أعتقد أنه إذا أردنا فهم حقيقة الأحداث الجارية والحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران على الجغرافيا الممتدة من تل أبيب وغزة إلى لبنان، مع مرور اضطراري أحيانا في العراق واليمن، وصولا إلى إيران، لا بد من البحث بعمق في الأسباب لتلك الحرب وحالة الاشتباك المتجددة، وأن لا نغرق في تفاصيل الأحداث الجارية، التي بكل تأكيد ستجعلنا نطفو على سطح تحولاتها، لتأخذنا إلى التركيز على تطوراتها المتلاحقة، دون فهم أساس الحالة التي تعيشها المنطقة منذ عقود، والاستمرار في توصيف الواقع دون فهم مستقبل ونهاية هذا الصراع المتدحرج عبر الجغرافيا والزمن.
قد أزعم أن ما حدث في 7 أكتوبر جعل الجميع ينظر لإشكالية الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية كأنها قد بدأت عند ذلك التاريخ، بسبب حجم وشكل الحدث “الهوليوودي” الصادم الذي فجر الوضع في ذلك اليوم، وما نتج عنه بعده من متوالية الأحداث، التي تطورت إلى حالة اشتباك مباشر امتدت من تل أبيب إلى طهران. في رأيي، النقطة أو الحقيقة التي يجب أن نبدأ منها لفهم الواقع المستدام لتدحرج براميل البارود، وسخونة فوهات البنادق والمدافع في المنطقة، تكمن في باطن تراكمية اختلال البنية السياسية والأمنية، وغياب عدالة حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني، الذي ظلت قضيته عالقة بين ظلم المحتل وتخاذل الإرادة الدولية.
تلك القضية العادلة “العالقة” بين زوايا الجغرافيا والتاريخ، شكلت بدورها بيئة حاضنة للنفوذ الأيديولوجي، والميليشيات المسلحة العابرة للحدود، التي تمحورت حول القضية الفلسطينية، التي أصبحت نقطة التوتر المركزية في المنطقة. في العودة إلى مقاربات النظرية الواقعية، سنجد أنها تستند على إدارة انعدام الأمن والاستقرار إلى مسألة توازن القوة. حيث تُفهم القوة بأنها القدرة على كسب الحرب، وكلما شعر طرف ما بأن لديه فائضا من القوة يجعله قادرا على تحقيق النصر، الذي يمكنه من بسط نفوذه، كلما كانت هناك فرص أكبر للحرب وفرص أقل للسلام.
عاشت المنطقة منذ 2003 إلى اليوم حالة من الفوضى وانفلات إيقاع ضبط موازين القوة، فأصبح لدينا تغول لقوى مسلحة خارج إطار الدولة، مدعومة من دولة هي في طبيعة تكوينها وبنيتها الفكرية متمردة على النظام الدولي. عمليا، يكون توازن القوة عاملا مساعدا في ضبط عقلية الحروب، ما يجعل إستراتيجية الحرب أكثر عقلانية، الأمر الذي يؤدي في الغالب إلى تفادي الحرب، واتساع المساحة الزمنية بين حرب وأخرى، ما يعني أن فرصة السلام هي السائدة. للأسف، تعاني منطقة الشرق الأوسط حالة مزمنة من عدم توازن القوة، ما جعلها منذ عام 1948 تعيش حالة من متتالية الحروب، بلغ عددها ما يقرب من 15 حربا إلى الآن. في العودة إلى تاريخ تلك الحروب، سنجد أنه مع الوقت حدث تحول في تطور ديناميكية الحرب وتوسع جغرافيتها.
التحول الأول قد حدث في ظل الحرب الأهلية في لبنان 1975 – 1990، حيث دخلت لأول مرة القوات الإسرائيلية إلى بيروت لتجريف بنية قوات منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، وطرد ما تبقى من مقاتلي المنظمة وقياداتها من لبنان. الحالة الثانية كانت عبارة عن تدشين جغرافية حرب جديدة بعيدا عن إسرائيل ودول الطوق، حيث كانت حرب الخليج الأولى، التي كانت نتاجا لتراكمية اختلال البنية السياسية والأمنية في زاوية أخرى من زوايا المنطقة. بذلك بدأت منطقة الخليج العربي تأخذ نصيبا مفروضا من براميل البارود المتدحرجة من حروب الشرق الأوسط، وقد أجد في حرب الخليج الأولى مثالا متقدما لظرفية اختلال موازين القوة في هذه المنطقة الفرعية من قوس الصراع المتشابك. لتقريب الصورة، أعود إلى الثورة الخمينية في إيران عام 1979، فعند تلك اللحظة الحرجة، وفي تلك الرقعة الجغرافية المتصادمة مع التاريخ، حدث نوع من اختلال حقيقي في ميزان القوة بين جارين لدودين. عندما وجدت القيادة العراقية أن اللحظة مواتية لاستعادة الحقوق والتاريخ، وفرض الهيمنة وقيادة المنطقة.
