تحولت أحداث الأزمة الأوكرانية إلى مساحة لـ”لعبة كبرى” جديدة في العلاقات الدولية، بحيث يشارك فيها كل لاعب سعياً لتحقيق مصالحه الخاصة.
إنها إحدى لحظات التاريخ التي يقف فيها العالم على رؤوس أصابعه مصعوقاً من هول الاحتمالات الماثلة أمامه. قوات الردع النووي لدولة كبرى تتأهب بعد إجرائها مناورات على أسلحة تطال أي مكانٍ في الأرض. من الجانب الآخر، تحتشد قوى الغرب جميعها، وعلى رأسها الدول النووية أيضاً، فيما يشبه هستيريا منسّقة شاملة الأبعاد ضد روسيا، حضرت فيها هواجس الماضي ورائحة الحربين وحمّى الهويات والمصائر المتصارعة، فوق الرقعة نفسها التي شهدت أقسى مشاهد القسوة البشرية.
وبين هذا وذاك، تشتعل الأزمة الأوكرانية، بكل ما تختزنه من صراعات الدول وتطلعاتها، وطموحات القادة وتصوّراتهم، بشأن ما كان وما يمكن أن يكون، وما يجوز التضحية به في سبيل عيش دورٍ تاريخي لهم، وتنمية مصالحهم الأخرى مع الدول صاحبة المشاريع الكبرى، على حساب استقرار البشر.
تحولت أحداث الأزمة الأوكرانية إلى مساحة لـ”لعبة كبرى” جديدة في العلاقات الدولية، بحيث يشارك فيها كل لاعب سعياً لتحقيق مصالحه الخاصة، ويتخذ قراراته بشأنها وفق تقدير لمواقف اللاعبين الآخرين من جهة، وللفرص والمخاطر الخاصة به من جهةٍ ثانية.
المشهد الميداني
في الميدان، أطلقت روسيا عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، بناءً على تقدير استراتيجي، يرى في أداء القيادة الحالية في كييف وفي المشروع اليميني القائم فيها خطراً داهماً يهدد أمن البلاد. لقد أضحت كييف، في منظور الكرملين، مساحة تحضير لحرب لا مفر منها على روسيا. وقوام هذا المنطق يتأسس على معطيات كثيرة، منها تنمية مجال التسلح والعسكرة في أوكرانيا، وصولاً إلى الحديث عن نية كييف امتلاك أسلحةٍ نووية، بالإضافة إلى التجهيز التقني والعسكري للدول الأطلسية عند حدود روسيا الغربية.
من مجمل هذه المعطيات، يقدّر الكرملين أن صِدام روسيا مع هذه القوات أمر قائمٌ لا محال، وأنها مسألة وقتٍ فقط قبل أن تنقضّ الولايات المتحدة على الداخل الروسي عبر “الناتو”، أو عبر انقلابٍ شبيه بانقلاب عام 2014 في أوكرانيا، ذلك بأن وجود الحلف في أوكرانيا لا يعني تطويق روسيا، بقدر ما يعني الدخول لقلب قلبها، الأمر الذي يُطلق ديناميات تغييرية غربية داخل المجتمع الروسي. باختصار، فإن بوتين يرى المسألة على النحو التالي: إمّا أن نفكك المشروع الأطلسي في أوكرانيا، وإمّا أن نواجه خطر تفكك روسيا نفسها.
ووفق هذه القاعدة، يعدّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أنه “لا يمكن لروسيا أن تشعر بالأمان والتطور والبقاء مع وجود تهديد مستمر ينبع من أراضي أوكرانيا الحديثة”. لقد بنى بوتين إعلانه العملية العسكرية في أوكرانيا على هذا التقدير الاستراتيجي الأمني، وعلى المادة الـ51 من الجزء الـ7 من ميثاق الأمم المتحدة، بالإضافة إلى معاهدات الصداقة والمساعدة المتبادلة والموقعة مع جمهوريتي دوينتسك ولوغانسك بعد الاعتراف بهما.
وفي الوقت نفسه، فإن موسكو تبدو مدركةً للشرك المنصوب في أوكرانيا. هو في الأساس ليس فخاً خفياً، فكل الإعلام العالمي يتحدث عن مستنقع أوكراني ينتظر الجيش الروسي. لكن موسكو أطلقت عمليتها تحت عنوان عدم التحول إلى قوة احتلال، يمكن فيما لو حدث وثبتت مواقع في الأراضي الأوكرانية أن تنقلب جهودها وتزيد أكلاف تلك الجهود بصورةٍ مطّردة مع زيادتها، الأمر الذي يُنتج استنزافاً يومياً في المستويات العسكرية والاقتصادية والسياسية. وهذا ما خبره الاتحاد السوفياتي قبلاً في أفغانستان.
وبدلاً من ذلك، فإن القوات الروسية استعاضت عن اجتياحٍ شاملٍ عالي التكلفة، بنَظم هلالٍ حول النصف الشرقي من الخريطة الأوكرانية، تكون جمهوريتا دوينتسك ولوغانسك الشعبيتان عمقه، بينما تمتد أطرافه من ساحل أوديسا في الجنوب، حتى خاركيف وكييف وزيتومير في الشمال. وقيمة هذا الهلال تكمن في احتوائه المدن الرئيسة في أوكرانيا، وخصوصاً أوديسا وخيرسون وماريوبول في الجنوب، والمدينتين الكبريين كييف وخاركيف في الشمال، مع شمول القصف المركّز المدن الباقية، وأهمها لفيف في أقصى الغرب.
