كان رئيس وزراء سنغافورة، لي كوان يو، يقول “من المستحيل أن نتظاهر بأن الصين لاعب كبير آخر، فنحن أمام اللاعب الأكبر في تاريخ العالم”. خلال الربع الأول من العام الحالي (2023)، مارست الصين سياسة نشطة في إطار ترسيخ صعودها وتعزيز موقعها دولة عظمى في النظام الدولي. وفي المقدمة قرارها زيادة إنفاقها العسكري، ونشرها على موقع وزارة الخارجية ثلاث وثائق رسمية. تتناول الأولى فيها أول مرة وبشكل مفصل تاريخ الهيمنة الأميركية بعنوان “الهيمنة الأميركية ومخاطرها” (US hegemony and its Perils). أما الوثيقة الثانية كانت بعنوان “مبادرة الأمن العالمي” (Global Security Paper). وتتعلق الثالثة بالأزمة الأوكرانية بعنوان “موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية” (China’s Position on the Political Settlement of the Ukraine Crisis). واستضافت أيضًا توقيع الاتفاق السعودي – الإيراني. وبالرغم من أهمية كل هذه السياسات، إلا أن الحدث الأهم والمتوقّع كان إعادة انتخاب شي جين بينغ رئيسًا للجمهورية للمرّة الثالثة على التوالي.
صين شي جين بينغ الطموحة
عندما سُئل لي كوان يو ماذا يريد شي جين بينغ، أجاب: أن يعيد للصين عظمتها. في العاشر من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، أعاد المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني انتخاب شي للمرة الثالثة للخمس سنوات المقبلة بنسبة تصويت 100%. شكلت أفكار شي وسياساته أهمية كبيرة في دراسة تحوّلات النظم الدولي في العصر الحالي، فعندما انتخب أول مرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، تحوّلت الصين من دولة صاعدة سلمية إلى قوة صاعدة تنافسية. رأى شي أن العظمة الصينية لا تتأتّى إلا من خلال ثلاث سياسات، إعادة الهيمنة على آسيا، وترسيخ مركزية الحزب، وضرورة احترام الدول العظمى وجهة نظر الصين. منذ ثمانينيات القرن الماضي، تبنّت الصين استراتيجية تطوير القدرات مع الحفاظ على حضور عالمي هادئ فيما يسمى بـ Low Profile. وفي أواخر التسعينيات، تطوّرت استراتيجيتها وأصبحت تُعرف بصعود الصين السلمي، حيث أرادت من خلالها التأكيد على أنها لا تسعى إلى الهيمنة أو السيطرة.
قضى شي على سياستي الـ Low Profile والصعود السلمي قبل أن يمرّ عام على رئاسته، ففي 2013، أعلن عن إعادة إحياء طريق الحرير الصيني القديم، والذي يُطلق عليه مشروع القرن، أي أن مستقبل العالم في القرن الـ 21 مرهونٌ بالقدرات الصينية. أراد شي من هذا المشروع أن تعود الصين إلى المركز، وأن يقول لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة، هيلاري كلينتون، إن أحفادها سيعيشون بالتأكيد في عالمٍ يهيمن عليه الصينيون. ويذكّرنا بدء التنظير للقرن الصيني بالتنظير الأميركي فترة صعودها، حيث وصفت واشنطن القرن الماضي بالقرن الأميركي.
