تحبس الدول الأوروبيّة أنفاسها هذه الأيّام توقّعًا لغزو القوّات الروسيّة لشرق أوكرانيا، وانعكست حالة القلق هذه على اجتِماعات مجموعة السّبع التي استَضافتها بريطانيا يوم أمس في مدينة ليفربول.
اللقاء الافتراضي الذي تم عبر شاشات التلفزة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن يوم الثلاثاء الماضي لبحث الأزمة الأوكرانيّة لم يتمخّض عن أيّ اتّفاق، أو تهدئة، وإنّما تهديدات من قبل الرئيس يايدن بفرض عُقوبات اقتصاديّة “غير مسبوقة” على روسيا مِثل إخراجها من نظام “سويفت” المالي، وتجميد خط أنابيب غاز “نورد ستريم” إلى أوروبا عبر الأراضي الأوكرانيّة.
الجانب الروسي اتّخذ كلّ الاحتياطات اللّازمة، وحشَد 175 ألف جندي بمُعدّاتهم الثّقيلة على الحُدود الروسيّة الجنوبيّة قُبالة أوكرانيا، ولا نستبعد أن نصحو في أحد الأيّام أو الأسابيع القليلة القادمة على أنباء توغّل هذه القوّات في الشّرق الأوكراني، في تكرارٍ للسّيناريو الجورجي، وإقامة دولة أوكرانيّة مًعظم مُواطنيها من المُتحدّثين باللغة الروسيّة على غِرار أبخازيا وأوسيتيا الجنوبيّة في شِمال جورجيا.
القيادة الأوكرانيّة الحاليّة لم تتعلّم من دُروس نظيرتها الجورجيّة، وتعتقد أن الولايات المتحدة وأوروبا، والانضِمام إلى حلف “الناتو” يُمكن أن يُحقّق لها الأمن، والاستِقرار، والرّخاء الاقتصادي، ولكنّها خسرت شبه جزيرة القرم، ومن المُتوقّع أن تخسر قريبًا مُعظم الشّرق الأوكراني.
أيّ تجميد لمشروع خط أنابيب الغاز الروسي المُمتد إلى أوروبا عبر أراضي أوكرانيا سيُؤدّي إلى حُدوث كارثة للشّعوب الأوروبيّة، لأنّ القارّة العجوز تعتمد على الغاز الروسي لمُواجهة الشّتاء القارص، وأسعار الغاز في ارتفاعٍ مُتواصل هذه الأيّام بسبب شح الإمدادات وزيادة احتِمالات الحرب في أوكرانيا.
أمّا إقدام بايدن فرض عُقوبات اقتصاديّة فتهديدٌ أجوف سيُعطي نتائج عكسيّة، فروسيا والصين اتّخذا إجراءات احتياطيّة مُسبقة لإقامة نظام مالي مُستقل، لا يعتمد على الدّولار، ويُشكّل نظام البديل لنظيره الأمريكي، عموده الفقري العملات المحليّة، وخاصّةً الروبل الروسي واليوان الذهبي الصيني، وباتت نسبة كبيرة من تعاملاتهما الماليّة لا تقوم على الدولار كعُملة أساسيّة، ويتم توقيع الصّفقات التبادليّة بالعُملة المحليّة للدول المعنيّة مِثل الهند وإيران وباكستان والقائمة تطول.
بايدن قال صراحةً، وفي رسالةٍ للقِيادة الأوكرانيّة، أنه لن يُرسل جُنديًّا واحدًا إلى أوكرانيا، وإنّما بعض المُساعدات العسكريّة، وزيادة المعونة الماليّة السنويّة إلى 300 مِليون دولار، وهذا يعني إعطاء ضُوء أخضر “غير مقصود” للرئيس بوتين للمُضي قدمًا في خططه لغزو شرق أوكرانيا، وهو أكثر اطمئنانًا، وليس هُناك أيّ تفسير آخَر.
أمريكا وحلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي لم تُنقذ جورجيا من الغزو الروسي العسكري، وتأسيس دولتين على أراضيها الشماليّة، بحمايةٍ روسيّة والسّيناريو نفسه قد يتكرّر في أيّ لحظةٍ في أوكرانيا الشرقيّة، والأخطر من ذلك أنه قد يمتد إلى دول البلطيق الثلاث، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا التي تتواجد فيها أقليّات روسيّة لا تعترف بحُكوماتها، وتتحدّث اللغة الروسيّة، وتنتظر وصول الجيش الروسي لتحريرها، ونقول ذلك من تجربةٍ شخصيّة كوّناها خلال زيارة لإحداها قبل ثماني سنوات، والمعلومات المُتوفّرة لدينا تقول إنّ الأزمة الداخليّة في هذه الدول التي نالت استِقلالها بعد انهِيار الاتحاد السوفييتي تتفاقم وتُوشِك أن تصل لدرجة الانفجار.
العُقوبات الأمريكيّة التي فشلت في تركيع إيران، وأعطت نتائج عكسيّة، وباتت ورقة قويّة في يد المُفاوض الإيراني في مُفاوضات فيينا حول العودة إلى الاتّفاق النووي، لن تنجح في تركيع روسيا، وستكون أوكرانيا وشعبها الخاسِر الأكبر، لأنّ المتغطّي بالأمريكيين عريان مثلما قال الرئيس الراحل حسني مبارك، وهي العِبارة التي ستُشَكِّل إرثه الوحيد المُتبقّي من 30 عامًا من حُكمه