وفي حين سيطرت القوات الروسية وحلفاؤها على مناطق شديدة الأهمية في البر الأوكراني، وحاصرت كييف وخاركيف، فإن المعطى الميداني الأكثر إلحاحاً، بالنسبة إلى الروس، كان تسريع السيطرة على سواحل البحرين الأسود وآزوف، في صورةٍ تجعل أوكرانيا دولةً حبيسة منقطعة عن المسطّحات المائية التي تتفاعل من خلالها مع العالم. لكن الأكثر دلالةً في ذلك، سيكون اختلاف القيمة الجيوسياسية لأوكرانيا الحبيسة، والتي قد تخلص الأحداث الحالية إلى تشكّلها، فيما لو توقفت العملية عند حدود ما قبل إسقاط كييف.
وربما تكون هذه النقطة تحديداً هي التي رُسمت على أساسها خطة العملية الخاصة على شكل الهلال. وبها، تحققت منذ اللحظة الأولى نتائج استراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة إلى بوتين. لقد تمت السيطرة على بحر آزوف بصورةٍ تامة، ليتحول إلى بحيرة روسية خالصة، على الرغم من بقاء القوات الأوكرانية منتشرة في مدن ساحلية تطل عليه، لكنها محاصَرةٌ من البحر والبر عبر الأسطول الروسي ومقاتلي الجمهوريتين. وفي البحر الأسود، فإن السيطرة الروسية على شواطئه الشمالية تحولت، في الساعات الأولى للعملية، إلى سيطرة متينة، مع محاصرة أسطول البحر الأسود الروسية سواحلَ أوديسا. إنها وضعية ملائمة لفرض خلاصات الحروب على طاولة المفاوضات.
مستويات الصراع: البُعد الداخلي
ينقسم الصراع القائم في أوكرانيا إلى مستويات تتدرّج من الشأن الداخلي الأوكراني أولاً، لتصل إلى بُعدها الدولي، إلى التأثير في العلاقات الدولية وطبيعة النظام الدولي. في البُعد الداخلي، يدور الصراع الآن حول خيارات نظام الحكم في أوكرانيا. وعلى عكس ما تشير إليه أغلبية التحليلات لمطالب الرئيس الروسي من كييف، فإن إرادة الكرملين تبدو منصبّةً على تغيير السلوك وانتزاع الضمانات الأمنية الاستراتيجية، أكثر من اهتمامها بأشخاص الحكم في العاصمة الأوكرانية. يريد الروس تغيير قيمة أوكرانيا الجيوسياسية في الفضاء الحيوي الغربي لروسيا. كيف يتم ذلك؟
ثلاثة عناوين: توقيع كييف على معاهدة تتضمن ضماناتٍ أمنية تتعهّد فيها عدمَ الانضمام إلى أحلاف معادية لروسيا، وتحديد سقف تسلّح لأوكرانيا يمنع فيه التسلّح النووي وأنواع محددة أخرى من التسلّح الاستراتيجي الثقيل، وتراجع أوكراني عن سياسات التصنيف ومحاصَرة الأوكرانيين – الروس، الذين عانوا طوال الأعوام الثمانية الماضية من نهج النخبة الحاكمة في كييف.
مستوى الدولتين
أمّا المستوى الآخر للأزمة، فهو الحرب بين دولتين جارتين، هما في الواقع امتداد تاريخي لوجودٍ أنثروبولوجي واحد، وتاريخ واحد، حضارياً ولغوياً وثقافياً، بوحدتين سياسيتين مستقلتين، بحيث يعود الفضل في هذه الاستقلالية لأوكرانيا عن روسيا إلى لينين، والتي وصف بوتين، في خطاب إعلان الاعتراف بالجمهوريتين، أوكرانيا بأنها “جمهورية فلاديمير إيليتش لينين”. ببساطة، أوكرانيا هبة لينين، أو على الأقل هذا ما يراه سيد موسكو الآن، بل هو ما يتصرف على أساسه.
وعلى هذا المستوى أيضاً، تمثّل أوكرانيا روسيا الغربية، ووجه روسيا العالمية على “قلب العالم”، المنطقة الممتدة في أوروبا الشرقية، والتي وضعها الاستراتيجي البريطاني هالفورد جون ماكيندر في نظريته الجيوبوليتيكية في مطلع القرن العشرين على أنها مركز الثقل الاستراتيجي، الذي يتيح لمن يسيطر عليه السيطرة على النظام العالمي.
من الناحية الروسية، فإن النخبة الحاكمة في أوكرانيا وصلت إلى السلطة عن طريق انقلاب مدعوم أميركياً، وهي منذ عام 2014 قامت بارتكاب مجازر وحملات اضطهادٍ وممارساتٍ وحشية بحق الأوكرانيين -الروس، وأقفلت وسائل إعلامهم، واضطهدت نوابهم، ومنعتهم من تعليم أبنائهم اللغة الروسية، وخيّرتهم بين جوازي السفر الأوكراني والروسي، وطاردت الناشطين منهم، وصولاً إلى تحول هذه الممارسات إلى سياقٍ تطهيري لهم من المؤسسات الرسمية. ووفق الرؤية الروسية، فإن نهجاً قيادياً، ينتمي إلى اليمين القومي في أوكرانيا، سلّم السلطة ومفاصل الحكم إلى الأميركيين، بحيث يشرف هؤلاء على عملية تطهير الروس من أوكرانيا، وتحويلها إلى قاعدة للحرب الأميركية المقبلة على روسيا، تحت علم “الناتو”.