رأى الرئيس الصيني شي أن العظمة الصينية لا تتأتّى إلا من خلال ثلاث سياسات، إعادة الهيمنة على آسيا، وترسيخ مركزية الحزب، وضرورة احترام الدول العظمى وجهة نظر الصين
بعد مرور عام على رئاسته، تبنّت الصين ما أُسمّيه “مبدأ شي” الذي يشير إلى أن آسيا للآسيويين، حيث قال “شعوب آسيا هي المسؤولة عن إدارة شؤون آسيا وحلّ مشكلات آسيا ودعم أمن آسيا… لدى شعوب آسيا القدرة والحكمة لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة”. ويذكّرنا هذا الخطاب أيضًا بمبدأ مونرو الأميركي، والذي عنى عمليًا أن “أميركا للأميركيين”. كان هدف واشنطن، في ذلك الوقت، منع ومواجهة أي وجود أجنبي في القارة الأميركية، وخصوصا فرنسا وبريطانيا. وجاء مبدأ شي، آسيا للآسيويين، رفضًا للتدخل الغربي والهيمنة الأميركية على آسيا. وهنا، يثبت تاريخ صعود القوى العظمى أنها فواعل طموحة لا تقف عند حدّ معين، ولا تكتفي بمقدار القوة الذي تمتلكه. ولذلك تخطّت صين شي استراتيجية الصعود السلمي إلى الصعود التنافسي. والملفت للنظر هنا أن الصين، في وثيقة الهيمنة الأميركية، انتقدت سياسة “أميركا للأميركيين،” قائلة إن هدف أميركا الحقيقي كان “أميركا (كقارّة) للولايات المتحدة”. السؤال هنا، كيف يمكن أن يختلف مبدأ شي عن مبدأ مونرو؟ عودة الصين إلى المركز تعني، في نهاية المطاف، آسيا للصينيين. يمكن القول إن “مبدأ شي” يتصف بسماتٍ خاصة، ربما كان أهمها:
تبنّي “الهيمنة الحميدة”
تجلى الصعود التنافسي لصين شي خلال الربع الأول من هذا العام (2023) عندما أصدرت الصين الوثائق المذكورة أعلاه خلال أربعة أيام فقط من شهر فبراير/ شباط. تشترك جميعها في نقطة رئيسية، نقد سياسات الولايات المتحدة، إلا أن أهمها وثيقة “الهيمنة الأميركية ومخاطرها”. تكمن أهمية هذه الوثيقة المكونة من 4002 كلمة في أربع نقاط، أولها التأكيد على أن أميركا هي الخطر. وفي هذه الوثيقة، نرى الصين تنصّب نفسها قائدا لحملة دولية رسمية، هدفها حشد الإجماع الدولي ضد الولايات المتحدة. حيث تُعتبر الأولى من نوعها التي تفردها الصين، وتُعنون فيها واشنطن بأنها الخطر على رفاهية الشعوب وسيادة الدول، وجاء مضمونها بمثابة تذكير للعالم بتاريخ الهيمنة الأميركية وحاضرها الخطير على السلام الدولي، في معنىً واضح لتصاعد المنافسة بين واشنطن وبكين، ولكن بمبادرة صينية هذه المرّة. يأتي هذا في سياق نظرة أميركية متزايدة التوتر والحذر إزاء الصين، فإن كانت إدارة أوباما قد وصفت الصين بأنها “فاعل دولي يهدد الأمن الدولي،” فإن إدارة ترامب صعّدت من ذلك “التصنيف”، ووصفت الصين بأنها دولة تحريفة (Revisionist State)، أي تريد أن تحرف النظام الدولي عن شكله الراهن (بالسيطرة الغربية) وتنهيه. وحديثًا، صنفها الرئيس بايدن بأنها التهديد الأكبر الذي يجب مواجهته ومحاسبته، وعلى إثر ذلك، قدّم الكونغرس في 13 مارس/ آذار أكبر طلب ميزانية للدفاع على الإطلاق بقيمة 842 مليار دولار، واصفًا الصين باعتبارها “تحدّيًا متسارعًا” (Pacing Challenge).
تعي الصين جيدًا أنها لا تستطيع أن تُهيمن على محيطها الجغرافي وجوارها الحيوي في المدى القريب أو البعيد
ثانيًا، الهيمنة حميدة. قالت الصين إن هذه الوثيقة جاءت “لفضح إساءة استخدام الولايات المتحدة للهيمنة في المجالات السياسية العسكرية والاقتصادية والمالية والتكنولوجية والثقافية”. وهذه الصيغة، حيث الإقرار بمبدأ الهيمنة، لكن إدانة إساءة استخدامه تنقل الخطاب الصيني نقلة بالغة الأهمية وتمهيدية لما سيأتي منها. في الماضي القريب، وتحديدًا منذ عام 2002، التزم الخطاب الصيني في كل المؤتمرات الوطنية للحزب الشيوعي بصيغة واحدة، أن الصين “ترفض جميع أشكال الهيمنة وسياسات القوة … ولن تسعى أبدًا إلى الهيمنة أو التوسّع”. أما الآن فبالإمكان القول إن مضمون الوثيقة الجديدة يشكل نقطة تحول جذرية في الخطاب والرؤية الصينية للهيمنة، فتعبير أن “أميركا أساءت استخدام الهيمنة” The U.S. abuse of hegemony، يعني، من وجهة النظر الصينية الجديدة، أن الهيمنة، بالأساس، مسألة مقبولة وقد تكون حميدة. وفي هذه الحالة، لا تعترض الصين على ممارستها، بل يكمن اعتراضها الأساسي في إساءة استخدامها من الولايات المتحدة، حيث شوّهت واشنطن الهيمنة عن طريق استغلال الآخرين لتحقيق مصالحها الذاتية. وبالتالي، يفتتح هذا الخطاب بداية جديدة في تاريخ الصين الصاعدة والطموحة على طريق تحقيق هدفها النهائي: الهيمنة، وهي تروّج هيمنتها الحميدة، ولن تسيء استخدامها كما تفعل أميركا.
