الرئيسية / أخبار / نحو صياغة نظام إقليمي متعدد الشراكات

نحو صياغة نظام إقليمي متعدد الشراكات

تأسس النظام الدولي منذ الحرب العالمية الأولى، وترسخ بعد نهاية الحرب الباردة. اليوم تسعى القوى الدولية المؤثرة في التوازنات الإستراتيجية إلى ضبط قواعد اللعبة، متزامنة مع التغيرات الدولية التي أصبحت متسارعة وجذرية، وتحتاج إلى تأطير حركة التحولات بمفاهيم تساير موجة التفاعلات الدولية وضبط حدة آثار التوترات بين القوة المهيمنة ونظيرتها، القوة الصاعدة. حتى الآن، تحرص الصين على أنها ليست مع الهيمنة حتى ولو أصبح اقتصادها عالميًا، وترى أنه ليس من المعقول تسييس المسألة التجارية، لأن من شأنه أن يسيء إلى مصالح الصين وأميركا والعالم. رغم ذلك، تطرح تلك التحولات سؤالًا حول حدود التغيير الذي تؤديه القوة الصاعدة، الصين، كقطب جديد يبحث عن مكانة في تشكيل النظام الدولي الجديد، مما يعكس ملامح أزمة عالمية، وتراجع التأثير العالمي للولايات المتحدة في وجه الأطراف الصاعدة التي تبحث عن تثبيت مناطق نفوذها بوصفه نقطة ارتكاز لتأسيس أنماط جديدة من التحولات العالمية. وتصبح منطقة الشرق الأوسط منطقة صراع هذه القوى، مما يجعل السعودية أمام مسؤولية كبرى نحو صياغة نظام إقليمي متعدد الشراكات يحل محل الصراعات بالتعاون مع شركائها الإقليميين، ليصبح نموذجًا يُقتدى به.

نجحت السعودية في صياغة أمن إقليمي بديل عن صياغة المحاور إلى توازن المصالح برعاية بكين، وهو بمثابة تحول جيوسياسي في الشرق الأوسط، في منطقة لم تعرف الاستقرار إلا لمامًا. وهذا التقارب السعودي – الإيراني في آذار – مارس 2023 برعاية مباشرة من بكين جاء نتيجة تحولات دولية أعمق، فاجأ المشهد الإقليمي، وقلب معادلات كانت راسخة. وعلى إثر هذه التحولات، استعادت منطقة الخليج والشرق الأوسط بقيادة السعودية مكانتها في معادلة توازناته المتغيرة، خصوصًا وأن التقارب السعودي – الإيراني ارتبط بدوافع إستراتيجية وتنموية في آن واحد.

تمثل السعودية، في بيئة إقليمية متغيرة، مفتاحًا أساسيًا لأي توازن سياسي في الخليج والمشرق العربي، فيما أضفت الصين على الاتفاق بعدًا جيوسياسيًا، وهي الشريك الأول للسعودية. ومن خلال رعاية هذا التقارب، رسخت الصين صورتها كقوة عالمية قادرة على لعب أدوار سياسية في مناطق كانت تعد ضمن دائرة النفوذ الأميركي، في إشارة إلى تحول موازين القوى في النظام العالمي، وهو بمثابة ملء فراغ خلفه الحضور الأميركي، أو كسر الاحتكار الأميركي لصياغة توازنات جديدة.

تتجه المنطقة نحو تشكيل شراكات متعددة ونهاية مرحلة المحاور الإقليمية بعد التقارب السعودي – الإيراني، والتحول من الردع السعودي تجاه إيران إلى الشراكات المتعددة مع الاحتفاظ بهامش حذر إستراتيجي، مع خلق فرصة لإعادة صياغة الأمن والتعاون في الشرق الأوسط، والتحول من منطق الصراع إلى خيار إدارة الخلافات، الذي هو أفضل من المواجهة المستمرة. وهي فرصة نادرة للأطراف الإقليمية لبناء نظام إقليمي أكثر شمولًا يستند إلى موازنة المصالح بدلًا من منطق الهيمنة الذي أثبت فشله، أي الانتقال بالشرق الأوسط من مسرح الصراعات إلى مسرح التنمية لتعريف موقع المنطقة في النظام الدولي الجديد.

التقارب السعودي – الإيراني أدى إلى تباطؤ التطبيع مع إسرائيل، أو إعادة تقييم لمسارات التطبيع، وهو ما أزعج إسرائيل بعد نهاية مرحلة تشكيل محور مناهض لإيران، ففرض على إسرائيل إما الاندماج في الإقليم الجديد بشرط القبول بدولة فلسطينية مستقلة برعاية سعودية، والتي حشدت العالم للقبول بها، أو البقاء كدولة معزولة. وهذا ما جعل إسرائيل تتجه نحو إرباك المشهد الإقليمي ريثما يتحقق التحول.

