عمر نجيب
تباينت التحليلات نهاية شهر ديسمبر 2018 بشأن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الأربعاء 19 ديسمبر عن قراره سحب القوات الأمريكية من سوريا.
البعض اعتبر القرار مناورة للتمويه خاصة وأن الرئيس الأمريكي كرر في أكثر من مناسبة ومنذ توليه منصبه عزمه سحب قواته، ولكنه كان يتراجع ويقدم في كل مرة حججا لتبرير ذلك، آخرون قدروا أن الإنسحاب اعتراف من واشنطن بفشل خططها في بلاد الشام وأنها ستتبع أساليب جديدة لتخفيف حجم خسارتها، البعض الآخر ذكر أن البيت الأبيض لم يتخل عن مشروعه في الشأن السوري وأنه يقوم فقط بتبادل الأدوار مع حلفائه وفي مقدمتهم تركيا وأن الإدارة الأمريكية لن تقبل ولن تسمح بإنتصار الجيش العربي السوري وحلفائه الروس وحزب الله اللبناني وإيران.
وسط كل هذه المجادلات طغت مغالطة أو بالأصح كذبة كبيرة، وهي دور التحالف الستيني الذي تقوده واشنطن في هزيمة أو تقليص نفوذ تنظيم داعش أو ما يحب البعض تسميته بالدولة الإسلامية، حيث أن الحقيقة هي أن الجيش العربي السوري بمساعدة عسكرية من روسيا وحزب الله اللبناني وبضع مئات فقط من المستشارين العسكريين الإيرانيين هم من دحر التنظيم وأخرجه هو وبديلاته النصرة وغيرها من 70 في المئة من الأراضي السورية، وأن الأجهزة الأمنية والاستخبارية والجيش الأمريكي في سوريا وبمشاركة من تركيا وأطراف أخرى بعضها عربي ساهمت في تسليح داعش والسماح لأكثر من 120 ألف من المقاتلين الأجانب بعبور الأراضي التركية للدخول إلى سوريا والقتال في صفوف التنظيمات المسلحة الموصوف غالبها بالإرهابية. كما نسي أو تناسى المتحدثون عن الانسحاب الأمريكي والدور المناط بتركيا أن هذه الأخيرة وحتى سنة 2016 كانت المنفذ الرئيسي لصادرات داعش من النفط السوري والمستفيد من عائداته.
الوصول إلى أفضل خلاصة من مختلف تلك التقديرات ممكن بمراجعة كل التفاصيل للإحداث وما يحيط بها.
تناقضات
ترامب أعلن، أن السبب الوحيد لبقاء قوات بلاده في سوريا خلال فترة رئاسته يكمن في ضرورة هزيمة “داعش”، معتبرا أن هذا الهدف قد تم تحقيقه.
وجاءت تغريدة ترامب على خلفية تقارير نشرتها وسائل إعلام غربية بينها “رويترز″ و”وول ستريت جورنال” و”سي إن إن” ونقلت عن مصادر أمريكية مطلعة قولها إن الولايات المتحدة تستعد، وبقرار من رئيسها، لسحب قواتها بالكامل من سوريا في أسرع وقت ممكن.
وتعليقا على هذه التقارير، قال المسؤول في وزارة الدفاع الأمريكية، العقيد روب مانينغ، في حديث لوكالة “نوفوستي” الروسية: “في الوقت الحالي نواصل عملنا مع شركائنا وبواسطتهم في المنطقة”.
في نفس التاريخ قال مسؤول أمريكي لرويترز إن الولايات المتحدة تقوم بإجلاء كل موظفي وزارة الخارجية من سوريا خلال 24 ساعة، وكان هؤلاء قد وضعوا في الأراضي السورية الخاضعة لتنظيمات مسلحة تعمل تحت الحماية العسكرية الأمريكية تمهيدا للعمل مع نظام أو دولة سورية بديلة في شرق نهر الفرات تحصل على اعتراف ودعم أمريكي وغربي.
العقيد روب مانينغ ذكر أن الولايات المتحدة تعتزم سحب القوات من سوريا بمجرد اكتمال المراحل الأخيرة من آخر عملية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وأن من المتوقع أن يكون الإطار الزمني لسحب القوات من سوريا بين 60 و100 يوم.
وقال المسؤول العسكري أن القرار جاء بعد اتصال هاتفي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره التركي طيب أردوغان يوم الجمعة 14 ديسمبر. وقال ”كل شيء حدث بعد ذلك هو في إطار تنفيذ الاتفاق الذي تم التوصل إليه في تلك المكالمة“.
بعد ساعات قليلة من تصريحات العقيد روب مانينغ نقلت وكالة رويترز عن مسؤول أمريكي رفيع المستوى إن الرئيس دونالد ترامب لم يناقش مسبقا قراره سحب القوات الأمريكية من سوريا مع نظيره التركي طيب أردوغان. وأضاف المسؤول الذي تحدث للصحفيين مشترطا عدم الكشف عن اسمه ”الرئيس اتخذ قراره بنفسه. لم يناقش الأمر مع الرئيس أردوغان. وقد أبلغ الرئيس أردوغان بقراره“.
وذكر المسؤول أن واشنطن تعتقد أن القوات الأمريكية وشركاءها قادرون على القضاء على الجيوب المتبقية لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا.
