عندما تبدأ الدّول الكُبرى في إجلاء رعاياها ودبلوماسييها من أيّ بلدٍ يُواجه أعمال عُنف وحُروبٍ داخليّة، فهذا يعني أن المُواجهات الدّامية بين الفصائل المُتقاتلة ستطول، وتزدادُ شراسةً، وغياب أيّ حُلولٍ قريبة، أو وقف إطلاق نار دائم في الأُفُق.
بريطانيا وأمريكا وفرنسا والصين ودُول أُخرى باتت حريصةً جدًّا على التوصّل إلى هدنة، ولو لمُدّة ثلاثة أيّام في السودان، ليس حرصًا على حقن دماء الشعب السوداني ضحيّة صِراع الجنرالات الأكبر في البلاد، وإنّما لإعادة فتح مطار الخرطوم من أجل تأمين خُروج أعضاء بعثاتها الدبلوماسيّة، وأكبر عدد مُمكن من رعاياها، نتيجة التوصّل إلى قناعةٍ مُستَندةٍ إلى معلوماتٍ، بأنّ هذه الحرب ستطول.
الدّول الغربيّة، والولايات المتحدة الأمريكيّة على وجه الخُصوص، هي التي أوصلت السودان إلى هذه النهاية المأساويّة، ومن خلال مُؤامرة بدأت قبل عدّة عُقود بدعمِ حرب الانفصال في الجنوب، وبعد أن تُحقّق هذا الهدف، جرى الانتقال إلى المرحلةِ الثانية، والأكثر خُطورةً، وهي تفكيك البِلاد إلى دُويلاتٍ مُتناحرةٍ على أُسسٍ عِرقيّةٍ ومناطقيّةٍ، وهو سيناريو بدأ في العِراق، وانتقل إلى ليبيا، وسورية، يبدأ دائمًا بتأسيس الميليشيات وبحلّ الجيش الوطني أو استِنزافه، وإضعافه، وبَذْر بُذور الفتنة الداخليّة، مذهبيّةً كانت أو عِرقيّةً، للوصول إلى الفوضى والتّقسيم.
أمريكا وحليفتها دولة الاحتِلال أحد أبرز أدواتها في المِنطقة لن ينسوا للسودان وجيشه وشعبه الوطني الأصيل تمسّكه بعُروبته، وعقيدته الإسلاميّة، ودعمه للقضايا العربيّة العادلة وعلى رأسها قضيّة فِلسطين، وتوظيف أراضيه وموانئه، وخاصّةً بور سودان، لإيصال الصّواريخ والأسلحة إلى المُقاومة في قِطاع غزّة، وما يجري حاليًّا هو أحد الثّمار المُرّة لهذه السّياسات.
بدأوا تفكيك السودان بتجويع شعبه ووضعه على قائمة الإرهاب، وباختراق الجيش السوداني وعرقلة انتقال السّلطة إلى المدنيين، من خِلالِ انقلاباتٍ مُتعدّدة، وكانت عبر مُؤامرة التطبيع، وبَذْر بُذور الانشِقاق في الجيش، ودُخول “إسرائيل” وأجهزتها الأمنيّة على هذا الخط، هو الحلقة الأخيرة والأكثر دمارًا في هذا المُخطّط.
رفْع السودان من على قائمة الإرهاب كان مِصيَدة، وأكذوبة، وحيلة لدُخوله نادي التبعيّة لأمريكا، ولدولة الاحتِلال الإسرائيلي، وإبعاده بشَكلٍ مُتسارع عن مُحيطيه العربيّ والإسلاميّ، وقطع علاقاته مع حُلفائه التقليديين، أيّ الصين وروسيا وإيران وهكذا كان، وتحضيره للأسوأ، أيّ الفوضى التي ستقود إلى التّقسيم.
الشعب السوداني الطيّب المِضياف المُؤمن، وهُويّته العربيّة والإسلاميّة هُما الضحيّة الكُبرى لهذه الحرب الأهليّة العسكريّة التي من المُرجّح أن تطول، لعدم قُدرة أيّ من المعسكرين المُتقاتلين حسمها لصالحه بشَكلٍ نهائيّ وبسُرعةٍ، والمرحلة المُقبلة ستشهد حالات استقطاب وتدخّلات خارجيّة بالمال والسّلاح ليس لاستِنزاف السودان، وإنّما للمِنطقة بأسْرِها أيضًا، ولنا فيما حدث ويحدث في الصومال وليبيا وسورية والعراق أحد الأمثلة في هذا المِضمار.
إنّها “الفوضى الخلّاقة” التي بشّرت بها كونداليزا رايس وعملت على تنفيذها حرفيًّا هيلاري كلينتون، وبدأت بالحرب على العِراق ومن ثمّ الانتِقال إلى خديعة “الربيع العربي” وأخيرًا إلى الحرب الأهليّة العسكريّة في السودان.
الجِنرالان عبد الفتاح البرهان، ومحمد حمدان دوقلو (حميدتي) مُجرّد أدوات استخدمتها أمريكا لتدمير السودان، مثلما استخدمت بعض جماعات الإسلام السّياسي لتحقيق الهدف نفسه، أيّ تفتيت واستِنزاف الأمّة العربيّة لتكريس الهيمنة الإسرائيليّة، نقولها وفي القلب حسرة، وفي الحلق مرارة، ولعلّها تكون مُفجّرًا لصحوةٍ شعبيّةٍ سودانيّةٍ تكون لها الكلمة الأخيرة في نهاية المطاف