ثالثًا، الدّيسم الروسي. نُشرت وثيقة الهيمنة الأميركية قبل أربعة أيام على ذكرى مرور سنة على بدء الحرب الروسية – الأوكرانية، وافتتحتها بتأجيج مشاعر العداء التاريخية بين روسيا وأميركا عبر الإشارة إلى الثورات الملونة وأماكنها في ستة مواضع في المقدّمة والمحور الأول. وفي نص الوثيقة، اتهمت واشنطن بأنها ما زالت تمارس عقلية الحرب الباردة عن طريق حربها بالوكالة في أوكرانيا. وتفهّمت الصين من خلال هذه الوثيقة مبرّرات الحرب الروسية ضد أوكرانيا. ثم عزّزت ذلك كله عبر تبنّيها الرواية الروسية كاملة في وثيقة أخرى، نشرتها في الذكرى السنوية للحرب (بعد أربعة أيام على نشر وثيقة الهيمنة) بعنوان “موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية”. وضمن هذا الموقف، دعت الصين إلى أخذ المخاوف الأمنية لروسيا على محمل الجد، مؤكّدة أنه لا ينبغي لبلد ما السعي وراء أمنه (واشنطن) على حساب الآخرين، ولا ينبغي تحقيق أمن المنطقة من خلال تعزيز (أو توسيع) الكتل العسكرية (الناتو).
على الرغم من أن الموقف الصيني في ظاهره يقف مؤيدا لروسيا، إلا أن هناك أبعادا أخرى بالغة الأهمية يجب إدراكها عند النظر إلى الصورة الكبيرة للتنافس الدولي الراهن، فالقوى العظمى الصاعدة والمتنافسة لا يمكن أن تمارس أدوارًا حيادية صرفة، أو خيرية، خصوصا في الأزمات ذات الأبعاد الدولية، بل يكون لها حساباتها المركبة وبعيدة المدى. وهنا، لا يمكن أن يُفسّر انحياز الصين لمبرّرات بوتين في الحرب أنه مراعاة للمخاوف الأمنية لروسيا فقط، بل يقع في قلب ذلك تناغم هذه الحرب مع استراتيجية صينية بعيدة المدى، تهدف إلى استنزاف روسيا وإضعافها. في الوقت الذي عمل فيه الموقف الصيني المؤيد على تعزيز الشعور بتضخيم الذات عند بوتين، وإضفاء شرعية أممية على مطالبه وشجّع استمرار عدوانه، فإن صورة النتيجة النهائية للحرب ستكون إضعاف الطرفين المتحاربين، روسيا والغرب، وهو ما تريده الصين الآن وغدًا. وفيما يتعلق بروسيا تحديدًا، تعي الصين جيدًا أنها لا تستطيع أن تُهيمن على محيطها الجغرافي وجوارها الحيوي في المدى القريب أو البعيد، لأنه يحتوي على قوى عظمى أخرى وخاصة عدوانية مثل روسيا.
في وقت مارست فيه واشنطن استراتيجية “فرّق تسُد” في الشرق الأوسط لتعزيز هيمنتها، تقوم استراتيجية صعود الصين على الركوب المجاني للاتفاقيات الإقليمية
لم يكن تبنّي الرواية الروسية المؤشّر الوحيد على دفع روسيا إلى الاستنزاف، بل أيضًا انتظار الصين عامًا لتقديم ورقة موقف لحل الأزمة، ومع ذلك، لم تول الصين نفسها أي دور فعلي وحقيقي في هذه الورقة لحل الأزمة، بل مارست استراتيجية تحويل المسؤولية عبر الطلب من أوروبا والمجتمع الدولي أن يمارسوا أدوارًا أكثر فعالية. إن حالة ضعف الأطراف تعتبر بمثابة الحالة الوحيدة التي تضمن فيها قوة عظمى الحفاظ على بقائها وتفوقها؛ إذ تمكنها من تحقيق مكاسب نسبية في قوتها المادية على جميع الأطراف. وما يثبت ذلك، زيادة الصين نسبة إنفاقها العسكري خلال عام الحرب بنسبة 7.1%، أي بما يساوي 229.6 مليار دولار، وإصدار قرار لزيادة أخرى بنسبة 7.2% خلال هذا العام. وبالتالي، ضاعفت من قوتها النسبية العسكرية على روسيا في أوراسيا، فالهيمنة الصينة لا تريد دبًا روسيًا قويًا، بل ديسمًا (ابن الدب) ضعيفًا.