في الأيام التي تلت كثرت التصريحات المتناقضة سواء من طرف أنقرة وواشنطن أو من طرف العديد من الأطراف المتدخلة في الحرب شبه الدولية الدائرة على أرض الشام منذ منتصف شهر مارس سنة 2011، وهو ما اعتبر انعكاسا لحالة من الفوضى وإنعدام التنسيق.
القيادة الروسية ذكرت يوم الجمعة 21 ديسمبر إنها لا تفهم الخطوات التالية للولايات المتحدة في سوريا، مضيفة أن الفوضى وغياب القدرة على التوقع اللذين يحيطان بعملية صنع القرار في واشنطن يسببان القلق في الشؤون الدولية.
محاولة تبديد الالتباس
يوم الأحد 23 ديسمبر سعت واشنطن وأنقرة إلى تبديد الإلتباس في مواقفهما. وهكذا ذكر الرئيس الأمريكي أنه تحدث مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان عن ”انسحاب بطيء ومنسق للغاية“ للقوات الأمريكية من سوريا. وقال ترامب على تويتر ”بحثنا وضع تنظيم الدولة الإسلامية وعملنا المشترك في سوريا والانسحاب البطيء والمنسق للغاية للقوات الأمريكية من المنطقة… ستعود للوطن بعد سنوات عديدة“.
وأضاف ترامب أنه وأردوغان بحثا أيضا التبادل التجاري ”الواسع النطاق“ بين الولايات المتحدة وتركيا بعد توتر علاقات العضوين بحلف شمال الأطلسي خلال صيف 2018.
في اسطنبول ذكرت الرئاسة التركية أن الرئيس رجب طيب أردوغان ونظيره الأمريكي اتفقا على التنسيق بين البلدين لمنع حدوث أي فراغ في السلطة مع انسحاب الولايات المتحدة من سوريا، وإن أردوغان عبر في الإتصال الهاتفي عن رضاه بالخطوات التي اتخذتها واشنطن بشأن محاربة الإرهاب في سوريا وعن استعداده لتقديم أي شكل من أشكال الدعم.
يوم الاثنين 24 ديسمبر : نشرت شبكة الـ”سي ان ان” الأمريكية، مقتطفات من مكالمة هاتفية دارت بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، حيث قال ترامب: “سوريا كلها لك.. لقد انتهينا”. وأضاف الرئيس الأمريكي لنظيره التركي خلال مناقشة انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، إن الولايات المتحدة أنجزت مهمتها في سوريا.
ووفقا لمسؤول كبير في الإدارة الأمريكية اطلع على تفاصيل المكالمة الهاتفية بين الرئيسين، كان أردوغان يشرح كل المشاكل الناجمة عن الوجود الأمريكي في العراق وسوريا، ويثير غضب ترامب.
وأكد ترامب أن القوات الأمريكية سوف تغادر الأراضي السورية، موضحا أن تركيا ستتولى مهمة القضاء على ما تبقى من تنظيم “داعش” هناك.
ونشر الرئيس الأمريكي تغريدة على موقع “تويتر” قال فيها “إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أبلغه بأنه سيقضي على ما تبقى من داعش في سوريا”. وأضاف ترامب أن أردوغان “هو الرجل الذي يستطيع فعل ذلك بالإضافة إلى أن تركيا مجاورة لسوريا.. وتابع بالقول إن القوات الأمريكية سوف تعود للوطن”.
في الوقت الذي تناقلت وكالات الأنباء خبر المحادثة بين أردوغان وترامب، ذكرت وكالة رويترز أن شاهد من رويترز أفاد أن تركيا بدأت تعزيز مواقعها على جانبي الحدود مع سوريا يوم الأحد.
وجاء تصاعد النشاط العسكري بعد يومين من إعلان الرئيس رجب طيب أردوغان أن بلاده ستؤجل عملية عسكرية مزمعة ضد وحدات حماية الشعب الكردية شرقي نهر الفرات في شمال سوريا بعد أن قررت الولايات المتحدة سحب قواتها. وقال كذلك إن تركيا ستتولى المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
ويوم الاحد، أظهرت لقطات بثتها محطة “تي.آر.تي وورلد” التلفزيونية التركية قوافل عسكرية تركية تدخل سوريا عبر بلدة قرقميش التركية الحدودية التابعة لإقليم غازي عنتاب بجنوب شرق البلاد والواقع على بعد 35 كيلومترا شمالي منبج.
وذكرت القناة أن القوافل عبرت إلى منطقة يسيطر عليها الجيش السوري الحر الحليف لتركيا وأنها في طريقها إلى جبهات القتال بمنبج.
ورأى شاهد من رويترز مئات المركبات تتجه صوب إقليم كلس الجنوبي الحدودي بعد مغادرتها إقليم خطاي الجنوبي أيضا في نحو الساعة 0030 بتوقيت جرينتش يوم الاحد، بينما أطلق المواطنون أبواق سياراتهم احتفالا. وشمل الرتل دبابات ومدافع هاوتزر وأسلحة رشاشة وحافلات تقل أفرادا من القوات الخاصة.
