الرئيسية / أخبار / قمة منظمة شنغهاي منصة إستراتيجية لإعادة رسم موازين القوى

قمة منظمة شنغهاي منصة إستراتيجية لإعادة رسم موازين القوى

في لحظة دولية تتسم بتصاعد التوترات الجيوسياسية والتحولات في موازين القوى، جاءت قمة منظمة شنغهاي للتعاون لتؤكد موقع المنظمة كلاعب رئيسي في إعادة رسم خارطة النظام العالمي. وبمشاركة قوى كبرى كالصين وروسيا والهند، تسعى المنظمة لترسيخ نموذج متعدد الأقطاب وبديل عن النظام الأحادي الذي هيمنت عليه القوى الغربية لعقود.

بكين – استضافت مدينة تيانجين شمال الصين أمس الثلاثاء قمة منظمة شنغهاي للتعاون في ظل ظروف دولية معقدة ومتغيرة، شارك فيها نحو 20 من قادة العالم، من بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، لتتحول هذه القمة إلى محطة محورية وحاسمة في عملية إعادة رسم موازين القوى في المنطقة والعالم.

وتأتي هذه القمة في توقيت حساس يهيمن عليه تصاعد التوترات الجيوسياسية والاقتصادية، بدءًا من الحرب المستمرة في أوكرانيا وصولا إلى النزاعات التجارية بين القوى الكبرى، وكذلك التحديات الأمنية التي تحيط بالدول الأعضاء، ما يجعلها منصة إستراتيجية لتوحيد الرؤى وصياغة تحالفات جديدة.

وباتت منظمة شنغهاي للتعاون، التي تأسست عام 2001، تضم اليوم 10 دول أعضاء و16 دولة بصفة مراقب أو شريك، وتمثل ما يقرب من نصف سكان العالم، ويُقدّر ناتجها المحلي الإجمالي بحوالي 23.5 في المئة من الاقتصاد العالمي. ويقول مراقبون إن هذا الحجم الكبير يعطيها ثقلا سياسيا واقتصاديا، ويجعلها منافسا حقيقيا للنظم التقليدية التي تهيمن عليها الدول الغربية، وعلى رأسها حلف شمال الأطلسي (الناتو).

ولذلك تقدم المنظمة نفسها كبديل حقيقي عن نظام عالمي أحادي القطبية، يستند إلى احترام سيادة الدول وعدم السماح لأي دولة بتحقيق أمنها على حساب الآخرين، وهو المبدأ الذي أكده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال القمة. ويعكس التأكيد على هذا المبدأ تغيّرا جذريا في طبيعة العلاقات الدولية التي بدأت تتحول نحو نظام متعدد الأقطاب، يسعى إلى توزيع السلطة والنفوذ بشكل أكثر عدالة وتوازنًا.

ويقول المحلل السياسي الروسي ألكسندر ميلوف إن “تصريحات بوتين حول رفض أي دولة تحقيق أمنها على حساب الآخرين تعكس الموقف الروسي الواضح ضد الهيمنة الغربية، وخصوصًا حلف الناتو. منظمة شنغهاي للتعاون هي تجسيد لهذا الموقف، حيث تسعى لتوفير نظام أمني متعدد الأطراف يعكس مصالح أعضائها ويحمي سيادتها. هذه القمة مهمة أيضًا لأنها تجسد رغبة روسيا في تعزيز روابطها مع آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وتقليل اعتمادها على الغرب.”

وتتناسب هذه الرؤية مع مصالح الدول الأعضاء في المنظمة، التي تضم قوى صاعدة كالصين والهند وروسيا، وتسعى هذه الدول إلى حماية مصالحها وتعزيز دورها الدولي في ظل هيمنة القوى الغربية التقليدية، ورفض النماذج التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا.

ومع ذلك، لا تخلو المنظمة من تحديات داخلية، خاصة التنافس بين الصين والهند، أكبر دولتين سكانًا في العالم، على النفوذ في جنوب آسيا، والذي تجسد في الاشتباكات الحدودية عام 2020. وتشكل هذه الخلافات الإقليمية اختبارا حقيقيا لقدرة المنظمة على الحفاظ على وحدتها والتوافق بين أعضائها، لاسيما في ظل الضغوط الخارجية والتحديات العالمية التي تتطلب تعاونا مشتركا وتنسيقا عالي المستوى.