رابعًا، جهالة الشعوب العربية. .. بكين كما واشنطن تدعم الديكتاتوريات العربية. هذه المرّة الأولى أيضًا التي تطرح الصين وجهة نظرها الرسمية من الثورات العربية بشكل رسمي وواضح، حيث شوّهتها متهمة واشنطن بأنها من دبّر هذه الثورات، لإحداث الفوضى في الإقليم. الحقيقة التي تعمّدت الصين تجاهلها لمصلحتها في سياق منافستها أميركا أن الثورات العربية فاجأت العالم أجمع وبالأخص واشنطن، وجاء دور واشنطن في شنّ ثورات مضادّة، وباعترافها ضد ثورات الربيع العربي لإفشالها، منعًا لقيام كيانات ديمقراطية في محيط إسرائيل الجغرافي. وفي السياق العربي أيضًا، ذكرت الصين تاريخ الإجرام الأميركي جميعه منذ إبادة الهنود الحمر، وفي كل العالم، ولكنها لم تذكر دور واشنطن الشاذ في دعم الكيان الاستعماري الإسرائيلي في قتل الفلسطينيين وتشريدهم وسلب أرضهم. لا تشمل الهيمنة الأميركية الخبيثة، من وجهة النظر الصينية، إسرائيل، القاعدة العسكرية الأميركية الأكبر في العالم، والسبب الرئيسي للفوضى في المنطقة العربية. وبوقوفها مع الأنظمة العربية الديكتاتورية، تتبنّى الصين واحدة من أبرز استراتيجيات الهيمنة الأميركية في المنطقة، وهي دعم الديكتاتوريات.
صين شي في الشرق الأوسط: راكب “جمّع تسُد” بالمجان
في وقت مارست فيه واشنطن استراتيجية “فرّق تسُد” في الشرق الأوسط لتعزيز هيمنتها، تقوم استراتيجية صعود الصين على الركوب المجاني للاتفاقيات الإقليمية. تريد الصين شرق أوسط هادئ لإنجاح مشروع القرن، ولكن تريده هادئًا بالمجّان. ولذلك، مارست دبلوماسية نشطة (من دون تكاليف) تجاه الأزمات الإقليمية، وأبرزها دورها في الاتفاق النووي الإيراني، وتقديم مقترحات لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وحديثًا، رعاية استئناف العلاقات بين السعودية وإيران، والذي جاء الإعلان عنه في يوم انتخاب شي. وبالرغم من هذه الأدوار، لا تفرد الصين مواردها لحل الأزمات، ولا تولي نفسها دورا قياديا في الإقليم. يؤكد ذلك أن الصين لم تكن الوسيط في إعادة استئناف العلاقات بين السعودية وإيران، بل كانت بمثابة “راكب بالمجّان” على رغبات كل من السعودية وإيران، اللتين بدأتا جولات المباحثات في إعادة العلاقات منذ عام 2021 بوساطة العراق وسلطنة عُمان.
حتى الآن واشنطن هي الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها في الخليج العربي.
ووفق البيان الذي نشر على موقع وزارة الخارجية الصينية بعنوان “بيان ثلاثي مشترك صادر عن جمهورية الصين الشعبية والمملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية”، في العاشر من مارس/ آذار، “أعرب الطرفان عن شكرهما للدور الصيني في استضافة المباحثات ورعايتها” Hosting and Sponsoring The Talks. أي أن الصين لعبت دور الاستضافة وتسهيل توقيع الاتفاق Facilitator، ولم تكن وسيطًا Mediator. وبالرغم من أن الاتفاق شكل فرصةً للصين لتعزيز قوتها الناعمة وتعزيز ادّعائها بأنها فاعل دبلوماسي ممكن الاعتماد عليه، إلا أنها لم تصل بعد إلى مكانة القوّة التي لا يمكن الاستغناء عنها، فحتى الآن واشنطن هي الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها في الخليج العربي.