وكانت منبج سببا كبيرا للتوتر بين أنقرة وواشنطن. وتوصلت الدولتان العضوان بحلف شمال الأطلسي إلى اتفاق يقضي بانسحاب وحدات حماية الشعب من المنطقة لكن تركيا شكت من تأخر التنفيذ وقالت إن القوات التركية ستدخل البلدة إذا لم تطرد الولايات المتحدة المسلحين الأكراد منها.
ووحدات حماية الشعب الكردية حليف رئيسي للولايات المتحدة في الحرب السورية. لكن تركيا تعتبرها منظمة إرهابية وامتدادا لحزب العمال الكردستاني المحظور الذي يحمل السلاح على أراضيها منذ الثمانينيات.
ونفذت تركيا، بدعم من الجيش السوري الحر، خلال الأشهر الماضية عمليتين عسكريتين في شمال سوريا أطلقت عليهما اسم ”درع الفرات“ و“غصن الزيتون“ استهدفتا وحدات حماية الشعب.
وركزت العمليتان على مناطق غربي الفرات. ولم تتجه تركيا من قبل إلى شرقي النهر. وكان أحد أسباب ذلك تجنب مواجهة مباشرة مع القوات الأمريكية. وأوجدت العمليتان مناطق عازلة تستهدف منع تقدم الجيش العربي السوري وصارت حاليا تحت سيطرة تركيا والتي تحاول التخفي تحت ستار ما يسمى الجيش السوري الحر، وذلك رغم إجماع أغلب التقارير حتى تلك الأمريكية بأن الجيش الحر موجود على الورق قبل أن يكون في الميدان.
يرى عدد من المراقبين أن الرئيس ترامب يناور فهو لا زال يأمل في عكس اتجاه الأحداث على الساحة السورية ولكنه لا يريد المخاطرة، وإذا كان سيصدق في سحب كل قواته من الأراضي السورية فسيبقى له أكثر من 5600 جندي في وسط العراق غير بعيد عن سوريا وشرق الفرات ومن هناك يمكن أن يساعد تركيا إذا دخلت في صراع مسلح مع دمشق المدعومة من طرف روسيا.
وترامب قدم ويقدم إغراءات لأردوغان لعله يقبل لعب الدور الذي تريده له واشنطن. في داخل تركيا هناك تياران يمكن تشبيه أحدهما بجماعة المحافظين الجدد في واشنطن ويبرز على المسرح إثنان من قيادة هؤلاء وهما وزير الدفاع خلوصي آكار الجمهورية منذ 9 يوليو 2018، ورئيس أركان الجيش التركي السابق منذ 7 أغسطس 2015 وحتى 9 يوليو 2018.
والثاني هو رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان او حقان فيدال وهو سياسي تركي وعضو في حزب العدالة والتنمية وتم اطلاق لقب كاتم اسرار اردوغان.
هذا التيار راهن منذ مدة على أن تركيا ستأخذ كمية كبيرة من الغنائم مقابل مشاركتها في مخططات واشنطن في سوريا مما سيتيح تحقيق حلم أردوغان في الحقبة العثمانية الثانية. وهكذا تسيطر أنقرة على الجزء الأكبر من شمال سوريا وشمال العراق حتى حقول نفط الموصل وكركوك بعد أن يتفكك البلدان. ولكن بموازاة مع تحولات الحرب شبه الدولية في سوريا وانتصارات الجيش العربي السوري أخذت احلام أردوغان تتقلص، وفي نفس الوقت وجد نفسه مقيدا بخطر دخول مواجهة مع الروس وبغدر واشنطن المتواصل عبر دعمهم للإنفصاليين الأكراد وتطلعهم لإقامة دولة على أجزاء من سوريا والعراق وتركيا وإيران.
الواضح الآن في نهاية سنة 2018 أن تركيا أمام خيار التدخل عسكريا شرق الفرات تحت غطاء مواجهة داعش وذلك ما ترغب فيه واشنطن، ولكن هناك خطر المواجهة مع الروس ودمشق إلا أن محافظي أنقرة وواشنطن يستبعدون وقوع مثل هذا الصدام ويرون أن موسكو ستقبل بحلول وسط. هناك آخرون داخل تركيا يحذرون من أن ركوب المغامرة التي تشجع عليها واشنطن سيهدد أمن البلاد ويضعها في مسار صدام مباشر مع روسيا والجيش السوري وحزب الله اللبناني وأنه حتى ولو اختارت تلك الأطراف عدم الدخول في صدام مباشر مع الجيش التركي فإن هذا الأخير سيكون معرضا لحرب استنزاف مكلفة، وستكون تركيا على جانب المعسكر الخاسر على كل الأصعدة، وهم بالتالي يريدون تفاهما مع كل من دمشق وموسكو حتى ولو أغضب ذلك رئيس البيت الأيبض.
خيبة أمل المحافظين الجدد
القرار الأمريكي بالانسحاب أثار انتقادات ومعارضات جزء من الطبقة السياسية والعسكرية خاصة المحسوبة على ما يسمى المحافظين الجدد داخل الولايات المتحدة أو من جانب دول وأطراف لها مصالح وأطماع في بلاد الشام بشكل خاص والشرق الأوسط بشكل عام.
وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس المحسوب على التيار المحافظ وأحد كبار العسكريين الذين شاركوا في غزو وإحتلال العراق سنة 2003 والرجل العسكري الأمريكي الذي قاد قوات مشاة البحرية الأمريكية في معركة تدمير الفلوجة بالعراق سنة 2014، عارض القرار وأعلن فجأة يوم الخميس 20 ديسمبر استقالته بعد اجتماع مع ترامب.
