تعلمنا في الغرب ان المعيار الأدق في تحديد المنتصر او المهزوم في الحروب، ليس “البروباغندا” الإعلامية، وانما الأرقام الاقتصادية، وبالتحديد البورصات، وأسعار الأسهم وعملات الدول المنخرطة في هذه الحروب، ومن هذا المعيار يجب النظر الى حرب أوكرانيا احدث هذه الحروب، وربما اخطرها منذ الحرب العالمية الثانية، فالأرقام لا تكذب، بينما السياسيون يحترفون الكذب والتزوير والتضليل، واللقاءات “المسرحية” مثل الأخير الذي عقده جو بايدن في احدى القواعد الامريكية في المانيا وشارك فيه 40 وزير دفاع من حلف الناتو وبعض اتباعه في العالم الثالث.
عندما تقول وكالة “بلومبورغ” الاقتصادية الامريكية العالمية ان عشرة مشترين للغاز الروسي في أوروبا فتحوا حسابات بالفعل في “غاز بروم بنك”، وسددوا ثمن وارداتهم من الغاز الروسي بـ”الروبل” فهذا يعني الرضوخ لقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أصدره في هذا المضمار كرد على العقوبات الامريكية على بلاده، مما يعني ان هذه العقوبات بدأت تترنح وتفقد الكثير من زخمها ومفعولها.
من الواضح ان الرئيس الروسي لا “يمزح” ويعني ما يقول، فلم يتردد في اصدار أوامر لشركة “غاز بروم” الحكومية بوقف صادراتها للغاز الى كل من بولندا وبلغاريا فورا لأن حكومتيها رفضتا تسديد اثمان وارداتها من الغاز الروسي بالروبل.
من يخاف من العقوبات الامريكية ومن الحرب والدعم اللامحدود بالسلاح الحديث المتطور للرئيس زيلينسكي لا يفرض شروطه بهذه القوة على الحكومات الأوروبية ويرفض اليورو والدولار، ويلزمها بالتسديد بعملته الوطنية.
هذا “انقلاب” خطير في المفاهيم السائدة منذ الحرب العالمية الثانية، التي تقول بأن الغرب بزعامة أمريكا هو الأكثر تنظيما في التخطيط للحروب، والحصارات الاقتصادية، وبما يرعب الخصوم (الصدمة والرعب) الذين يفتقرون لهذه الخاصية، واثبت مرور شهرين على الحرب الاوكرانية فشل هذه النظرية حتى الآن على الأقل بالنظر الى ما يجري حاليا من تطورات في هذه الحرب على الصعد كافة، والاقتصادي منها على وجه الخصوص.
من الواضح ان الجانب الروسي كان مستعدا لكل هذه التطورات، بما في ذلك مواجهة العقوبات الامريكية وافشالها، سواء بفرض العملة الوطنية الروسية لتسديد اثمان الصادرات من الغاز او النفط، او محاربة التضخم وابطائه، واتخاذ كل الخطوات اللازمة للحفاظ على سعر الروبل، وتحويله الى عمله دولية، وهذا ما يفسر حالة الاستقرار النسبي الذي يعيشه الاقتصاد الروسي حاليا.
الروبل ارتفع اليوم الأربعاء الى ما يعادل 71 روبلا مقابل الدولار بعد ان انخفض الى 140 روبلا مقابل الدولار في الأيام الأولى لاجتياح الدبابات الروسية للأراضي الأوكرانية في شهر شباط (فبراير) الماضي، مما يعني ان العملة الروسية عوضت جميع خسائرها، وبات الاقتصاد الروسي أكثر قوة، والفضل في ذلك يعود أيضا لارتفاع أسعار صادرات الغاز والنفط وعوائدها مما جعل الخزينة الروسية متخمة بهذه العوائد.
ايغور مورغولوف، نائب وزير الخارجية الروسي، كشف في مقابلة أجرتها معه وكالة “نوفوستي” امس ان موسكو وبكين شيدتا البنية التحتية الكاملة للانتقال الى نظام مالي جديد يقوم على العملتين الوطنيتين للبلدين (اليوان والروبل) وزيادة التجارة البينية بينهما، حيث ارتفع معدل التبادل التجاري الى حوالي 38.5 في الشهرين الاولين (يناير وفبراير) من العام الحالي.
تصريحات السيدة اورسولا فون ديرلايين رئيسة الاتحاد الأوروبي التي وصفت فيها إصرار روسيا على تسديد واردات الغاز الروسي بالروبل بأنه “ابتزاز” يعكس مستوى الألم في أوروبا وامريكا، ومطالبتها الدول الأوروبية بعدم الرضوخ لهذا الابتزاز الروسي مما يشكل انتهاكا للعقوبات الامريكية الغربية.
نسأل السيدة اورسولا هل يقبل الاتحاد الأوروبي الجنيه المصري، او الدينار الجزائري، او الدرهم المغربي، لتسديد الواردات الأوروبية، الا يصر هذا الاتحاد على اليورو والدولار، وهل لا يشكل هذا الإصرار “ابتزازا” أيضا؟
ما نريد ان نقوله ان “مملكة” الدولار وأبناء عمومته من العملات الغربية مثل اليورو والاسترليني بدأت تعاني من بوادر مرحلة التفكك والتشقق، لمصلحة العملتين الصينية (اليوان) والروسية (الروبل) اللتين كانتا محور سخرية في العالم الغربي واعلامه، ومراكز ابحاثه، وخبرائه السياسيين والاقتصاديين معا.
تقارب بعض الدول العربية مع البلدين، أي روسيا والصين، والتمرد على الهيمنة الامريكية المالية المستمرة منذ ثمانين عاما، توجه “حكيم” وحتمي، لأن المستقبل الاقتصادي العالمي، وربما العسكري أيضا، بات ينتقل، وبشكل متسارع من الغرب الى الشرق، وربما من الحكمة أيضا ان تبدأ الحكومات العربية بربط عملاتها تدريجيا بسلة عملات من بينها الروبل الروسي واليوان الصيني، والتخلي تدريجيا عن الدولار تجنبا لما يحدث حاليا من حالات افلاس فعلي لدول مثل لبنان وسريلانكا، وربما في اكثر من دولة عربية أخرى، حيث بات العجز عن تسديد أقساط الديون الظاهرة السائدة في الكثير من هذه الدول