كما أن الحاجة الظرفية كانت حاضرة لدى الخميني، لنقل إشكاليات ومهددات تعثر الثورة من الداخل إلى الخارج، وتوحيد الجبهة الداخلية على بندقية جبهات الحرب في مواجهة العراق. عادة وكنتاج طبيعي بعد نهاية أي حرب، تتجدد وتتعمق إشكالية اختلال موازين القوة بين الأقطاب المتنافسة، ما يؤدي إلى تحفيز البيئة الإقليمية لإشعال حرب جديدة أخرى. ذلك ما حدث بعد أن خرج صدام حسين من حرب الثمانية أعوام منهكا اقتصاديا، مع وجود فائض من القوة العسكرية في يديه، الأمر الذي دفعه ليرسل جيشه لاحتلال جارته الكويت، فكانت كارثة حرب الخليج الثانية (1990 – 1991). تلك الحرب خلقت وضعا جيوسياسيا معقدا، أدى إلى تراكمية تعميق واقع أكثر دراماتيكيا في اتجاه ضرب قواعد موازين القوة من جديد لينتج عنه زلزال جيوسياسي، عندما قررت الولايات المتحدة غزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين في عام 2003.
ذلك المتغير الجيوسياسي صنع حالة من التهتك الأمني، والبيئة الرخوة في المنطقة، نجحت إيران في اختراقها، وأصبحت بعد ذلك قوة عابرة متغولة، خلقت حالة من تفكيك البنية الأمنية الضابطة، وقدمت مشروعها الطائفي والميليشيات المسلحة على حساب الدولة الوطنية، بدءا من مركزها الأول في لبنان إلى بغداد وصنعاء مرورا بسوريا بدرجة ما. تلك الفوضى التي فرضتها إيران، سمحت لها بأن تتجاوز كونها مجرد امتداد لتأثير نفوذ وتوسيع دائرة مجالها الحيوي، لتتحول تلك المناطق إلى خط دفاع متقدم لها، يبدأ من جنوب لبنان، مرورا بقوس النيران الذي صنعته حول المنطقة الذي وصل طرفه الآخر عند باب المندب. حدث كل ذلك في ظل توسع المشروع الإيراني بفعل اختلال موازين القوة، على حساب منافسيها الإقليميين من الدول العربية. مع تطور ذلك الواقع الجيوسياسي الفوضوي، وصل المشروع الإيراني إلى نقطة الاصطدام الحتمية مع المشروع الإسرائيلي المنافس.
عملت إيران في محاولة منها لتعويض فائض القوة التقنية والعلمية، والصناعة العسكرية المتقدمة، التي تتفوق بها إسرائيل عليها، على تبني مقاربة التطويق الجغرافي، وتعظيم فائض قوة الميليشيات المسلحة، خاصة حزب الله في لبنان، ومن ثم الاقتراب إلى داخل الجغرافيا المباشرة لإسرائيل بشكل أعمق من خلال حماس والجهاد. عممت إيران إستراتيجية قوس النيران بالتطويق الجغرافي على باقي جغرافيا المنطقة، حيث واصلت تمددها، لتصنع لها تواجدا جيوسياسيا في الزاوية الجنوبية لجزيرة العرب، لتستولي بوضع اليد على مفتاح آخر يتحكم في شريان الاقتصاد العالمي، وتحقيق السيطرة على تقاطع خطوط المواصلات البحرية، الممتدة من مضيق هرمز إلى مضيق باب المندب والبحر الأحمر.
تلك المقاربة المعتمدة على التطويق الجغرافي التي تبنتها إيران، هي محاولة لسد الفجوة في فائض نوعية وكفاءة القوة والقدرات بينها وبين إسرائيل، في ذات الوقت عمقت اختلال حالة البيئة الأمنية القريبة المتاخمة للحدود السعودية ودول الخليج العربية. في رأيي أن هذا الواقع الذي تعيشه المنطقة من اختلال في موازين القوة المستدام، عمل على دحرجة براميل البارود، وصنع حالة مزمنة من متتالية دورات الاشتباك والحروب، على حساب مساحة دورة السلم والاستقرار. في ظل ذلك الواقع، لا يمكن أن نغفل أن إيران استخدمت الأيديولوجيا سلاحا عابرا للحدود، ليعوض عدم شرعية تمددها، وليكون وقودا وقوة دافعة مستدامة لمشروعها في مواجهة إسرائيل ومنافسيها العرب السنة.