أمّا من الناحية الأوكرانية، وتحديداً فريق الرئيس فولوديمير زيلينسكي، فإن العملية تمثل محاولةً روسية لمنع دولة مستقلة من اتخاذ خياراتها السيادية، والتي تتلحّص في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي، والاندماج في المؤسسات الأوروبية والغربية الأخرى، على جري عادة دول الاتحاد السوفياتي السابق، التي هضمها الغرب خلال العقود الثلاثة الماضية. وينظر الأميركيون والأوروبيون إلى العملية العسكرية الروسية على أنها تندرج ضمن سياسة “ماسكيروفسكا”، يمارس من خلالها بوتين عملية تمويه سياسي من أجل الانقضاض على دولةٍ حليفة للغرب.
لكنّ تقديراً محايداً لموقف الدولتين في الصراع لا بدّ من أن يشمل مجموعةً من المعطيات. فمن ناحية، تُعَدّ العملية الروسية، للوهلة الأولى فقط، ضربةً استباقية شبيهة بالنسق الأميركي للحروب الاستباقية التي لطالما اعترضت عليها الدول التي تعرضت للغزو، على أساس أنها محاكمةٌ على أساس النيّات والمعلومات الاستخبارية، والتي وصلت، في الحالة العراقية، إلى فضيحة كولن باول وتوني بلير، والتي تأسَّس عليها احتلال العراق وتدميره. لكن، بعد الوهلة الأولى، تأتي ضرورة التمحيص واسترجاع السياقات والأحداث، وصولاً إلى جذور الحدث الراهن.
من ناحيةٍ ثانية، وفي المقلب الآخر لإدانة الحرب الاستباقية، تظهر ثلاثة عقود من التوسع غير المبرَّر لحلف شمال الأطلسي حول روسيا، وصولاً إلى حدودها، وتغيير العقيدة العسكرية للناتو لتشمل مهمات جديدة من خارج ميثاقه التأسيسي، مع عدم حذف استهداف روسيا من العقيدة العسكرية للحلف، الذي استمر أكثرَ من ثلاثين عاماً بعد انهيار حلف وارسو.
مستوى الأمن الأوروبي والفضاء الأطلسي
تتعزّز أهمية هذا السياق من خلال استرجاع الوعود الأطلسية للروس في بداية التسعينيات من القرن الماضي، حين انطلقت أولى دفعات ضم الدول الشرقية إلى الحلف، وتأكيد قادة الناتو أنه لن يتم تطويق روسيا. بعد ذلك، جسّت روسيا نبض الغرب بشأن إمكان انضمامها هي نفسها، ثم شاركت في برنامج “الشراكة من أجل السلام”، وتم تجاهلها بعد ذلك، من دون أن يتم تجاهل الدول الشرقية الأخرى التي ضُمت على أربع دفعات.
يقال إنه عندما تتكرر الذاكرة، فإنها تعبّر عن قانون. الآن، تعيد الأزمة الأوكرانية إلى الأوروبيين ذاكرة الحرب وصورها، ورائحة البارود، ووجود المهاجرين الهائمين في الغابات الباردة، سعياً وراء الأمن المفقود. لكن هذه الأجواء العائدة، لم تكن وليدة العمليات العسكرية وحدها. لقد خيضت منذ أشهر أشرسُ حربٍ إعلامية أُعلنت خلالها الحربُ مراتٍ متعدّدة، وضُربت لها مواعيد قبل الطلقة الأولى.
ومع مشاركة آلة الإعلام العالمية الغربية، ومعها فروعها وتلامذتها من وسائل الإعلام الإقليمية، في كل مكان حول العالم، كانت “الروسوفوبيا” تنضح من الشاشات والمذاييع وفي الصحفات. وفي سبيل ذلك، شُنَّت هستيريا من العقوبات الغربية ليس على موسكو فحسب، بل على كل ما هو روسي.
ومع اهتزاز الاستقرار الأوروبي على وقع انفجار أوكرانيا، وجدت دول أوروبا الغربية نفسها في حاجةٍ إلى الحماية مرة جديدة من بلاد ما بعد المحيط. ومرةً جديدةً أيضاً، سوف يكون لهذه الحاجة ثمنٌ كبير.
مستوى النظام الدولي
على الرغم من أن جذور الأزمة الأوكرانية تقتصر على الفضاء الروسي الممتد نحو أوروبا، وتطال في أقصى مدى مباشر لها أمن أوروبا فقط، فإن الصراع القائم في الأعوام الأخيرة يربطها بتفاعلات العالم الجديد، والصراع على النفوذ والسيطرة في النظام الدولي.
لقد تحولت الأزمة الأوكرانية سريعاً إلى إحدى الأزمات الدولية الأكثر دلالة على توازنات القوة في النظام الدولي، ذلك بأن القوى المتصارعة فيها تشمل قوتين عُظميين على الأقل، مع ترجيح انضمام قوى أخرى إلى الصراع، مع امتداده زمنياً.
