوا ! لكن عند التوقف إزاء مفكر قومي عربي بحجم الدكتور عصمت سيف الدولة والدكتور عبدالوهاب المسيري نجد هذه الصعوبة ! فما تنبأ به الدكتور عصمت سيف الدولة قبل أكثر من ٤٥ عاماً هو ذاته ما أعاد توضيحه بشكل دقيق مُفكك العقل الصهيوني الدكتور عبدالوهاب المسيري صاحب الرؤية الفلسفية الذي شكل حالة ترتقي إلى حد الاستثنائية.
ما قاله الدكتور المسيري قبل وفاته بأشهر عام ٢٠٠٨ في مقالين له الأول : ( الدولة الصهيونية بين المأساة والملهاة ) والثاني : ( صهيونية دفتر الشيكات ) كان أشبه بالخيال وفقاً للمنظور الكُلي للفكر الصهيوني والقناعة بتعدد مخاطر أبعاد الصهيونية، ولمنهجية تفسير ظاهرة الصهيونية العربية من حيث خطورتها وادواتها التي تُسخرها.
وهنا أنقل حرفياً ما كتبه الدكتور المسيري : ( ستأتي مرحلة يلعب فيها العربي دور الإسرائيلي ! وهذا العربي الوظيفي الصهيوني سيأتي وسيُصلي العشاء مع المسلمين جماعة ،، وفي الوقت نفسه يتابع المهام الموكولة له كما كان يتابعها الجنرال أو الوزير أو التاجر الصهيوني.
الدكتور المسيري ركّز في نهاية المقالة ( صهيونية دفتر الشيكات ) أن ما من أرضٍ أُحتلت إلا وقاوم أصحابها المحتل بكل ما يستطيعون وبتضحيات كبيرة جداً ، والشعب الذي يحارب ضد اغتصاب أرضه لن ينال منه التعب سريعاً ، وهذا ما حدث في فيتنام التي لم تهزم الحيس الامريكي وإنما أرهقته لدرجة اليأس من تحقيق مخططاته ،،، وهو ما فعله الجزائريون على مدى ثماني سنوات ( ١٩٥٤ – ١٩٦٢ ) في حرب تحرير بلدهم من الاستعمار الفرنسي.
وبعيداً عن مفردات راجت وعن استرجاع الماضي والحديث عن ظاهرة التصهيُن التي كلّفت العرب الكثير من المآسي والهزائم والويلات ،، يبقى السؤال التي يطرح نفسه بقوة ؛ هل نشهد اليوم ميلاد الصهيونية العربية العلني ؟
للإجابة على هذا السؤال : القراءة السوسيولوجية تؤكد أن مستويات الصهيونية مثلها مثل مستويات أية حركة سياسية أخرى ،، تتجه من الفكر المجرد إلى الواقع العيني ومن النظرية إلى الاستراتيجية !! وبدلاً من ان تسقط الصهيونية تصهين الكثير من العرب ! واصبح واقع الحال يقول فلتسقط الامة العربية.
نعود للمفكر العربي القومي الناصري ( عصمت سيف الدولة ) الذي كان له أثر كبير في قضايا الامة العربية والذي ذهب بعيداً وبوقت مُبكر في سبعينات القرن الماضي ونبه إلى مخاطر الحركة الصهيونية على الوجود القومي العربي ،،،، ما قاله في محاضرة له في جامعة الكويت ( نيسان ١٩٧٧ ) أن التناقض بين القومية العربية والصهيونية هو تناقض غير قابل للحسم ،، والعلاقة فيما بينهما طردية يقوى فيها طرف بضعف آخر ! فإما نهضة قومية عربية وإما المشروع الصهيوني ،،، فـ الجغرافيا لا تُحدد الهوية الحقيقية للمشروع الصهيوني ! وكل الكيانات التي أعتمدت على حماية الأخرين عبر التاريخ أنتهت إلى غير رجعة ،، وأن الكيان الصهيوني أستثمر حالة الفوضى والتشرذم العربي ودس الفكرة الصهيونية في العقول العربية ، الى أن تم تجريدنا من قوميتنا العربية ووضعوا بدلاً منها القومية اليهودية الصهيونية ،، وانمحت ذاكرتُنا من دولة الوحدة وقامت بدلاً منها دولة إسرائيل.
إضافة الا أن الصهيونية العربية شكلت عنواناً لأزمة جديدة في الفكر السياسي العربي ، والعرب هم من جرّأوا خصومهم على إهانتهم، وهم من أسسوا الطريق لكيفية تعامل العالم معهم ! حيث يراهم حكومات ديكتاتورية فاسدة ! وشعوب لا حول لها ،،، وتابع القول بأن مصطلح ( الصهيونية العربية ) لم يأت من فراغ ! وبوادر تصهيُن العرب كان مُبكراً جداً ! والبادرة الاولى كانت عام ١٩٣٦ عندما قامت الحكومات العربية بإرسال برقيات إلى اللجنة العربية العليا التي كانت تدير الثورة الفلسطينية تطالبهم بإنهاء الاضراب الذي أستمر ستة أشهر رفضاً للسياسات البريطانية.
المحاضرة انتهت بعبارات أشد خطورة بإن هناك أزدواجية لا تخلو من زيف ! وخطاب لدى البعض مختلف في توجهاته ونظراته إلى الصراع العربي الاسرائيلي أو الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
حقيقةً إن ما يجري حولنا أمرٌ صادمٌ وغير طبيعي وغاية في الخطورة لم نألفه من قبل ! وحيل الماضي لم تعد تجدي ، ومُخطىء من يعتقد أنه على علم بكل ما يحدث بالمنطقة ،،، فبعد كل حدث كبير يتضح أن ما كنا نعرفه ليس سوى إطاراً عاماً ينقصه الكثير من التفاصيل الغير مرئية.
لا مبالغة في القول ان دول المنطقة مُنهكة ، ضاعت ثرواتها وتاهت ثوراتها وتصدعت خرائطها ! معظمها راكعة مكسورة تستجدي الحماية والمساعدات والمنح والقروض ، وفي حالة أنعدام وزن سياسي !! تترنح بالتدرج خارج التاريخ.
اليوم نحن بأمسّ الحاجة إلى مفكرين عرب امثال عصمت سيف الدولة وعبدالوهاب المسيري ،،، فبعد سنوات طويلة من رحيلهما يبدو لنا أن رحلتهم الفكرية والقومية فيما يتعلق بالصهيونية أكثر راهنية بالنظر الى التحولات التي يمر بها عالمنا العربي اليوم ،،،،، وما طرحاه لم يكن تحليلاً للواقع العربي المرير بقدر ما كان نبوءة مُبكرة ورؤية صادقة للمستقبل العربي ، ورسم خارطة أنقاذ تبين لنا خطورة الصهيونية من توسيع الحدود وتهجير الشعوب.
المهندس البطاينة نائب سابق في البرلمان الاردني