من جهة أخرى، عملت إيران في تدعيم إستراتيجياتها، بصنع قوة ردع موازية، من خلال إنتاج كثافة عالية من القدرات الصاروخية الباليستية، لتصبح لها يدا طويلة، تحقق من خلالها درجة من الردع لتثبيت تواجدها الجغرافي، والحد من قدرة إسرائيل على تجاوز قواعد الاشتباك التي تنظم حالة التصعيد العسكري بينهما. إلا أن الواقع الذي تفرضه إسرائيل في هذه المرحلة، بتفوّقها الجوي، وقدراتها العسكرية باستخدام الذكاء الاصطناعي، واختراقها لعمق المنظومة الأمنية لإيران وحزب الله، صنع واقعا صعبا، حيث كسر حاجز توازن الرعب، خاصة بعد أن نجحت إسرائيل في إستراتيجية “هدم جدران إيران” بدءا من حماس في غزة، وكذلك الحال الذي يجري اليوم من تجريف لقدرات حزب الله في لبنان.
بسقوط تلك الجدران التي تحتمي بها إيران، كخطوط دفاع متقدمة لها، انكشفت وأصبحت في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. أعتقد أن اليوم هناك واقعا جديدا يتشكل، وبدأت في الأفق حالة من الإفلاس الجيوسياسي تطرق بوابة طهران، جراء تصفير أو تراجع قوة ونفوذ الميليشيات على طول قوس النيران الذي شدته عبر عقود حول المنطقة. مع الواقع الذي سيتشكل على ضوء نتائج الحرب الدائرة، وما سينتج عنها من تغيير في الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، ستخلق حالة جديدة من اختلال توازن القوة لصالح إسرائيل بشكل أحادي متطرف. أعتقد أن ذلك الاختلال في الميزان الذي بدأ يطل برأسه، سيدفع إيران نحو الهرولة بجدية في تعجيل تطوير مشروعها النووي، وإنتاج قنبلتها النووية، حيث خيارها الوحيد للعودة، وتجاوز اختلال وضعها الجيوسياسي، لاستعادة مكانها في سباق موازين القوة ضد منافسيها.
لذا أرى أن هناك اليوم ضرورة أصبحت أكثر إلحاحا في تصفية المشروع النووي الإيراني، بشكل مواز مع تصفية ميليشياتها، وإلا ستظل المنطقة في ذات دائرة الصراع المتجدد، ما سيخلق بعدا جديدا من تعاظم مفهوم الصراع في المنطقة، سيكون محوره سباق التسلح النووي. عمليا لعبت الولايات المتحدة دورا كبيرا في خلق هذه الحالة من الاختلال في موازين القوة الذي تدفع ثمنه دول المنطقة، عندما قامت بغزو العراق، وأسقطت الدولة العراقية وحل مؤسسة الجيش العراقي، وصنعت بذلك فراغا أمنيا وسياسيا، استغلته إيران في تعميق مشروعها القائم على الطائفية، ما مكنها من خلق بيئة اشتعال متدحرجة، مكنتها من أن تصبح قوة متمكنة على الجغرافيا العربية، صنعت من خلالها قواعد جديدة لميزان القوة في المنطقة.
في رأيي، إذا ظلت المنطقة في تكرار حالة عدم ضبط تلك الحالة من اختلال موازين القوة، ستظل براميل البارود تتدحرج لتفجر حروبا أخرى متجددة. المنطقة في الأصل بحاجة إلى عدالة في حل قضيتها الأساسية وإنصاف الشعب الفلسطيني في حق إقامة دولته على حدود 67، مع إيجاد صيغة مناسبة لتحقيق حالة من تعديل موازين القوة، من خلال تبني وتفعيل الإستراتيجية الإماراتية في تصفير الخلافات وتفكيك الملفات العالقة، من خلال تشبيك جسور الجغرافيا الاقتصادية، على حساب مشاريع التنافس الجيوسياسي. لتتحقق تلك الإستراتيجية، لا بد من إرادة دولية في تحرير المنطقة من عوامل الاستقطاب الدولي، والضغط في اتجاه تبريد حدة التنافسية الجيوسياسية في صالح البيئة الاقتصادية التكاملية، لتتمكن المنطقة من تجاوز حالة الصراع وإيقاف براميل البارود المتدحرجة.