إن تفاعلات الأزمة تشير إلى ملامح عالم مغاير يتم رسمه من خلال خرائط الجغرافيا السياسية التي ستنتج بعد انقشاع البارود. والقضية اليوم، في هذا السياق، لا تتحدد فيمن يمتلك الحق في ماذا، بل فيمن هو قادرٌ على فعل ماذا.
ومن تفرُّعات الصراع على النظام الدولي، ما يرتبط بالصراع القائم على النظام الاقتصادي الدولي، ومتفرعاته المالية والنقدية. لقد رُمي بوتين في قلب الموقف الحرج عبر تسريع دينامية انضمام أوكرانيا إلى “الناتو”، لكنه هو من قرَّر المبادرة في قلب الموقف، وتوجيه الضربة الأولى.
وتشير تفاعلات الأحداث، وتَرَوّي القوى الكبرى الأخرى، كالصين والقوى الصاعدة، في تحديد موقفٍ حاسمٍ من المواجهة، إلى أن أحداً لم يتوقع حسم بوتين قراره بهذه السرعة وهذه الطريقة، الأمر الذي استدعى حفلة جنونٍ إعلامية، استُكملت بعقوباتٍ شاملة طالت، فيما طالته، الحيوانات الروسية المشاركة في المسابقات الدولية!
لكن العقوبات على هذا المستوى قد تؤدي إلى عكس النتائج المرادة منها. فما الذي يمكن فرضه بعد استنفادها، وبمَ يمكن مواجهة خطوات روسية أكثر تصعيداً فيما لو طالت الأزمة؟ وماذا يعني فقدان القوى الغربية كل وسائلها العقابية على الخطوات الروسية التالية؟
في نهاية الأزمة، ستُضاف معطيات جديدة إلى التراكمات السابقة التي يتشكل من خلالها نظامٌ دولي جديد. إن مجرد تحدّي روسيا للعالم الغربي مجتمعاً بهذه الصورة، وعجزه عن فرض خياراته في أوكرانيا، فيما لو حدث ذلك، سيكونان تحولاً بارزاً في تفاعلات النظام الدولي، والممكنات والمستحيلات في إطاره. وسيكون لذلك التحول أنصاره، والمستفيدون منه، والذين سيستغلون مساحات المناورة الوليدة جراء الأزمة من أجل تحسين شروطهم أمام قوى النظام القديم، والذين سيمتلكون مزيداً من الثقة بالشبك مع القوى الصاعدة، والقوى العظمى الجديدة.
حقائق الجيوبوليتيك في مواجهة اليوغا السياسية
كشفت الأزمة، فيما كشفته، مجموعة حقائق فائقة الأهمية:
أولاً: عنصرية الديموقراطيات الغربية. فإلى جانب تعميم العقوبات على المواطنين الروس، تبعاً لجنسياتهم فقط، من دون ارتكابهم، كأفراد، أي ذنب، باستثناء حملهم جنسية بلدهم، جاهَرَ الإعلام الغربي في التعبير عن صدمته من إمكان لجوء مواطنين بيض وزرق العيون و”يشبهوننا”.
ثانياً: شهدت الأزمة مفارقات متعددة على مستوى الرؤية الاستراتيجية لدى كل من روسيا، القوى المساندة لأوكرانيا. فعلى الضفة الروسية، ارتكزت خطوة بوتين في أوكرانيا على حقائق الجيوبوليتيك التقليدية. وقوامها معرفة التاريخ والجغرافيا والتصرف على أساسهما، واتخاذ الخطوات المادية الملموسة من أجل تحقيق السطوة والسيطرة على رقعة اللعب الحقيقية. وهذا ما قاد قوات المظليين والنخبة الروسية، “سبيتسناز”، والنخبة الشيشانية بقيادة حسين مجيدوف، إلى المدن الأوكرانية، وحول الشواطئ وعلى ضفاف نهر الدنيبر، لتشكيل الهلال الاستراتيجي الذي أصبح واقعاً، ولا يمكن تجاوزه على طاولة المفاوضات.
ثالثاً: فوارق هائلة بين روسيا ومجتمعات أوروبا الغربية لناحية الاستعداد للحرب. فعلى الجانب الروسي، بقي المجتمع حاضراً في بيئة الانتصار في الحرب الوطنية العظمى، وساهم حكم بوتين في ترسيخ الفخر الوطني بهذا الانتصار، والتأسيس عليه من أجل عودة روسيا قوةً عظمى عالمية. وفي هذا السياق، استخدم بوتين “الإهانات” و”السخرية” و”التنمر” و”الروسوفوبيا”، في سبيل تعزيز الروح الوطنية لدى شعبه وجنوده، كما تم ترسيخ ذلك في النظام التعليمي الروسي، من المراحل الدُّنيا حتى التعليم العالي. واستخدم الرئيس الروسي العبارات المذكورة (إهانة روسيا، السخرية من الروس في أوكرانيا، التنمّر على سكان القرم…) خلال خطابي الاعتراف بالجمهوريتين، وإعلان العملية العسكرية في أوكرانيا.
