ياسر ابو غليون
في الانحياز للفكر المستقل يمكن تناول المسألة من زاوية قومية، ومن زاوية مغايرة رأسمالية وفي الأولى ينظر لروسيا كما لو كانت صمام الأمان في القطبية الثنائية زمن الحرب الباردة بين أمريكيا وروسيا، أما في الثانية فحتما سيكون الاصطفاف بعيدا عن الروس، وفي كل الأحوال لا خلاف على إمكانية توصيف هذا الصراع كحدث أرشيفي من زمن الحرب الباردة.
بداية ينبغي الإشارة إلى أنه في الفقه السياسي من المستحيل الجمع بين التوصيفين الليبرالي والمحافظ في آن واحد، ولعل هذا هو الذي وقعت فيه السياسة الروسية منذ عقود، فمرجعية التفكير تسعى لاستعادة أمجاد روسيا من خلال الظهور بمظهر المصلح الليبرالي بنمط سياسات تحرص على النأي بالنفس عن الشيوعية، وطرح توليفة تجمع متضادات أيديولوجية ديمقراطية ليبرالية بمعايير روسية، مع استدعاء التاريخ لرغبة دفينة في تصحيح الظلم الفادح للمسارات السياسية للبلاد، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، بعيدا عن الشعبوية التي توظف المشاعر القومية وتلبي شهية النخب في البلاد.
إزاء ما سبق تجد روسيا نفسها في ظل التحولات الجديدة مطالبة بالتصنيف والفرز لأقصى اليمين أو أقصى الشمال، ولكن لا يمكنها إمساك العصا من المنتصف فقد انتهى الزمن الذي تقدم فيه وجهها الليبرالي المحافظ للغرب.
بالتدقيق في التأزم الحالي فإن المحرك الأساس لهذا الصراع الدائر الرغبة الروسية في منع الراديكاليين والقوميين الأوكران من تشكيل حديقة خلفية للغرب في مناطق النفوذ الروسي، فمع زوال القطبية اتجهت الدول للتحالف وسياسات المحاور، إلا أن أي تراجع عسكري في هذا النطاق سيؤدي حتما إلى تراجع النفوذ السياسي بالأخص في بلد كأوكرانيا مفعمة بالقومية الروسية السلافية وتعد بمنزلة اليمن للعرب، علاوة على تشابه اللغتين وكون ثلث السكان يتكلمون الروسية ويعتبرون روسيا الدولة الأم.
يمكن تفهم وجهة النظر الروسية في الأزمة الآنية عبر مقولة بوتين: “أرى أنه من الضروري اتخاذ قرار طال انتظاره للاعتراف باستقلال جمهورية دونيتسك وجمهورية لوغانسك في أقرب وقت ممكن” صحيح أن شيطنة الروس للأوكران تبدأ من إدعاء خطورة أوكرانيا سواء بطموحاتها النووية أوبامتلاكها لصواريخ التوماهوك والصواريخ التكتيكية من طراز “Toçka-U” إلا أن العامل الرئيس يتمثل في تحالفها مع الغرب، وبالتالي تصبح الأجواء الأوكرانية مفتوحة أمام طائرات الاستطلاع الأمريكية، في حين باتت مطاراتها تحت تصرف الناتو لينشر راداراته ومعداته.
من السذاجة السياسية الاعتقاد بأن الاهتمام الغربي بأوكرانيا نابع من كونها قضية عادلة بعيدا عن الأخذ بعين الاعتبار جملة أسباب تتقاطع بين الاقتصاد والبحث عن الضمانات الأمنية، ويتضح هذا في الأهمية الصناعية للدونباس، ونوعية أراضي أوكرانيا ذات التربة السوداء الشديدة الخصوبة والأهمية الغذائية الزراعية من حيث المساحة والتي هي أكبر دولة أوروبية، زد على ذلك المسطحات المائية كجزء حيوي تاريخي بخلاف الاراضي الروسية التي هي أراضٍ مغلقة، علاوة على أن منافذها لبلوغ مياه التجارة العالمية يمكن السيطرة عليها، وبالتالي تستوجب هذه الحقائق استراتيجية التوسع والتمدد كضرورة قبل أن تكون ترفا بحكم الواقع الجيوسياسي.
ما المخرج لهذا التأزم؟
بالعودة للتاريخ كان اقتراح ستالين السكرتير العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي التابع للبلاشفة ومفوض الشعب للشؤون الوطنية عام 1922 بناء دولة تقوم على مبادئ الحكم الذاتي، فبعيد ثورة البلاشفة تم تأسيس دولة أوكرانيا على أراضي روسية، وهي بالتالي ليست مجرد دولة مجاورة، إنما ينظر لها بوصفها جزء لا يتجزأ من التاريخ والثقافة والفضاء المعنوي للروس، وهذا يفسر ما صدر عن القيادة الروسية من تصريحات على شاكلة: “هؤلاء ليسوا رفاقنا وأقاربنا وزملائنا وأصدقاءنا فحسب، بل هم أيضًا أقاربنا، تربطنا معهم صلة الدم والروابط العائلية”
بموازاة ذلك فإن الرغبة الروسية في استعادة المكانة في النظام الدولي وحماية مناطق النفوذ الحيوي لموسكو ليس فقط في جورجيا وأوكرانيا وغيرها بل تمتد لمنطقة الشرق الأوسط.
ومن هنا وإلى هذه اللحظة أعلن الروس عن كون العملية خاصة ولم تصل إلى مرحلة إعلان الحرب، وبالتاليةفالحوار الدائر حاليا مرهون بالاستجابة للمطالب الروسية بنقاط واضحة هي عدم السماح للناتو بالتوسع، ورفض نشر القواعد والمنظومات الهجومية قرب الحدود الروسية، والعودة لحدود عام 1997 التي تحجم جغرافيا انتشار الناتو.
ختاما فإن الانفتاح الروسي تجاه ممثلي الإسلام في البلاد يلقي بظلاله على المشهد ككل، ويترك مجموعة تساؤلات حول وجوب استثمار هذا الصراع وفق الصورة الأمثل بعيدا عن الاصطفاف مع أي الطرفين كان.