يمثل الهجوم الإسرائيلي على الدوحة نقطة تحول مفصلية في طبيعة الصراع الإقليمي، إذ امتد إلى قلب الخليج انتقامًا من الطرف الذي يقود التحول الإقليمي نحو مرحلة جديدة بالانفتاح على خيارات عالم متعدد الأقطاب في طور التشكل، من أجل صياغة نظام إقليمي يتمتع بالاستقرار ويتحول إلى منطقة جاذبة للشراكات العالمية، خصوصًا وأنه ملتقى طريقين، أحدهما صيني والآخر أميركي، من الهند إلى أوروبا، وطرق طاقة أخرى عديدة. ويأتي ذلك خصوصًا بعدما نجحت الدول الإقليمية والدولية في استعادة سوريا، فيما تسعى السعودية وتركيا والدول الأوروبية للحفاظ على وحدة سوريا.

في المقابل، تبرز إسرائيل طرفًا وحيدًا يرفض صيغة سوريا الموحدة، وقد انزعجت من القرار الأميركي برفع العقوبات عن سوريا، وتسعى نحو تفكيكها إلى مكونات منقسمة يدين بعضها بالولاء لها. ومن أجل ذلك تعمل إسرائيل على تحقيق الانقسامات الطائفية والقومية لتكريس الخلافات، وتبدو المناطق التي توجد فيها المجموعات المسلحة الدرزية الأكثر ترجيحًا لبدء هذه الإستراتيجية، بسبب انهيار تصوراتها الأمنية التي رسمتها لنفسها بعد 7 أكتوبر 2023. وتدخلها في سوريا يأتي في إطار البحث عن استعادة الردع المفقود، ولم تعد متسامحة مع وجود قدرات في هذه المساحات، وإن لم توجد نيات عدوانية تجاهها. لكن إسرائيل تتجه نحو سياسة قائمة على النار والحوار، وتود جر واشنطن للتماهي مع مخططاتها، معتقدة أنها قادرة على المضي في استهداف المنطقة كلها ضمن مشروع جيوسياسي أوسع.

لكن العرب يصطفون ضد بلطجة إسرائيل في الدوحة، في قمة استثنائية ورسالة قوية للسلام والسيادة الخليجية، وتأكيدًا على التضامن العربي والإسلامي. إذ شكّل الهجوم الإسرائيلي على دولة خليجية، وهو الأول من نوعه، تحولًا نوعيًا في الديناميكيات الإقليمية، مما دفع الدول العربية والإسلامية إلى مراجعة مواقفها واتخاذ خطوات عملية لتوحيد الصفوف، وإرسال رسائل واضحة لإسرائيل والدول الغربية حول عدم القبول بانتهاك السيادة الوطنية.

لن يكون هذا الاجتماع بروتوكوليًا، بل محطة لتثبيت موقف جماعي يتجاوز البيانات التقليدية. ولا ترتكز القمة على أبعاد عسكرية، بل على تفعيل أبعاد دبلوماسية وقانونية، وتوحيد السياسات العربية والإسلامية أمام تهديدات مستقبلية، وتوحيد الصفوف عبر الاتفاقيات الدفاعية والاقتصادية والدبلوماسية، مما يحتم على الدول العربية والإسلامية التفكير في خطط تحوطية سياسية ودبلوماسية. وهي رسالة أن الدول العربية والإسلامية ليست تابعة بالكامل للولايات المتحدة، بل تمتلك القدرة على توثيق العلاقات فيما بينها وتوحيد موقفها السياسي والاقتصادي، خصوصًا مع صعود الموقف الصيني على المستوى الدولي، مما يمنح الدول العربية فرصة لإعادة ترتيب تحالفاتها والتوازنات الإقليمية بما يحفظ مصالحها دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة.

تحركات قادة الخليج تهدف إلى بلورة موقف إقليمي موحد يعكس الحرص على السيادة والاستقرار السياسي، ويرسل رسالة واضحة للولايات المتحدة حول رفض استخدام القوة ضد دول الخليج، خصوصًا وأن توازنات القوة ليست حكرًا على الولايات المتحدة وحدها. ويبرز صعود الصين اقتصاديًا وسياسيًا كعامل مؤثر يتيح استكشاف مسارات تحالفية جديدة مع الحفاظ على العلاقات الإستراتيجية مع القوى الكبرى، والحفاظ على مكتسبات مجلس الأمن التي أدانت جميعها ضربة إسرائيل للدوحة بوصفها “إرهاب دولة.” وأصبحت إسرائيل دولة معزولة دوليًا، فيما قبول الدوحة مواصلة المفاوضات والاستمرار في التوسط سيجد دعمًا أميركيًا ودوليًا، رغم شعورها بالخذلان من الموقف الأميركي. لكن الموقف الأميركي والإسرائيلي ليس واحدًا، بل هناك في أميركا وإسرائيل من ينتقدون سياسات نتنياهو واليمين الإسرائيلي.