رابعاً: أعاد بوتين الاعتبار إلى مجمع التصنيع العسكري منذ عام 2003، وخصص من أجله ميزانيات ضخمة، بحيث شهد منذ ذلك الحين تطوراً واضحاً أدى إلى تفوُّق روسي في مجال الصواريخ الباليستية والصواريخ الاستراتيجية، وفي مستوى الترسانة النووية. وما الصواريخ العابرة للقارات، والقادرة على حمل الرؤوس النووية وعلى التمويه وإصابة كل نقطة في الكوكب، سوى بعض ما تمتلكه روسيا اليوم.
راهن بوتين على إنتاج ترسانة صاروخية مرعبة في تأسيس القوة العظمى العائدة على قاعدة صلبة، من خلال تمكين البلاد من أسلحة لا يمكن قهرها، للدفاع عن أمنها القومي من ناحية، وللاستناد إليها من أجل منع تهديدها وإرغامها على خيارات سياسية لا تريدها، من ناحيةٍ ثانية.
ومن هذه الصواريخ الهائلة القدرة التدميرية: توبول أم، توبول أم 12، فويابودا، روبيج، يارس، وسارمات… وغيرها، فضلاً عن صواريخ متوسطة وقصيرة المدى، لكنها شديدة الفعّالية والدقة، مثل كينجال وإسكندر أم، وكاليبر…
خامساً: في مواجهة هذه الروحية الروسية، تعيش مجتمعات أوروبا الغربية حالة الرفاه الاجتماعي. وهي، خلال العقود الماضية، وقعت تحت سطوة الإدارة الاستراتيجية الأميركية بصورةٍ متدرجة. وكما يتسلل النعاس إلى المحاربين القدامى التَّعِبِين من الحروب، تسللت نخب الأحزاب البيئية وساسة منظمات المجتمع المدني وشخصيات اليوغا السياسية إلى قمة الحياة السياسية في أوروبا الغربية، بينما خفّضت هذه النخب الميزانيات الدفاعية، وركّزت على السياسات العصرية، في مقابل تجاهل حقائق الجيوبوليتيك، وحقائق نظريات الأمن القومي. وللتدقيق في الأمر، فإن هذه النخب لم تتجاهل أمنها القومي تماماً، بل إنها لزّمته للقوة الكبرى الحامية للحضارة الغربية؛ الولايات المتحدة الأميركية. لكنها، للإنصاف، عادت لتبحث عن مقدار أكبر من الاستقلالية الأوروبية في السنوات الأخيرة، ولاسيما من خلال حزبي ماكرون في فرنسا، والحزب الاشتراكي في ألمانيا.
وللدلالة على ذلك، يمكن استرجاع الحرب على أفغانستان، كنموذجٍ أوحد عن حرب يخوضها الناتو خلال العقدين الأخيرين، بحيث تم تجميع عديد القوات المشاركة بصعوبة بالغة، وكانت القوات الرئيسة أميركية في الدرجة الأولى، ثم بريطانية، بينما لم تتمكن دول أطلسية من تأمين أكثر من عشرات الأفراد. هذا النموذج يعزّز قول بوتين، خلال خطاب إعلان العملية الخاصة في أوكرانيا، إن الناتو “مجرد أداة للولايات المتحدة الأميركية”. إنه صراع بين المصائر ونظريات الأمن القومي المتقابلة، بحيث قد يؤدي نجاح بوتين في أوكرانيا إلى تحطيم نظرية الاحتواء الأميركية في شرقي أوروبا.
مكاسب استراتيجية
في حسابات الربح والخسارة، يمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية وروسيا تحققان مكاسب من الأزمة الأوكرانية. وخلفهما تسعى دول العالم، كل واحدةٍ بمقدار، لتحقيق مكاسب خاصة بها من تفاعلات الأزمة الحالية، بينما تقف كل من أوكرانيا وأوروبا الغربية في موقع الخسارة، التي قد تصل، في سيناريوات قاتمة، إلى تفكيك الدول واختفائها. واختفاء الدول في أوروبا ليس حدثاً غريباً عن تاريخها.
لقد أحدثت حرب أوكرانيا ردود أفعال ومواقف على مستوى العالم، لكنها لم تؤدِّ حتى اللحظة إلى تشكيل عالمين كبيرين. ربما لا تزال الأزمة في مقدماتها. وفي حين تبحث كل دولة عن مصالحها، في لحظة دقيقة وحرجة، فإن النتائج المباشرة صنّفت الرابحين والخاسرين.
وتتلخّص مكاسب الولايات المتحدة فيما يلي:
1- مع انطلاق الطلقة الأولى، تم تعطيل خط الغاز الروسي “نورد ستريم 2” إلى ألمانيا، وهو كان هدفاً رئيساً لها في سياق سعيها الواضح لإشعال أزمة أوكرانيا في الأشهر القليلة الماضية.
2- تم تدمير مسارٍ، تنامى طوال أعوام، من التعاون الألماني – الروسي بناه بوتين وميركل. فـ”نورد ستريم 2″ لم يكن مجرد خط طاقة، بل يمكن وصفه بالمسار الذي شُبكت بشأنه مصالح اقتصادية وعلاقات سياسية كانت تتنامى لتجمع أكبر قوتين في أوروبا. فاجتماع ألمانيا وروسيا، في سياق استراتيجي تحالفي واحد، سوف يعني إضعاف الهيمنة الأميركية على أوروبا، وتلاشيها في مرحلةٍ لاحقة.