شكّل الاتفاق أهمية للصين لسببين: الأول، ممارسة القوة الناعمة وتوسيعها، فرعاية الصين الاتفاق لم تكن بفعل أي ضغطٍ مورس عليها للاختيار بين أحد الأطراف، فلا يمكن لإيران، ولا حتى للسعودية، أن تتدخّل في القرارات السيادية للدولة الصينية. وفي الأصل، تعدّ الصين أكثر جذبًا للأنظمة السياسية في الإقليم من الغرب؛ لأن المبدأ الرئيسي في سياسة الصين الخارجية احترام سيادة الدول وقراراتها وطبيعة أنظمتها، وهو الوصف المُلطف للقول إنه لا يعنيها استبداد الأنظمة ولا تدعو إلى ديمقراطية وحقوق إنسان. وجاء هدف الصين من رعاية الاتفاق فقط في إطار تأكيدها على دورها دولة راعية للسلام، على عكس الولايات المتحدة التي كانت السبب الرئيسي في عدم الاستقرار الإقليمي، وهنا تكسب بكين قوة ناعمة نسبية على واشنطن.
قبول الصين من دولٍ متصارعةٍ في الإقليم ذات مصالح مختلفة، وهو مسألة في غاية الأهمية، تتصارع الأطراف الإقليمية، لكنها تقبل بالصين مهيمنًا جزئيًا
ثانيًا، القبول. يحاجج المنظّر البريطاني، روبرت كوكس، إن شروط الهيمنة ليست فقط امتلاك العناصر المادية والأيديولوجيا والمؤسّسات، بل أيضًا القبول Consent من الآخرين. بمعنى أن تحصل الدولة العظمى على قبول الأطراف الأخرى بها في المجتمع الدولي مهيمنا. في الحالة السعودية – الإيرانية، حصلت بكين، بشكل مباشر، على قبول واضح من طهران والرياض لموقعها الحالي والمستقبلي دولة صاعدة راعية لمصالح الإقليم على حساب تهميش القوة المهيمنة الأميركية. ولهذا القبول ميزتان على واشنطن، الأولى، قبول اختياري، والثانية قبول أضداد. تشير الميزة الأولى إلى قبول الدول الإقليمية الدور الدولي المتصاعد طوعًا ومن دون ضغوط خارجية (قبول ناعم). وهذا عكس قبول الغرب الأوروبي الدور الدولي المتصاعد لأميركا بعد الحرب العالمية الثانية، الذي كان قبولًا إجباريًا، أي أن هذه الدول قبلت أن تكون جزءا من القرن الأميركي، لأنها كانت تعاني من أزمات اقتصادية كبيرة، بسبب الحرب وتحتاج إلى داعم، والذي تُرجم عمليًا عبر مشروع مارشال، إضافة إلى خوفها من التمدّد الشيوعي.
أما قبول الأضداد، فيعني أن قبول الصين من دولٍ متصارعةٍ في الإقليم ذات مصالح مختلفة، وهو مسألة في غاية الأهمية، تتصارع الأطراف الإقليمية، لكنها تقبل بالصين مهيمنًا جزئيًا. وهكذا، حصلت الصين على قبول عدو وحليف منافستها واشنطن. أما قبول أميركا بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كان مقتصرًا على الحلفاء والأصدقاء، لم تحصل أميركا على قبولٍ من أي طرف حليف لمنافسها السوفييتي آنذاك.
وفق التسلسل الزمني للصعود الصيني منذ عام 1979 وحتى الربع الأول من عام 2023، شهد ذلك الصعود أربع مراحل رئيسية على طريق تحقيق الهيمنة المنشودة مع حلول منتصف القرن الحالي. بدأت الأولى عام 1979 عندما تبنّت الصين سياسة الإصلاح الداخلي والانفتاح على الغرب والاندماج بالمؤسّسات الدولية التي أنشأتها الولايات المتحدة، وعزّزتها باستراتيجية الـ Low Profile. واستمرّت المرحلة الثانية منذ أواخر التسعينيات إلى 2013، والتي بُنيت على سياستين: الأولى تدشين الصين مرحلة جديدة في تاريخها، وهي الصعود السلمي للصين، أي أنها تخلت عن الـ Low Profile، وتبنّت الـ High Profile عن طريق بدء ترويج صعودها. أما الثانية، فقد بدأتها الصين بطرح خطابات نقدية للهيمنة بجميع أشكالها من دون تحديد دولة بعينها، مع التأكيد على عدم سعيها إلى التوسّع أو الهيمنة أو السيطرة. وبالانتقال إلى المرحلة الثالثة، كانت بين عام 2013 لغاية 2022، والتي هدفت بالأساس إلى إعادة الصين إلى المركز عبر ربط كل دول أوراسيا الكبرى ومتوسّطة الحجم بمشروع القرن. وأما الأخيرة، دشّنها شي خلال الربع الأول من هذا العام عبر بدء ترويج الهيمنة الحميدة.