عندما كتَبَ الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول مذكّراته، قال رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل: “إنَّ ديغول عسكري ممتاز، لكنه سياسي رديء”، فَرَدَّ ديغول بقوله الشهير: “إن السياسة قضية أكثر أهمية من أن تُترك في يد رجال السياسة فقط”.
الجنرال ديغول الذي حرّرَ فرنسا من الاحتلال الألماني في العام 1944، غاب عن السلطة في العام 1946، لتدخل فرنسا في فوضى سياسية، حتى عادَ رئيساً للوزراء في العام 1958، ثم رئيساً للجمهورية في العام 1959، وِفق شروطهِ، لتأسيس الجمهورية الخامسة في العام 1958 – التي ما زالت قائمة إلى الآن – لِيَنتقل من “الجندي العسكري” إلى “الرئيس المدني”، ويَنقُل فرنسا إلى النادي النووي.
بعد الحرب العالمية الثانية، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية أنّ مظلّتها النووية ستقوم بحماية أوروبا، ولكنْ كان السؤال الآتي يدور في ذهن ديغول: “هل أميركا مُستعِدَّة لشنّ حرب نووية مِن أجل أية أرض في أوروبا، وهي ليست أرضها؟”، وكان الجواب المنطقي على ذلك: “لا”، فقاَم عندها بإنشاء القوة النووية الفرنسية في العام 1960.
بعد بدء العملية الروسية، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي أن أوكرانيا “تُركت وحدها” لمُواجهة روسيا، وأن “الغرب يتحدث فقط عن دعمها”، ولم يسأل نفسه السؤال الذي سأله ديغول منذ حوالى 60 عاماً: هل أميركا وأوروبا مستعدتان لشنّ حرب نووية أو على الأقل التصادم مع روسيا من أجل أوكرانيا، وهي ليست أرضها؟”.
فهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سؤال ديغول، وتأكّد أنَّ أميركا وغيرها من الدول الأوروبية مستعدّة للتصادم مع روسيا من أجل أوكرانيا التي ورثت عن الاتحاد السوفياتي القدرة النووية التي جعلتها تحتلّ المرتبة الثالثة في العالم، إلا أنَّ قيادة البلاد قبلت من دون شروط عَرض الولايات المتحدة الأميركية بنزع السلاح النووي.
وعند انهيار القوة العظمى السوفياتية والانفجار الروسي من الداخل، توقّف سباق التسلّح بين الولايات المتحدة وروسيا، وموّلَ برنامج “نون – لوغار” توحيد الترسانات النووية السوفياتية ضمن الأراضي الروسية.
وقد بدأ هذا البرنامج في السنة الأخيرة من حكم الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، واكتمل في العام 1996. وبذلك، تم تجنّب بروز أوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان كقوى نووية على الفور. ومن الصعب تصوّر مصير الأمن في أوروبا في حال أصبحت هذه الدول الثلاث قوى نووية.
أعود إلى التاريخ الذي يجب أن نتعلَّم منه لنفهم الصراع الحاصل الآن، فعندما قال السفير السوفياتي في فرنسا في العام 1958 للجنرال ديغول إنَّ فرنسا مُهدَّدة بالحرب الذرية فيما يختصّ بمشكلة برلين، أجابه الرئيس الفرنسي على الفور: “إذاً، حضرة السفير، سنموت معاً”، مشيراً – بلا لَبس – إلى استعداد فرنسا للحرب ضد الاتحاد السوفياتي.
كما أنَّ الرئيس الروسي قرأ تماماً أبحاث زبيغينيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي، حين قال “إنَّ روسيا قد تصبح إمبراطورية أو ديمقراطية، لكنها لن تحقّق الأمرين في وقت واحد… فمِن دون أوكرانيا لن تصبح روسيا إمبراطورية”. أمّا الرئيس جورج بوش الابن، فينقل في مذكراته عن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك قوله: “قال لي في أحد اللقاءات: أوكرانيا جزء من روسيا”.
قرأ الرئيس الروسي بوتين كل ذلك، وفهم أنَّ أميركا أو أية دولة مِن أوروبا ليست على استعداد لشنّ أيّ مواجهة مع روسيا، وأنَّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليس مثل ديغول الذي فَهم أن أميركا لن تحارب روسيا من أجل “عيونهم”.
أميركا ستحارب روسيا، لكن حتى آخر جندي أوروبي.. والبداية أوكرانيا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.