3- استعادت واشنطن وحدة الموقف الأطلسي، ومتانة “الناتو”، بعد أشهر قليلة من اهتزازه، بعد إفشالها صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا، وتشكيل تحالف “أوكوس” مع الأخيرة وبريطانيا. وفي هذا السياق، لا يمكن نسيان تصريحات قادة فرنسا وألمانيا بشأن “الموت السريري للناتو (ماكرون)”، وضرورة تشكيل الجيش الأوروبي، وتحقيق مزيد من الاستقلال السياسي لأوروبا.
4- حققت واشنطن هدفاً آخر تمثّل بإحراج روسيا والحصول على حجج قوية من أجل فرض عقوباتٍ قاسية، تعتقد أنها سوف تؤدي إلى إضعاف موسكو، وبوتين شخصياً.
أمّا روسيا، فإن أبرز مكاسبها المنتظَرة يتلخّص في التالي:
1- تعطيل انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي إلى أَجَل غير محدد.
2- حماية الأمن القومي الروسي عند الواجهة الغربية، ومنع تحول أوكرانيا إلى قاعدة أطلسية، مع ما يمكن أن تحويه من وسائل عسكرية خطرة على الأمن الروسي.
3- توجيه رسالة شديدة القوة إلى القوى الأوروبية (شرقي أوروبا وغربيها)، مفادها عدم سهولة الإضرار بالمصالح الاستراتيجية الروسية.
4- تعزيز مكانة روسيا في سوق الطاقة مع عدم ظهور بدائل كافية عن الغاز الروسي، وتوقع ارتفاع أسعاره في حال طالت الأزمة.
5- إثبات موقعها قوةً عظمى كاملة المواصفات، وقادرة على تحدي إرادة أوركيسترا عالمية واسعة وإجراءاتها.
6- رسالة قوية إلى الحلفاء والخصوم، مفادها أن روسيا تقف مع حلفائها وتدافع عنهم، في مواجهة الولايات المتحدة التي أصبح التخلي عن حلفائها يمثل إحدى سمات سياستها.
7- تمتين الوحدة الداخلية، وتعزيز استقرار نظام الحكم، ومحاكاة المشاعر الوطنية والإحساس الروسي بالفخر الوطني.
8- تعزيز مكانة روسيا في أوساط القوى الصاعدة كحليف يمكن الاعتماد عليه استراتيجياً، وكقوة قادرة على تنفيذ رؤاها، ورسم الخطوط الحمر بشأن مصالحها وموجبات أمنها القومي. إنها قوة تستحق أن تؤخَذ على محمل الجدية، لا تؤمن بالنظام العالمي الأحادي، ومستعدة لاختبار انهيار الأحادية بالنار. بالنسبة إلى موسكو، إنها لحظة ترجمة خطاب بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007.
كفّة الخاسرين
في مقابل الرابحين، تبدو أوكرانيا أول الخاسرين وأبرزهم، جرّاء اشتعال الحرب. وبعدها تأتي دول أوروبا الغربية. فبعد الطلقة الأولى، وجد زيلينسكي نفسه وحيداً في الميدان. لقد اكتشف الرئيس الأوكراني الشابّ أن الغرب غير مستعد لإرسال الجنود إلى أوكرانيا، وأن الدعم، لوجستياً وإعلامياً وسياسياً، هو أقصى ما يمكن تقديمه إليه. وهذا، على أهميته، لا ينفع في حال تسارعت الأحداث الميدانية، وتمكّن الروس من إسقاط العاصمة كييف والنظام الحاكم فيها.
في كييف، تُخاض معركة النخبة الأوكرانية من أجل الثبات في موقعها اعتماداً على الدعم الغربي، في مواجهة رغبة روسية جامحة في حسم الأمور، من دون وجود خيار آخر لموسكو. فمهما يكن من أمر يتعلق بالتطورات الميدانية، لا يمكن لبوتين التراجع من دون تطويع خيارات كييف.
وفي موسكو، تنظر ماكينة التفكير الاستراتيجي إلى النخبة الأوكرانية الحاكمة على أنها أداة غربية فقط، لعبت بكيمياء التاريخ، وتجاهلت قوانين الجغرافيا السياسية، واختزلت الروابط العميقة بين الشعبين، وتجاوزت ذلك إلى إدارة سياسة أمنية تستهدف وجود روسيا وطموحاتها وفرصها في العودة كقطب في العلاقات الدولية. وإن هذه النخبة صدّقت وعوداً غربية مجرّبة في عشرات النماذج منذ الحرب العالمية الثانية، بحيث استُخدمت الدول درعاً ورأسَ جسر للمصالح الاستراتيجية الأميركية.
ووفق هذه الرؤية، لم يكن صُنّاع القرار في كييف على قدر المرحلة والتحديات. وشخصية زيلينسكي ومداركه لا تكفي لإدارة لعبة بهذا الحجم. إنه – بالنسبة إلى موسكو – ممثلٌ يؤدي أحد أدواره، كرئيس لأوكرانيا.
