الرئيسية / أخبار / لبنان يدفع ثمن اعتماده على اقتصاد ريعي يخدم الطبقة الحاكمة

لبنان يدفع ثمن اعتماده على اقتصاد ريعي يخدم الطبقة الحاكمة

لا يلتفت العالم العربي كثيرًا إلى الاقتصاد وهو يتابع أشد الأحداث سخونة، حدث ذلك في ثورات الربيع العربي، إذ لم يكن الاقتصاد وشواغله يحتلون المكانة اللائقة في عقل من أداروا الاحتجاجات بالشوارع أو من ساروا خلفها، لكن رغم كل انتكاسات الربيع العربي، فإن البلدان التي لحقت به ما زالت تكرر نفس الأخطاء وربما تزيد عنها وفي القلب منهم لبنان، إذ تحتل التعقيدات السياسية والمذهبية والطائفية صدارة اهتمامات الرأي العام ويتم تجاهل الاقتصاد حتى في المبادرات المطروحة لحل النزاع، رغم خطورة تأثير الاقتصاد على كل مناحي الحياة.

يحدث ذلك في الوقت الذي يربط الغرب مساعداته الاقتصادية للبلاد بتحقيق تقدم سياسي لا يدور بعيدًا عن توجهاته الفكرية والسياسية والاقتصادية، فالمال هو الوسيلة القادرة على تفتيح مسام الحياة السياسية والاجتماعية لأي بلد يعاني، وهو الوسيلة التي يمكن بها إقرار إصلاحات توافقية أو قسرية لا يهم طالما حان الطوفان!

هيكل معقد

يحيا الاقتصاد اللبناني على حافة الانهيار بسبب أزمة المديونية التي ضاعفتها بشكل غير مسبوق الأزمة السياسية الدائرة في البلاد منذ اندلاع ثورة أكتوبر/تشرين الأول 2019 وحتى الآن، فضلًا عن تداعيات جائحة كورونا الكارثية على لبنان، إذ وصل حجم الدين العام لأكثر من 150% من الناتج الإجمالي، ليكون بذلك من أعلى معدلات المديونية في العالم.

يزيد الأزمة الهيكل الاقتصادي المعقد الذي تشكل على الريع وعدم الاستدامة ‏والاعتماد الكلي على العلاقات الخارجية المتقلبة مع بلدان الغرب لأسباب بنيوية تاريخية كانت قائمة حتى قبل اندلاع الحرب الأهلية في البلاد، إذ كان هناك صراع واضح بين اتجاهين متناقضين في السياسة الاقتصادية اللبنانية بعد نيل الاستقلال في أربعينيات القرن الماضي.

حسم الموقف وجهة النظر التي نادت بضرورة تخصص لبنان في الخدمات التجارية والمصرفية والسياحية، وبررت الأصوات المنادية بذلك بإمكانية لعب لبنان دور المركز الإقليمي الوسيط بين الاقتصادات الغربية المتطورة والمحيط العربي، الأمر الذي لا بد أن يدفع السياسات الاقتصادية نحو الاهتمام بالقطاعات الخدماتية على حساب القطاعات الإنتاجية لا سيما الزراعية والصناعية.

يمكن القول إن لبنان استفاد فعليًا عبر هذا النظام من تحول بعض الدول العربية إلى اقتصادات اشتراكية مغلقة، من جراء الانقلابات العسكرية التي بدأت منذ الخمسينيات في المنطقة، ما أدى إلى هروب رؤوس الأموال العربية إلى لبنان وخاصة رجال المال والأعمال الذين وجدوا فيه أجواء الحرية الاقتصادية المفقودة في بلادهم، لكن لم توفر هذه الطريقة الرخاء لكل السكان، بل أقامت فروقًا واسعة بين سكان الريف والمدن، بل وبين بؤر التمدن وغيرها من الأحياء الشعبية في المدن نفسها.

كانت هذه الفجوات الخيط الذي التقطه الرئيس فؤاد شهاب بعد أن وصل إلى سدة الحكم عام 1958، ليرفض التسليم بمبدأ “دعه يعمل دعه يمر” الذي تقره سياسات السوق الحر ولم ينعكس في لبنان إلا على حماية مصالح الإقطاعيين القدامى الذين سيطروا على القطاع التجاري والخدماتي، وتجاهلوا الزراعة والصناعة والاقتصاد المستدام.