وفي خطاب إلى ترامب، أكد ماتيس الجنرال المتقاعد بمشاة البحرية أهمية ”إبداء الاحترام“ للحلفاء الذين عبروا عن الدهشة والقلق بشأن قرار الرئيس بخصوص سوريا وبدء التخطيط للانسحاب من أفغانستان.
ونشر ماتيس رسالة استقالة غامضة كشفت تنامي الخلافات مع الرئيس وانتقدت ضمنيا عدم تقدير ترامب لأقرب حلفاء الولايات المتحدة الذين قاتلوا إلى جانبها في الصراعين السوري والافغاني. وقال ماتيس إن ترامب بحاجة إلى وزير للدفاع يكون أكثر انحيازا لآرائه.
وأعلن ترامب على تويتر تعيين باتريك شاناهان نائب وزير الدفاع قائما بأعمال الوزير اعتبارا من أول يناير بدلا من انتظار موعد تخلي ماتيس عن منصبه نهاية شهر فبراير 2019، واصفا شاناهان، المسؤول التنفيذي السابق بشركة بوينغ، بأنه ”موهوب للغاية“.
استقالة ماتيس على أي حال كانت متوقعة منذ مدة، فخلال شهر أكتوبر 2018 ذكرت مجلة Foreign Policy ، أن شائعات انتشرت حول الاستقالة الوشيكة لماتيس بسبب تصادمه المستمر مع المساعد الرئاسي للأمن القومي جون بولتون ونائبه ميرا ريكاردل.
وانضم ديمقراطيون إلى أعضاء جمهوريين بالكونغرس في دعوة الرئيس الجمهوري إلى العدول عن نهجه، قائلين إن الانسحاب سيقوي قبضة روسيا وإيران في سوريا ويمكن تنظيم الدولة الإسلامية من الظهور مجددا.
ولم يبد ترامب أي مؤشر على تغيير وجهة نظره. وكان الرئيس الأمريكي قد تعهد في الحملة الانتخابية في 2016 بسحب القوات من سوريا.
وكانت القوات الأمريكية البالغ قوامها نحو 2300 جندي في سوريا، كثير منها قوات خاصة، تساعد في الظاهر في قتال تنظيم الدولة الإسلامية، ولكن تم الكشف في العديد من المرات عن تعاونها بطرق مختلفة مع قوات تنظيم داعش لضرب الجيش السوري، و كان ينظر إليها باعتبارها رادعا محتملا في مواجهة الرئيس بشار الأسد الذي استعاد معظم أراضي البلاد في الحرب بدعم عسكري من روسيا وحزب الله وإيران.
خارج الولايات المتحدة عبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الأحد 23 ديسمبر عن أسفه الشديد إزاء قرار نظيره الأمريكي. وقال ماكرون خلال مؤتمر صحفي في تشاد ”أشعر بأسف شديد إزاء القرار الذي اتخذ بشأن سوريا، وأضاف ”أن نكون حلفاء هو أن نقاتل كتفا بكتف. هذا أهم شيء بالنسبة لرئيس دولة أو قائد جيش“. وتابع قائلا ”الحليف ينبغي التعويل عليه“. وأكد ماكرون على أهمية العمل الذي قامت به قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد والتي استعادت السيطرة على أنحاء واسعة من شمال وشرق سوريا. وأضاف ماكرون ”أدعو كل شخص… إلى عدم نسيان ما نحن مدينون لهم به“.
اعتبرت برلين بدورها يوم الخميس أن القرار الأمريكي يمكن أن يضر بالمعركة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” وأنه يهدد النجاح الذي سجل حتى الآن ضد التنظيم الجهادي. وذكر وزير الخارجية الألماني هيكو ماس في بيان “لقد تراجع تنظيم الدولة الإسلامية لكن التهديد لم ينته بعد. هناك خطر من أن قرار ترامب قد يضر بالقتال ضد التنظيم ويهدد ما تم تحقيقه حتى الآن”. وأضاف أن المعركة ضد المسلحين “ستتقرر على المدى الطويل عسكريا وبالطرق المدنية”. وأكد الوزير على ضرورة وجود عملية سياسية تحت رعاية الأمم المتحدة لإعادة الاستقرار الدائم إلى سوريا التي تمزقها الحرب.
في لندن اعتبرت وزارة الخارجية البريطانية أن تنظيم “الدولة الإسلامية” لم يهزم بعد في سوريا خلافا لما قاله الرئيس الأمريكي. وذكر ناطق باسم الوزارة في بيان إن “التحالف الدولي ضد داعش أحرز تقدما كبيرا. ومنذ بدء العمليات العسكرية، استعاد التحالف وحلفاؤه في سوريا والعراق معظم الأراضي التي احتلها داعش وتم تحقيق تقدم كبير خلال الأيام الأخيرة في آخر منطقة بشرق سوريا تحتلها داعش”.
بيد أنه أضاف “لكن لا يزال هناك الكثير من العمل ويجب ألا نغفل عن التهديد الذي يشكله. حتى بدون السيطرة على أرض، لا يزال داعش يشكل تهديدا”. وأضافت الوزارة أن المملكة المتحدة ستبقى “منخرطة في التحالف الدولي وحملته لحرمان داعش من السيطرة على أراض وضمان هزيمته القاطعة”.