أمّا دول أوروبا الغربية، فلا بد من تفصيل مواقفها من الأزمة الأوكرانية بدقّة. لقد وُضعت هذه الدول في موقف دقيق ومساحة مناورة ضيقة، بحيث إنها تبدو مفرطة في الاعتماد على الأميركيين، أمنياً وعسكرياً، في مقابل إفراط معاكس في الاتجاه، يتلخص في اعتمادها على الغاز الروسي. وبين إفراطين، لهما هذا المستوى من الأهمية، لا تريد هذه الدول التفريط فيما راكمته من رغبة وطموح إلى استعادة الخصوصية الأوروبية واستقلالية السياسة الخارجية، ومن تراكُم لخطواتٍ عملية في هذا الاتجاه، شبكت القوى الأوروبية خلالها مصالح كبرى مع روسيا والصين ومع القوى الصاعدة.
لذلك، فإن هول عودة الدخان والبارود إلى أجواء أوروبا لم يمنع هذه الدول من تحييد قطاع الغاز الروسي عن عقوباتها على موسكو. لقد ساقت هذه الدول عقوباتٍ متنوعة، بعضها يثير الاستغراب، لكن هذه العقوبات لم تُصِب الشرايين الأكثر أهمية للاقتصاد الروسي، الأمر الذي يمكن تفسيره على أنه محاولة للمزاوجة بين ضرورتين:
1- التعبير عن موقعها، كدول أعضاء في “الناتو”، وإظهار الوحدة الأطلسية في توجيه رسالة حادة إلى روسيا من أجل إرغامها على التراجع.
2- ترك الباب موارباً من أجل استعادة العلاقات بموسكو بعد تحقيق حلٍّ سياسي للأزمة الأوكرانية.
لكنْ في المحصّلة، فإن دول أوروبا الغربية، وتحديداً ألمانيا وفرنسا، هي القوى الأكثر تضرراً من انفجار الأزمة الأوكرانية، ذلك بأن السياق السابق للأزمة كان يتضمن مصالح مفيدة لها مع الروس من ناحية، بينما ستشهد درجة الهيمنة الأميركية على أوروبا الغرببة، من ناحيةٍ ثانية، ارتفاعاً نسبياً.
لكن، في هذا السياق أيضاً، لا يمكن إغفال مصلحةٍ ألمانية جزئية حملتها الأيام الأولى من الأزمة والإجراءات الغربية الشاملة ضد روسيا، وهي تتمثل بكسر برلين بعض الحواجز التاريخية لمستوى تسلّحها، والسماح لها بإضافة نحو 115 مليار يورو إلى ميزانيتها الدفاعية، الأمر الذي يعزز انطلاقة أولاف شولتس على رأس ألمانيا، على الرغم من خسارته فوائد “نورد ستريم 2″، الذي أعلنت الشركة المشغلة له إفلاسَها وتسريح 106 موظفين كانوا يعملون فيها.
نظرية اللعبة في أوكرانيا
إن تفاعلات الأزمة الأوكرانية المتسارعة، وتشعُّب تأثيراتها، وتعدُّد اللاعبين فيها، تجعلها أكثر تعقيداً، وأكثر تمنّعاً على الحل. لكنْ، يمكن، في هذا السياق، الاستفادة من “نظرية اللعبة” في العلاقات الدولية من أجل تفسير تلك التفاعلات، ومحاولة تطوير سيناريو منطقي لنهايتها، يكون مقبولاً من الأطراف الأساسيين والفاعلين في رسم خواتيمها.
تأسَّست هذه النظرية من خلال مساهمات مجموعة من العلماء في النصف الأول من القرن العشرين، لكن مساهمة عالم الرياضيات، جون ناش، كانت مفصلية في انتقال النظرية إلى ميدانَي الاقتصاد والعلاقات الدولية، فيما بعدُ.
وهي تتضمَّن تحليلاً رياضياً لتضارب المصالح “من أجل الوصول إلى أفضل الخيارات الممكنة، لاتخاذ قرارات تحصل على النتيجة المرغوبة في ظل الظروف المعطاة”.
وطُبِّقت سابقاً في اللعبة الكبرى في أفغانستان، وفي أزمات أخرى، وهي تقوم على افتراض مفاده أن قرارات كل لاعب في الأزمة تعتمد على قرارات اللاعبين الآخرين. وبالتالي، فإن هؤلاء اللاعبين يتبادلون التأثر والتأثير في قرارات بعضهم البعض، في سبيل تحقيق مصالحهم الخاصة. وتقسّم النظرية القرارات إلى نوعين من الألعاب، هما:
1- ألعابٌ تنافسية، بحيث يسعى كل طرفٍ لتحقيق مصالحه الخاصة.
2- ألعابٌ تعاونية، بحيث تتشكل فرص وأحلاف تحقّق مصالح مشتركة.
في حالة الألعاب التنافسية، يستخدم اللاعب قدراته الإدراكية والذهنية في تحديد القرارات التي تحقق مصالحه، وفي اختيارها. ويحدد نقطة التوازن لمصالحه، وهي تسمى “توازن ناش”، بحيث يؤدي تحقيق هذه النقطة إلى تحقُّق مقدارٍ مقبول من المصلحة الخاصة به.
أمّا في حالة الألعاب التعاونية، فإن اللاعبين المتعاونين يسعون لتحقيق “قيمة شابلي” (Shapely Value). أمّا القيمة الأساس في هذه الحالة فهي تحقيق الموقف العادل بدلاً من الخيار المصلحي الأكثر ذكاءً.