وتؤكد الخبيرة في السياسة الدولية بجامعة دلهي سونيتا راغاوان أنه “رغم وجود بعض الخلافات بين الهند والصين، فإن منظمة شنغهاي تشكل منصة حيوية لتعزيز الحوار والتعاون بين البلدين في ملفات كثيرة، خاصة الاقتصادية والأمنية. القمة الحالية تعكس إدراك كلا البلدين لضرورة تجاوز الخلافات الحدودية وبناء تحالفات اقتصادية وسياسية لمواجهة الضغوط الدولية، خصوصًا من الولايات المتحدة.”

ورغم هذه التوترات تعكف الصين والهند على تعزيز علاقتهما بشكل نسبي، خاصة مع التحديات الاقتصادية التي فرضتها السياسات الأميركية مثل الرسوم الجمركية، ما يدل على قدرة المنظمة على تجاوز خلافاتها لتحقيق مصالح أعضائها المشتركة.

وتأتي القمة في سياق جيوسياسي يشهد تزايد النزاعات والتوترات الأمنية، مثل الحرب في أوكرانيا التي تلقي بظلالها على استقرار المنطقة، والنزاع النووي الإيراني الذي يشكل تهديدا لأمن المنطقة والعالم. ومن هذا المنطلق تمثل القمة للأعضاء فرصة لوضع إستراتيجيات مشتركة للتعامل مع هذه التحديات، عبر تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي والاقتصادي، وبناء جبهات متماسكة في مواجهة الضغوط الغربية.

وبالإضافة إلى ذلك تبرز أهمية القمة في تعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء، التي تواجه تحديات كبيرة في ظل التغيرات العالمية، مثل التقلبات في الأسواق وضغوط العولمة وتأثيرات الجائحة على سلاسل الإمداد. ومن خلال التعاون الاقتصادي والتنمية المشتركة تسعى المنظمة إلى تقوية الاقتصاديات الوطنية وتحسين الظروف المعيشية لشعوبها، ما يعزز استقرارها السياسي والاجتماعي ويقلل من فرص الصراعات الداخلية.

وعلى الصعيد الإستراتيجي تؤكد هذه القمة أن منظمة شنغهاي للتعاون لم تعد مجرد منتدى للتشاور بين الدول، بل تحولت إلى منصة مؤثرة لتشكيل التحالفات الجديدة وإعادة توزيع النفوذ العالمي، ما يؤثر بشكل مباشر على السياسات الدولية وموازين القوى.

ويرى الخبير في العلاقات الدولية بجامعة بكين لي وين أن “قمة تيانجين تؤكد أن منظمة شنغهاي للتعاون لم تعد مجرد إطار تشاوري، بل أصبحت لاعبًا أساسيًا في المشهد الدولي. بوجود قوى كبرى مثل الصين وروسيا والهند، فإن المنظمة تقدم نموذجًا بديلًا عن نظام عالمي متعدد الأقطاب يوازن بين النفوذ الغربي والشرقي.”

ويضيف وين “من المهم أن نلاحظ أن المنظمة تسعى لتعزيز الأمن الجماعي والاقتصاد المشترك، ما يعكس رغبة أعضائها في بناء تعاون مستدام بعيدًا عن النزاعات التقليدية.” وباتت المنظمة تلعب دورا متزايد الأهمية في صياغة سياسات الأمن الإقليمي والعالمي، وتوسيع نطاق التعاون في مجالات الأمن الاقتصادي ومكافحة الإرهاب وتنسيق السياسات المناخية والبيئية.

وتمثل قمة تيانجين محطة فاصلة في تاريخ منظمة شنغهاي للتعاون، إذ تتجاوز الأبعاد التقليدية للاجتماعات الدولية لتكون نقطة انطلاق حقيقية نحو بناء نظام دولي جديد متعدد الأقطاب. ويسعى هذا النظام إلى تحقيق توازن أفضل في العلاقات الدولية، ويحاول إرساء قواعد عادلة تضمن مصالح جميع الدول دون استثناء، في مواجهة نظام أُحادي القطبية هيمن على العالم لعقود.

وفي ظل الأزمات والتحديات العالمية المتزايدة، يبدو أن هذه القمة تمثل بداية فصل جديد في رسم مستقبل السياسة العالمية، من خلال تحالفات إستراتيجية تعتمد على القوة المشتركة والتعاون المتبادل بعيدًا عن النزاعات والصراعات التي طالما شكلت عقبة أمام السلام والتنمية.