من جهته عبر وزير الدفاع البريطاني توبياس ألوود عن معارضته للقرار. وقال “لا أتفق البتة مع ذلك. الأمر تحول إلى أشكال أخرى من التطرف والتهديد لازال ماثلا بقوة”.
قلق في إسرائيل
في إسرائيل أجمع محللو وسائل الإعلام العبرية، على أن الخطوة الأمريكية هي صفعة مجلجلة في وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كما كتبت صحيفة “هآرتس” يوم الجمعة 21 ديسمبر في افتتاحيتها، علاوة على ذلك، نقل المحلل العسكري في الصحيفة عينها، عاموس هارئيل، عن مصادر أمنية رفيعة في تل أبيب قولها إنه بالإضافة إلى أن قرار ترامب يعتبر انتصارا للرئيس السوري، فإنه عمليا يفرِغ المطلب الإسرائيلي بإبعاد حزب الله والقوات الإيرانية من سوريا من المضمون، ويبعد هذا الأمر كثيرا عن الخروج إلى حيز التنفيذ، بحسب تعبيره.
وفي محاولة للتستر على الضربة الأمريكية لإسرائيل والحلفاء، والتي اعتبرت بمثابة خيانة من واشنطن، دأب ديوان نتنياهو إلى تسريب معومات “مهمة” و”حساسة” إلى مراسِل الشؤون السياسية في القناة العاشرة بالتلفزيون العبري، باراك رافيد للتأكيد على صلابة موقفه، مفادها أن مستشار الأمن القومي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نيكولاي بتروشيف، وجه إلى مستشار الأمن القومي الإسرائيلي مئير بن شبات، قبل أكثر من ثلاثة أشهر وثيقة غير رسمية، تتضمن مسودة لصفقة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية بخصوص سوريا وإيران، كجزء من صفقة كبيرة لتحسين العلاقات بين موسكو وواشنطن، لافتا إلى أنه نقل هذه الأقوال عن مسؤولين إسرائيليين اثنين مطلعين على تفاصيل الحادثة وعلى محتوى الوثيقة.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو صرح إن تل أبيب ستصعد معركتها ضد القوات المتحالفة مع إيران في سوريا بعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد. وتشعر إسرائيل بالقلق من أن خروج أكبر حليفة لها قد يقلص نفوذها الدبلوماسي في مواجهة روسيا أكبر داعم للحكومة السورية.
وقال نتنياهو في تصريحات بثها التلفزيون “سنواصل التحرك بنشاط قوي ضد مساعي إيران لترسيخ وجودها في سوريا”. وكان يشير إلى حملة جوية إسرائيلية في سوريا ضد عمليات الانتشار الإيرانية ونقل الأسلحة لجماعة حزب الله اللبنانية. وأضاف “لا نعتزم تقليص جهودنا بل سنكثفها، وأنا أعلم أننا نفعل ذلك بتأييد ودعم كاملين من الولايات المتحدة”. أطمئن القلقين: تعاوننا مع الولايات المتحدة مستمر بكل قوة في العديد من المجالات: على الصعيدين العملياتي والاستخباراتي وفي مجالات أمنية أخرى.
من جانبه اعتبر رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي غادي آيزنكوت، أن قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا حدث هام، لكن لا ينبغي المبالغة فيه. وأضاف آيزنكوت خلال مؤتمر “الجيش والمجتمع الإسرائيلي” الذي نظمه مركز “هرتزليا” يوم الأحد:
منذ سنوات ونحن نتعامل مع هذه الجبهة وحدنا، وقد عمل الجيش الإسرائيلي بشكل مستقل في هذا المجال حتى في السنوات الأخيرة. نحن نعمل لضمان مصالح إسرائيل.
واعتبر آيزنكوت أن “الوجود الروسي في سوريا أوجد وضعا جديدا وأثّر بشكل كبير على الطريقة التي نستخدم بها القوة”. وتابع: “العمل ضد رغبة طهران في تطوير قدراتها من إيران عبر العراق إلى سوريا ولبنان، كان الجهد الرئيس لجيش الدفاع الإسرائيلي على مدى السنوات الأربع الماضية”.
وأضاف: “هذا الخطر مخفي عن أعين المجتمع الإسرائيلي، لقد استثمرنا موارد استخباراتية وجوية هائلة في هذه المعركة. يجري تنفيذ هذا البرنامج كما هو مخطط له، وتمكنا من منع إعادة تسلح أعدائنا، لكن رغبتهم وأهدافهم لم تختف”.
حرب شاملة
كتب إيغور سوبوتين في صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية، حول الاستعدادات الإسرائيلية لعملية عسكرية على خلفية سحب القوات الأمريكية من سوريا.
وجاء في المقال: قرار ترامب سحب الوحدة العسكرية الأمريكية من سوريا تسبب في ردود فعل متباينة لدى اللاعبين العالميين والإقليميين. وأقل من أسعدته هذه التصريحات إسرائيل، التي يبدو أنها مضطرة لمواجهة الوجود الإيراني في سوريا بقواتها وحدها.
