المهندس سليم البطاينه
كثيرون لا يشغلهم ما يشغلني! فشعارهم نصف العمى ولا العمى كله! والمستطلع لآراء الشارع الأردني لن يجد صعوبة في معرفة إلى أي مدى ضاق الأردنيون ذرعاً في معيشتهم، حيث لم تعد لديهم طاقة إضافية لتحمل المزيد من الأعباء، فقد ملّوا من تسويف الوقت بانتظار وعود لا تأتي أبدا، وباتوا يشعرون بسوء أوضاع البلاد! بدءاً من ضعف الحكومات، ومروراً بهزالة مجالس النواب وغيابها.
لسنا هنا لنُذّكر! بل لنُحذّر! وضع كهذا لا ينفع فيه الكلام: الآلاف المقالات نُشرت منذ سنوات طويلة جداً! حذرت من خطورة تفشي الفقر، وانعدام فرص العمل! واختلال توازن المجتمع الأردني!
وكأن المتحدثين يخاطبون حائطا!
فكونا من الكلام الفاضي ومن الوعود المكررة! القصص كثيرة! القصص كثيرة والألم واحد… الأزمة الاقتصادية تُمثل التهديد الأكبر لاستقرار الأردن!
فثمة احتقان اجتماعي نتج عن تراكم الأوضاع! تم فيه استهلاك كثير من المفردات والشعارات التي أُفرغت من معانيها بشكل اهتزت معها الثقة.
الأمر لا يحتمل التأخير، ولا النقاش، ولا حتى انتظار نتائج التحديث الاقتصادي!
فخلق الفوضى لا يتم بشكل عشوائي! إنما تبدأ في احداث اختلال في توازن المجتمع، وتدمير الطبقة الوسطى التي تُمثل التوازن وعصب الدولة … ففي كل بيت أردني قصة، ولا تكاد تسير في شارع، او تجلس مع أحد، إلا وتسمع منه ومن غيره نغمة واحدة تتردد على كل لسان: الضيق، الهم، الفقر، المرض، البطالة، العوز، وكأن الحياة ضاقت عليهم من كل جانب!
لم تعد الحكومات في رفاهية زمن مضى، حين كانت تضع خططها بمعزل عن الأثر الاجتماعي،
وما يثير القلق ان استمرار النقاش عند مستوى المصطلحات سيعوّق الإصلاح والتنمية!
لذا فإن الاعتماد على الاستقرار القسري، أو الإصلاحات السطحية لا يمكن ان يشكل ضمانة دائمة!
فالتجارب التاريخية أثبتت ان الاحتقان الصامت كثيراً ما ينفجر على نحو مفاجئ غير متوقع! ومن يدرك حقيقة غير ذلك فليأت بها وبأي لغة أو صورة!
فشل الدولة، يعني فشل التخطيط، ويعني أيضاً فشل الرؤيا! وما يزيد الخطورة ان الجيل الحالي من الشباب يتحرك وفق منطق السرعة والانتشار! مدفوعاً بالحرمان النسبي! يرفض ان يقتنع بدور المتفرج ويشعر بالضياع، ورث عالماً من الأزمات ويمر بأزمات جعلته مموه الفكر! غائب الرؤية، تائه في جحيم اللامبالاة!
يرى ان الأجيال التي سبقته حققت مستوى مقبول من العيش.
جيلٌ رقمي، مضرب فكرياً، ستجبره الظروف على المواجهة! فهو جريء في مطالبته بالحقوق، ولا يعترف بالوساطات التقليدية بينه وبين الدولة.
لا نعرف متى يحل منطق العقل؟
المسألة هنا ليست اقتصادية فقط، أو اجتماعية، بل تمتد الى البعد السياسي!
فالاقتصاد يؤمن الخبز، ويولد فرص العمل! لكن السياسة الرشيدة قادرة ان تمنح الناس الثقة بالمستقبل، وعندما يلتقي الاثنتان (الاقتصاد والسياسة) تبدأ التنمية والإصلاحات الحقيقية.
وأي نظام ريعي يقوم على ولاءات ضيقة! وعلى المحاباة والترضيات والزبائنية! يعني تهميش شرائح واسعة من المجتمع.
الحالة الراهنة التي نمر بها تستوجب خروجاً عن المألوف في كل ما له علاقة بالفقر وانعدام فرص العمل والحرمان! فالفقر يفسد الإصلاحات أيا كان شكلها! والتمتع بالحقوق السياسية رهين التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية،
الأمر الذي يتطلب التعامل مع الأسباب الحقيقة التي أوصلتنا الى ما نحن به الان وهو ان: فائض القيمة (أي خلق حالة توازن بين الناتج القومي الإجمالي وبين التوزيع العادل لعائداته).
إن حضور سؤال مستقبل الشباب في الأردن بات السؤال الأعمق في زحمة فوضى الأزمات!
فارتفاع مؤشرات الشعور بالظلم الاجتماعي يُمثل (صندوق باندورا)، الذي يحوي كل شرور البشرية! ويخلق بيئة خصبة لتدمير كل شيء أمامه.
الأردن وسط هذه الأزمات أحوج ما يكون الى حوارات داخلية لترسيم استراتيجية وطنية تحميه من أزمات الامن والاقتصاد،
وان يبدأ بجديّة في قراءة المخاطر بمنظور جديد، ولاعبين جُدد، واستثمار تجربته السابقة بعد احداث الربيع العربي لإعادة الثقة بالمؤسسات السياسية، وفق فلسفة واضحة لرؤية مبنية على مدركات!
وان لم يحصل ذلك فإن ما ينتظر الأردنيين صعب! وقد يكون أصعب من كل التقديرات، وسيظلّ يعيش على تسويات مؤقتة تؤجل الأزمة!
كاتب ونائب أردني سابق
جيوستراتيجيك ميديا ما وراء الخبر