أما “قيمة شابلي”، فهي نقطة المصلحة المشتركة التي تعطي كل لاعبٍ قدراً من المصلحة أكثر مما كان سيحصل عليه لو عمل بصورةٍ مستقلة. وبالتالي، فإنها النقطة التي تمثّل الحافز للعب الجماعي، بحيث تخفض أكلاف اللاعبين وتزيد في أرباحهم. إنها ليست الحالة المثلى لمصلحة جميع الأطراف بصورةٍ متساوية، لكنها النقطة التي تحقق الموقف العادل.
وبتطبيق هذه النظرية على الأزمة الأوكرانية، فإن من الممكن أن ترتسم معالم سيناريو للحل السياسي الذي يوزع الأكلاف، ويعطي الأطراف المتصارعة نقاط توازن مقبولة، تساهم في وقف النار، وتأسيس استقرارٍ مستدام في المنطقة. إن اللعبة الأوكرانية الحالية تمثّل نموذجاً عن ألعاب متباينة، تعاونية وتنافسية. ويمكن، في كلٍّ من الحالتين، تحقيق حل سياسي قابل للحياة.
في حالة الألعاب التنافسية، ووفق “توازن ناش”، الذي يمثّل أفضل سيناريو لها، تريد أوكرانيا خروج القوات الروسية من البلاد، وعودة الوضع إلى طبيعته قبل العملية العسكرية، وتشديد العقوبات الغربية على روسيا، ومتابعة مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وتطوير اندماجها في المنظومة الغربية.
أمّا روسيا، فإن نقطة التوازن نفسها بالنسبة إليها تتمثّل بتحقيق الضمانات الأمنية والشروط التي وضعتها في بداية العملية العسكرية، على نحو يشمل منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو، وتثبيت الاعتراف بالجمهوريتين في الدونباس، وإعطاء الروس -الأوكرانيين حقوقهم السياسية والثقافية كافةً، ونزع السلاح الثقيل من أوكرانيا، وتحديد مستوى التسلح المستقبلي لها، ومنعها من إنتاج سلاح نووي.
أمّا الولايات المتحدة الأميركية، فإن نقطة التوازن المثلى بالنسبة إليها تتحدّد في استكمال العقوبات القاسية على روسيا، وإخراجها من أوكرانيا، بالإضافة إلى إبقاء أوكرانيا مرشحاً عطشاً إلى الانضمام إلى “الناتو” وإلى الاتحاد الأوروبي، مع إطالة مدة البتّ في عضوية هذا المرشح، سعياً لإبقاء الساحة الأوكرانية مساحةً للضغط على روسيا من ناحية، وانتظام الأوروبيين خلف قيادة أميركا للمنظومة الغربية من ناحية ثانية، تأسيساً على خوفهم المتنامي من روسيا، بفعل الأزمة وما رافقها من حملات إعلامية ودعائية.
وبالنسبة إلى دول أوروبا الغربية، فإن نقطة التوازن المنطقية الفضلى ستكون تراجع روسيا من أوكرانيا، واستعادة المسار السياسي، واستكمال البحث في مسائل عضوية أوكرانيا في “الناتو” والاتحاد الأوروبي (توجد مواقف أوروبية معارضة لضم دول جديدة إلى المنظمتين)، وبدء خفض العقوبات على روسيا من أجل استكمال مسار المصالح المشتركة معها، وخصوصاً فيما يتعلق بالغاز الطبيعي.
إن التحدي الكبير يتمثّل بانتقال تطبيقات نظرية اللعبة في الأزمة الأوكرانية، من ألعاب تنافسية إلى ألعاب تعاونية بين اللاعبين. وفي حالة الألعاب التعاونية، فإن السيناريو العادل، والذي يمكن التوافق بشأنه، بالنظر إلى الاحتمالات القائمة اليوم، والخيارات التي أصبحت أمراً واقعاً ولا يمكن التراجع عنه، على نحو يشمل “قيمة شابلي” بالنسبة إلى جميع اللاعبين، يتلخّص في التوافق على النقاط التالية:
– صرف النظر عن ضم أوكرانيا إلى الناتو.
– قبول جميع الأطراف انضمامَ أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتسريع مسار طلبها عضويته، والذي عادةً يحتاج إلى وقتٍ طويل.
– قبول أوكرانيا في المنظومة الاقتصادية والحقوقية الغربية.
– سحب القوات الروسية من أوكرانيا، في مقابل اعترافها بوضع خاص لجمهوريتي الدونباس.
– اعتراف كييف بالحقوق الثقافية والسياسية للمواطنين الروس – الأوكرانيّين داخل أوكرانيا.
– توافق الأطراف كافةً على منع أوكرانيا من تطوير أسلحة نووية.
– تحديد مستوى تسلُّح أوكرانيا على نحو يضمن عدم تشكيلها خطراً على الأمن القومي الروسي.
– استعادة مسار البحث في مسائل الأمن الأوروبي من خلال مجلس روسيا – الناتو.
– وقف توسُّع الناتو لضمّ دول جديدة في محيط روسيا، على نحو يُلغي مفاعيل نظرية الاحتواء الأميركية في محيط روسيا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.