حاول شهاب القادم من خلفية عسكرية ـ قائد الجيش بعد الاستقلال ـ التأسيس لمبدأ تدخل الدولة، وأنشأ بالفعل العديد من المؤسسات على شاكلة البنك المركزي ومصلحة الإنعاش الاجتماعي وصندوق الضمان الاجتماعي.

كما اهتم بتطوير الزراعة والبنى التحتية وتوسيع مرفأ بيروت وإنشاء مخازن للحبوب فيه، وتطوير شبكة الطرقات وتوسيع رقعة التعليم الرسمي الذي أصبح منافسًا بكفاءة للمدارس الخاصة، كما قدم إصلاحات إدارية ودشن مجلس الخدمة المدنية ووضع قانون المحاسبة العامة.

رغم الحكم الديكتاتوري الشرس الذي يوصم فترة شهاب حتى الآن، فإنه نجح في تحقيق ازدهار للاقتصاد اللبناني دون تحميل القطاعات الفقيرة مسؤولية الإصلاح، إذ لجأ لتطبيق ضرائب تصاعدية وصلت في نهاية عهده القصير إلى 43% من دخل الطبقات العليا.

ويبدو أن تعقيدات الصدام مع حيتان المال والنفوذ جعل شهاب يعلن التخلي عن منصبه قبل أن يكمل مدته بعد ضغوط شرسة ولم يترشح لغيرها، بعد أن أقنعته تجربته في السلطة أن بلاده ليست جاهزة بما يكفي للتخلي عن العقلية الإقطاعية بحسب بيان شهير أدلى به آنذاك رفضًا لمحاولات عدة للضغط عليه للترشح للرئاسة مرة أخرى.

تداعيات مؤسفة

أدى توحش نظام الريع – تعريف يطلق في الأدبيات الاقتصادية على الممارسات التي تسعى لاحتكار الوصول إلى أي نوع من الممتلكات المادية، المالية، الفكرية، إلخ، وكسب مبالغ كبيرة من الأرباح دون المساهمة في المجتمع – إلى إحداث خلل رهيب من حيث توزيع الدخل والثروة.

بموجب هذا النظام حصل أقل من 2% من السكان على نحو 55% من الدخل القومي، وتغافلت القوى السياسية والطبقة الحاكمة عن العواقب الاجتماعية والبيئية لمثل هذا الخلل وعزز من ذلك النظام الطائفي الذي كرس الهوس المرضي بتكديس الثروة والتنافس عليها بين الأقطاب المتصارعة.

يؤرخ عادة توحش الريع في لبنان بما بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، إذ تحولت بيروت إلى مركز للممارسات الريعية المفترسة، منها على سبيل المثال تقديم أسعار فائدة أعلى على الودائع التي يهيمن عليها الدولار بشكل مصطنع لدرجة أنها وصلت إلى 18% ما ساهم في انفجار أصول البنوك بالبلاد.

بلغ إجمالي الودائع في البنوك اللبنانية بحلول ديسمبر/كانون الأول 2018 إلى 249.48 مليار دولار أمريكي ـ 443% من الناتج المحلي الإجمالي ـ كما قدم مصرف لبنان عوائد أعلى للبنوك التجارية من خلال ما عرف باسم الهندسة المالية التي لم يتم كشف تفاصيلها في التقارير الرسمية للمصرف.

حصلت البنوك من جراء هذه السياسة على أرباح جنونية ارتفعت بشكل مضطرد من 63 مليون دولار في 1993 إلى 21 مليار دولار في 2018، لكنها في المقابل انعكست بشدة على الزيادة المفاجئة والجنونية في أسعار العقارات وتراجع القطاع الزراعي والصناعي بشدة وتزايد البطالة والفقر.

كما رسخت هذه السياسة لاستمرار الثروة في يد حفنة قليلة ضمن دوائر السلطة استطاعت السيطرة على نحو 43% من أصول القطاع المصرفي التجاري في لبنان، إذ يملك مساهمون مرتبطون بالنخبة السياسية 18 من أصل 20 بنكًا في البلاد، وتسيطر ثماني عائلات فقط على 29% من إجمالي أصول القطاع المصرفي، وتملك مجتمعة أكثر من 7.3 مليار دولار من الأسهم، على سبيل المثال بنك عودة مملوك بالكامل لفهد الحريري، شقيق رئيس الوزراء سعد الحريري، وحصل قبل نحو عامين فقط من اندلاع ثورة أكتوبر/تشرين الأول على صافي أرباح 559 مليون دولار عام 2017.