وقد أعرب وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، أفيغدور ليبرمان، عن رأيه في قرار القيادة الأمريكية، بالقول: “انسحاب الولايات المتحدة من سوريا، يزيد بشكل كبير من احتمال حدوث صراع واسع النطاق في الشمال، سواء في لبنان أم في سوريا”. وبحسب ليبرمان، فإن رحيل الأمريكيين سيرفع من معنويات الرئيس السوري بشار الأسد وحلفائه، إيران وحزب الله اللبناني.
وفي الصدد، قال الخبير العسكري يوري ليامين، لـ نيزافيسيمايا غازيتا”: “إذا تحدثنا عن إسرائيل وبعض الأطراف العربية في الخليج، فإن الوضع ككل لا يتغير كثيرا بالنسبة لهم. بالطبع، يفضلون الحفاظ على الوحدة العسكرية الأمريكية على أجزاء من الأراضي السورية، كعامل آخر للضغط على الحكومة السورية وإيران، لكن انسحاب هذه الوحدة لن يغير الوضع بشكل جوهري. أصبحت السيطرة على الجزء الرئيس من البلاد الآن في يد دمشق الرسمية، بما في ذلك ما ينطبق على المناطق المتاخمة لإسرائيل. كما أن القوات الأمريكية لا تستطيع منع نقل شحنات من إيران إلى سوريا، لأنها الآن تسلك طرقا تتجاوز المناطق التي تسيطر عليها”.
وأضاف ليامين: “في المقابل، لا يمكن لإيران أن تفسر هذا القرار باعتباره شيكا مفتوحا لها. يجب ألا ننسى أن تركيا تهدد الآن بشن عملية عسكرية جديدة ضد الأكراد السوريين. قد تؤدي هذه العملية إلى سيطرة تركية واقعية على جزء مهم من شمال سوريا. مثل هذا التطور من المستبعد أن يرضي السلطات السورية وحليفيها الروسي والإيراني”.
حذر موسكو
يوم 20 ديسمبر وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرار نظيره الأمريكي بأنه خطوة صحيحة، مضيفا أنه لا يفهم ماذا يعني هذا الإعلان بالضبط. وذكر بوتين خلال مؤتمره الصحفي السنوي في موسكو يوم الخميس، إن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا غير شرعي، وسحب الولايات المتحدة قواتها خطوة صحيحة، واستدرك قائلا: “حتى الآن لا أرى مؤشرات على انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، لكننا نفترض أن هذا أمر ممكن، لاسيما وأننا نسير في طريق التسوية السياسية”، مشيرا إلى أنه ليس هناك حاجة للوجود العسكري الأمريكي في سوريا للتوصل إلى هذه التسوية.
وأضاف: “فيما يتعلق بانسحاب القوات الأمريكية، فلا أعرف ماذا يعني ذلك. للولايات المتحدة حضور في أفغانستان منذ 17 عاما، وكل عام يتحدثون عن الانسحاب من هناك، لكنهم ما زالوا موجودين”.
في روسيا، رأى رئيس اللجنة الدولية بمجلس الاتحاد، قسطنطين كوساتشوف، على صفحته في فيسبوك، أن الأمريكيين “يخرجون، لكنهم يستمرون في العمل من خلال الحلفاء، بمن فيهم غير الرسميين والمثيرين للريبة”. ووفقا للسناتور، فإن ذلك يرجع إلى أن “ترامب أمام مطلبين داخليين، فهناك من الأمريكيين من يطالبه بالاهتمام بالشؤون الداخلية أكثر من القتال من أجل مصالح الآخرين، فيما يطالبه آخرون بعدم الامتثال لسوريا “الأسد” وروسيا “السيئة”، لأن ذلك يعد هزيمة للولايات المتحدة”.
في الوقت نفسه، يخشى مجلس الدوما من أن تصريحات البيت الأبيض تنبئ باستفزازات في سوريا تعدها الولايات المتحدة. وقد عبر عن هذا الرأي نائب رئيس لجنة مجلس الدوما للدفاع، ألكسندر شيين، لوكالة “ريا نوفوستي”، فقال إن إعلان سحب القوات قد يهدف إلى تحويل الشكوك التي تدور حول الجانب الأمريكي.
وهناك رأي آخر. فنائب رئيس لجنة الدوما الحكومية للشؤون الدولية، دميتري نوفيكوف، يرى أن الانسحاب الأمريكي من سوريا سيساعد في تسوية الوضع في المنطقة.
ويرى مراقبون غربيون أن الانسحاب سيصب بمصلحة تركيا وإيران وروسيا والحكومة السورية، بينما سيكون الأكراد هم الخاسر الأكبر. إذ قال الباحث في مركز “كارنيغي للشرق الأوسط” في بيروت يزيد الصايغ لفرانس24، إن قرار ترامب أعطى الضوء الأخضر لتركيا للقيام بعملية عسكرية ضد الأكراد، الذين سيكونون “الضحية الأولى والمباشرة” للقرار. وسيقود هذا الأمر الأتراك للتعامل مع حكومة دمشق لضبط الأكراد، وهو الأمر الذي تريده روسيا وإيران، وستستعيد الحكومة السورية السيطرة عاجلا أم آجلا على المناطق التي ينسحب منها الأكراد.