كان طبيعيًا مع هذه السياسة انهيار الاقتصاد، وظهرت هذه التداعيات بوضوح بعد عام 2011، إذ تراجعت الليرة اللبنانية وفقدت المزيد من قيمتها، واحتاج مصرف لبنان إلى المزيد من الدولارات للحفاظ على سعر العملة، وبالتالي أصدر المزيد والمزيد من الديون حتى وصل الدين إلى 150% من الناتج المحلي الإجمالي – ثالث أعلى سقف للديون في العالم -.

مع اندلاع الثورة لم يكن هناك حيلة لإيقاف نزيف الخسارات الكارثية التي حلت على القطاع المصرفي إلا فرض ضوابط على رأس المال، وإقرار المزيد من القيود على مقدار سحب المودعين العاديين ـ إن وجدوا ـ لتكشف الأزمة عن المشكلة الحقيقية وبنية الاقتصاد الهشة التي أثرت على سبل العيش ونوعية حياة الناس والبطالة التي وصلت إلى 50%.

تكلفة الإصلاح

في بلد يصنف أنه صاحب ثالث أعلى نسبة دين في العالم، وينفق ما يقرب من نصف الإيرادات المحلية على مدفوعات الفائدة، ويلجأ إلى طباعة النقود وزيادة الضرائب ما يسكب المزيد من الزيت على النار، تلوح في الأفق عدد من الإصلاحات التي يبدو أن هناك حاجة ملحة إليها.

على رأس الروشتة التي تبارت في تقديمها العديد من الجهات المتخصصة، يجب أولًا استعادة الملاءة المالية العامة وضمان سلامة النظام المالي، ولن يحدث ذلك إلا بالتعامل وفق شفافية كاملة ـ لبنان يحتل المرتبة 137 في الشفافية من بين 180 دولة ـ وإعلان كل شيء حتى يتم احتساب الإيرادات الحكومية بدقة وكذلك الأموال المفقودة من مصرف لبنان، البنك المركزي في البلاد.

كما يجب وضع ضمانات مقبولة لتجنب استمرار تدفقات رأس المال إلى الخارج، إذ يؤدي عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي إلى استمرار هروب رأس المال ما يشكل خطرًا جسيمًا على بلد يعاني من عجز تجاري ضخم ويستورد ستة أضعاف صادراته، وبالتالي ستساعد الضمانات في الحفاظ على تدفق الدولار ما ينعكس على استقرار الليرة.

هناك أهمية كبرى أيضًا في تصميم شبكة أمان اجتماعي موسعة لحماية الأشخاص الأكثر ضعفًا، إذ تساهم ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الأجور في تفاقم عدم المساواة، ما ينعكس على تفشي الاضطرابات الاجتماعية، التي تدفع من يملكون الثروات والإمكانات الاقتصادية للهرب بها خارج البلاد، كما تخيف الاستثمار الأجنبي، وتمنع المستثمرين من مجرد التفكير في القدوم بأموالهم إلى البلاد.

لبنان أمامه العديد من المسالك المعقدة لتحقيق استقرار سياسي واقتصادي، لكن الفيصل للنجاة من الأزمة الدائرة الإرادة الجماعية للفرقاء في البلاد

لن يحدث كل ذلك إلا بتسريع وتيرة الإصلاحات السياسية وإعطاء الأولوية لعمليات تدقيق شاملة في أنشطة البنك المركزي وحماية الليرة اللبنانية من التدهور، فالالتزام بالإصلاحات يجلب مليارات الدولارات لصالح الشعب اللبناني، وهناك دول كبرى على استعداد للمساعدة بل وتعهدت من قبل في مؤتمر باريس الذي عقد عام 2018 بتقديم نحو 11 مليار دولار إلى لبنان من أجل إعادة بناء الاقتصاد بشرط بتنفيذ الحكومة إصلاحات سياسية لم تحدث حتى الآن.

يمكن القول إن لبنان أمامه العديد من المسالك المعقدة لتحقيق استقرار سياسي واقتصادي، لكن الفيصل للنجاة من الأزمة الدائرة الإرادة الجماعية للفرقاء في البلاد، فرغم كل الآلام المستمرة منذ 2019، فإن لبنان يمتلك ميزة نسبية عكس بعض البلدان التي تمر بأزمات مشابهة وهو دعم المجتمع الدولي بغض النظر عن مطالبه التي يمكن التفاوض بشأنها ولبننتها، فهل يتم استثمارها أم تضيع أيضًا هذه الورقة؟ هذا ما ستكشفه مسارات السلطة خلال المرحلة المقبلة