القوات الأمريكية
رسميا بدأت القوات الأمريكية عملياتها البرية في سوريا أواخر العام 2015، حيث وصل عدد من عناصر الوحدات الخاصة إلى مناطق في شرق وشمال البلاد، لتشكيل تحالف مع ميليشيات محلية وفصائل معارضة للحكومة السورية.
ازداد عدد القوات الأمريكية بشكل تدريجي في سوريا اعتبارا من 2016 ليصل تعدادها رسميا إلى 2300 جندي يتمركزون في قواعد عسكرية بمناطق شرق وشمال البلاد حسب ما كشفت عنه صحيفة نيويورك تايمز.
ونقلت صحيفة العربي الجديد عن مصادر فيما يوصف بالمعارضة السورية أن أبرز هذه القواعد هو مطار الرميلان بمحافظة الحسكة في شمال شرق سوريا قرب الحدود مع تركيا والعراق. المطار موجود في منطقة تضم عددا من الآبار النفطية، تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية وهي تجمع قوات عربية وكردية التي تشكل أحد أهم عناصر التحالف العسكري الذي تقوده واشنطن”. وإلى جانب هذا المطار تنتشر القوات الأمريكية في خمس مواقع رئيسية أخرى في هذه المنطقة الغنية بالنفط، والواقعة في محيط نهري دجلة والفرات.
بينها قاعدة الشدادي الواقعة بين محافظتي الرقة ودير الزور، وقرب نهر الخابور، ما يكسبها أهمية إستراتيجية خاصة، عدا عن قربها من الحدود السورية العراقية، ما يمنحها القدرة على قطع خطوط إمداد نحو سوريا. وتضم هذه القاعدة مهبطا للطائرات المروحية ومعسكرا للتدريب.
بالإضافة إلى موقع منطقة “كوباني” عين العرب الواقعة على الحدود العراقية التركية، والقريبة من مواقع القوات التركية والفصائل المسلحة التي تدعمها أنقرة، والتي تسعى لطرد الفصائل الكردية من المنطقة، ويبدو أنها تستعد لحملة عسكرية قريبة ضدها، وفق تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كوباني وسبت وعين عيسى وخراب عشق.
كذلك هناك قاعدة المبروكة وقاعدة تل البيدر في محافظة الحسكة، قرب محافظتي الرقة ودير الزور، وعلى مقربة من مدينة الحسكة، مركز المحافظة التي تحمل نفس الاسم، ومدينة القامشلي، إحدى أهم وأكبر المدن ذات الأغلبية الكردية في المنطقة.
وتتواجد القوات الأمريكية كذلك في قاعدة عسكرية بمدينة تل أبيض في محافظة الرقة، قرب الحدود السورية التركية، غير بعيد عن مدينة الرقة.
وخارج مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية أنشأت القوات الأمريكية قاعدة عسكرية عند حقل العمر النفطي قرب مدينة الميادين بمحافظة دير الزور.
إلى جانب قاعدة التنف ذات الأهمية الإستراتيجية عند المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، والتي كانت محور توتر عدة مرات بين الولايات المتحدة والجيش العربي السوري عندما قامت القوات الأمريكية بقصف قوات حليفة لدمشق على مقربة من القاعدة. وأنشأت قاعدة الزكف على بعد 70 كيلومترا إلى الشمال الشرقي منها بهدف دعم هذه القاعدة ولإيجاد منطقة عدم اشتباك في المثلث الحدودي.
دلالات
كتب د. زياد حافظ *الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي يوم 23 ديسمبر:
النخب الأمريكية منقسمة في كافة الملفات المطروحة بما فيها العدوان الكوني على سوريا التي قادته الولايات المتحدة.
وفي سياق الانقسام بين النخب الأمريكية هناك ثلاثة محاور تغطي تلك الانقسامات.
المحور الأول يقوده المحافظون الجدد، والمتدخلون الليبراليون الذين شنوا العدوان على سوريا منذ الولاية الأولى للرئيس السابق باراك أوباما بقيادة وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلنتون، والاعلام المهيمن الذي يسيطر عليه بشكل عام ومطبق اللوبي الصهيوني. هذا المحور يندد بشدة الانسحاب “غير المدروس″ و”المتهور” الذي سيخلف فراغا في شرق سوريا يستفيد منه الرئيس السوري بشار الأسد. وكل من إيران وروسيا. وبطبيعة الحال هناك اعتراض على القرار الرئاسي من اللوبي الصهيوني ورموزه داخل الكونغرس الأمريكي. فينتقد الشيخ المتشدد عن ولاية فلوريدا مارك روبيو “المرشح للحزب الجمهوري الذي هزمه دونالد ترامب” وليندسي غراهام شريك الشيخ الراحل جون ماكين قرار الرئيس الأمريكي. غير أن رأيهما لا يمثّل بالضرورة رأي الحزب الجمهوري وبالتالي قد يشكل فقط عنصر إزعاج لترامب دون إمكانية في الظرف الراهن للضغط عليه لتغيير قراره بالانسحاب.
المحور الثاني يشكك بجدية القرار وأهميته ويقوده مجموعة من المعلقين كباتريك لورنس مراسل في صحيفة “الإنترناشيونال هيرالد تريبون” والكاتب في الشؤون السياسة الخارجية الأمريكية. يعتبر لورنس أن القرار عير جدي خاصة أن العدد المرتقب للقوات الأمريكية للانسحاب من سورية ليس 2300 بل هناك تواجد يتراوح بين 4000 و7000 جندي و”مقاول” أي مرتزقة من الشركات الأمنية الأمريكية. أضافة إلى ذلك، يشير لورنس إلى التحصينات التي أقامتها القوّات الأمريكية في مدينة الرقة تحت السيطرة الاسمية لقوات سورية الديمقراطية “قسد” والتي تدل على رغبة التخندق في سوريا لفترة طويلة.
هناك طيف آخر من المشككين الذين يعتبرون القرار الرئاسي مزاجيا وقد يغير رايه بعد موجة الاحتجاجات التي بدأت على ذلك القرار من قبل قوى وازنة في الكونغرس الأمريكي والاعلام المهيمن والحلفاء كالكيان الصهيوني. إضافة إلى كل ذلك فهناك التباس في مدى الفترة التي ستنسحب القوات الأمريكية. فالمدة تتراوح بين شهر وثلاثة أشهر.
المحور الثالث يدعم قرار ترامب بدون تحفظ ويرحب به. ويضم ذلك المحور مجموعة من الضباط والديبلوماسيين السابقين كروبرت فورد السفير الأمريكي في سوريا وعدد من الشيوخ والمحللين الجمهوريين كباتريك بيوكانان وعدد من ضباط الاستخبارات كراي مكغوفرن وفيليب جيرالدي على سيبل المثال، ومواقع الإلكترونية معادية للحرب كموقع “انتي وار. كوم” و”قمر الاباما”. كما أن خبراء مرموقين كستيفن والط الذي شاركه جون ميرشهايمر في كتابة الكتاب عن دور اللوبي الصهيوني في أمريكا يعتبر في مقال نشره على موقع مجلة “فورين بوليسي” المحافظة والمملوكة من روبرت مردوك أن لا جدوى في البقاء في سوريا. لذلك لا يمكن القول إن هناك اجماعا على التنديد بقرار ترامب وخلافا لما يشاع فإن وزير الدفاع الأميركي الذي استقال بعد قرار ترامب لا يمثل كل البنتاغون.
في رأينا نعتقد أن القرار الرئاسي جدّي ولم يكن مفاجئا كما يعتقد الكثيرون. فهو أوضح ذلك خلال حملته الانتخابية ولم يتراجع عن رأيه خلال السنتين الماضيتين من ولايته. كما أن ذلك القرار ليس جديدا ويعكس رغبة المؤسسة الحاكمة بالخروج من المستنقع في المشرق ووسط آسيا والتركيز على شرق آسيا وذلك منذ أكثر من عشر سنوات. نتذكر هنا لجنة باكير هاملتون عام 2006 والتي شكلت توافقا جمهوريا وديمقراطيا مدعومة من فعاليات سياسية وفكرية أمريكية بضرورة التوقف عن التورط المباشر في المنطقة بعد كارثة الاحتلال الأمريكي للعراق من منظور أمريكي. كما نذكر أيضا قرار الرئيس السابق أوباما الشهير بالتوجه نحو آسيا بعد الانسحاب من العراق والمحاولة للانسحاب من أفغانستان.
تمرد
“تمرد” الرئيس الأمريكي على مستشاريه في وزارة الدفاع والخارجية مايك بومبيو والأمن القومي جون بولتون دليل على أنه يملك أوراقا سياسية داخلية، أي داخل المؤسسة الحاكمة، تسمح له بذلك “التمرد”. لقد لفت نظرنا تسمية الرئيس الأمريكي لرئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي قائد القوات البرية منذ بضعة أيام وذلك قبل نهاية ولاية رئيس هيئة الأركان الحالي جوزيف دانفورد، أي قبل خريف عام 2019، الذي أبدى اعتراضه على العديد من قرارا ت ترامب العسكرية. وهناك تقدير أن دانفورد سيرحل قبل نهاية ولايته. أما رئيس هيئة الأركان المرتقب مارك ميلي فهو مقرب من ترامب وقريب من أفكار الرئيس الأمريكي. من جهة أخرى يبدو أن داخل القيادة العسكرية في البنتاغون انقسام بين القيادة الوسطى المسؤولة عن شرق الأوسط وقيادة أوروبا المسؤولة عن أوروبا والكيان الصهيوني. فالأخيرة تدعم الانسحاب من سوريا حيث الجدوى من البقاء غير واضح على الأقل بينما القيادة الوسطى تعارض ذلك. إضافة إلى ذلك أجرت صحيفة “ميليتري تايمز” استطلاعا منذ فترة أظهرت أن حوالي 55 بالمائة من الضباط الذين خدموا في المناطق الساخنة كأفغانستان والعراق على سبيل المثال خلال السبعة عشر سنة الماضية لا يحبذون مهمة “بناء أمة” كما يريده المحافظون الجدد أو المتدخلون الليبراليون. بمعنى آخر إن الانسحاب من سوريا يحظى بتأييد أولئك الضباط. أضف إلى كل ذلك فإن كلفة التورط العسكري الأمريكي في المنطقة منذ 2001 تجاوز عتبة الست تريليون دولار دون مردود سياسي يذكر وفقا لمات بربل الكاتب في مجلة “امريكان كونسرفاتيف” أي “الأمريكي المحافظ”.