روسيا تسعى للاستفادة من وضع التصعيد في الشرق الأوسط، ما يحقق لها أهدافا من بينها إلهاء الأميركيين عن التركيز على حكم أوكرانيا، وكذلك إظهار أهميتها لـ”محور المقاومة” الذي تقوده إيران. والأهم توجيه نظر دول الجنوب إلى فكرة أن الحرب صراع بين عالم الجنوب ودول الغرب لإحياء قطبية عالمية جديدة.
لعب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد يومين دور صانع السلام في الشرق الأوسط في اجتماع مع صحافيين من دول مجموعة بريكس قبل قمة هذا الأسبوع. وقال إن موسكو مستعدة لفعل كل ما في وسعها لإنهاء ما وصفه بـ”الضربات الرهيبة على أهداف مدنية في قطاع غزة” وعرض التوسط. وأضاف بوتين “آمل بشدة أن يمكن تجنب تصعيد هذا الصراع”.
وأصابت الغارات الجوية الروسية ورشة أثاث ومنشرة أخشاب ومعصرة زيتون في محافظة إدلب السورية في 16 أكتوبر. وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان ومقره بريطانيا ومنظمة الخوذ البيضاء الدفاعية المدنية التطوعية إن الهجوم أسفر عن مقتل 10 مدنيين، ومن بينهم طفل.
ويتناقض القصف الروسي المميت في سوريا مع هذا الادعاء. لكن الرغبة في تجنب حرب أوسع قد تكون حقيقية لأنها تهدد بخسارة الروس للوضع الحالي.
ويرى محللون أنّ الكرملين مرتاح لمستوى العنف في الشرق الأوسط لأنه يستطيع الاستفادة من الفوضى لتعزيز مصالحه الخاصة في المنطقة وفي أوكرانيا وفي جميع أنحاء العالم. لكن موسكو تشعر بالقلق من التصعيد. ونقل موقع أويل برايس الأميركي عن ثاناسيس كامبانيس، مدير سينشري إنترناشيونال، وهو مركز الأبحاث والسياسات الدولي التابع لمؤسسة القرن الفكرية ومقرها الولايات المتحدة، قوله إن “الحرب والسياسة الأميركية الفوضوية سهّلا على روسيا المناورة” في الشرق الأوسط.
وتجعل عدة أسباب المستوى الحالي من إراقة الدماء والتقلبات في الشرق الأوسط مناسبا لموسكو. ومنها ما تسمّيه هانا نوت، خبيرة السياسة الخارجية الروسية المقيمة في برلين “عائد الإلهاء”. بعبارات أخرى، تجذب الأزمة انتباه العالم بعيدا عن أوكرانيا، حيث تقتل قوات موسكو المدنيين يوميا تقريبا في غزو وحشي يتجه إلى عام رابع دون نهاية واضحة في الأفق.
ويجبر الوضع الحالي واشنطن وحلفاءها على إنفاق الأموال والأسلحة والموارد في الشرق الأوسط حتى في الوقت الذي يكافحون فيه لإبقاء روسيا تحت السيطرة في حرب أوروبية ستخلّف عواقب وخيمة على الغرب.
كما تتوفر ميزة دعائية إضافة إلى الفائدة العملية. وقد تكون أكثر أهمية لبوتين، الذي يصف الحرب في أوكرانيا بكونها جزءا من مواجهة حضارية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ويسعى إلى جذب أكبر قدر ممكن من العالم إلى جانب روسيا وجعل الحرب كما لو أنها حرب جنوب العالم ضد الغرب.
وقالت نوت، وهي زميلة بارزة في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، لإذاعة أوروبا الحرة أن المواجهة مع الغرب حول أوكرانيا أصبحت المنطق المحدد الذي يقود السياسة الروسية في الشرق الأوسط منذ انطلاق الغزو سنة 2022.
وتصبح بذلك الهجمات الإسرائيلية في غزة ولبنان فرصة لموسكو خلال مرحلة تتودد فيها إلى بلدان الجنوب العالمي وحول العالم، وتصور العنف في الشرق الأوسط على أنه نتاج سياسات الغرب (والولايات المتحدة خاصة) المضللة والمدمرة.
وقال أليكس فاتانكا، المدير المؤسس لبرنامج إيران في معهد الشرق الأوسط ومقره واشنطن، إن الكرملين يرى في استغلال أزمة الشرق الأوسط والحرب في غزة ولبنان ضد واشنطن “أمرا لا يحتاج إلى تفكير”.
وأكد أن هذا يضر بالولايات المتحدة محليا وفي الشرق الأوسط ودوليا.
ولكن لنفوذ روسيا في الشرق الأوسط حدوده. ويمكن أن تحاول روسيا التفوق على وزنها في المنطقة، مدعية دورا كبيرا دون الحاجة إلى فعل الكثير. لكن اندلاع حرب أوسع نطاقا يمكن أن يكشف نقاط الضعف هذه.
وقالت نوت إن الحرب ضد أوكرانيا غذت “ميل موسكو المتزايد نحو القوى المعادية للغرب في المنطقة”.
ويعني هذا إيران، التي تزود روسيا بالأسلحة والمسيرات وتساعدها على الالتفاف على العقوبات، وما تسميه طهران “محور المقاومة” الذي يشمل حركة حماس، وحزب الله في لبنان (الذي تصنفه الولايات المتحدة منظمة إرهابية ويدرج الاتحاد الأوروبي جناحه المسلح على القائمة السوداء)، والحوثيين في اليمن.
ولا تزال روسيا منخرطة في عملية توازن في الشرق الأوسط. ولا تريد أن تُنفّر إسرائيل أو دول الخليج كثيرا. وهي ترسل إشارات تهدئة لمختلف الأطراف، بما في ذلك لإسرائيل أو لحماس نفسها من خلال استضافة وفد منها واستقباله من دوائر رسمية لتبدو موسكو حريصة على رعاية حوار لوقف الحرب. كما ترسل مبعوثيها إلى إيران ودول الخليج للحفاظ على صورة البلد الذي يوفر عنصر التوازن في الشرق الأوسط.
وتجد على الجانب الآخر فرصة ضئيلة شبه معدومة لتوجيه دول المنطقة ضد الولايات المتحدة، حتى لو كانت مفيدة لها في بعض المجالات.
وقال فاتانكا إن في روسيا وإيران “نظامين مختلفين جدا ونظرتين للعالم متباينتين كثيرا” وتوحدهما أساسا معاداة الولايات المتحدة.
وتابع “هل يمكن أن تعمل روسيا على توسيع هذا النموذج ليشمل… دولا أخرى في المنطقة، مثل تركيا؟ الجواب هو لا. فمجرد انضمام دولة ما إلى منظمة شنغهاي للتعاون أو بريكس لا يعني أنها على استعداد للقفز إلى الجانب الآخر… والتخلي عن الولايات المتحدة”.
ورغم التصريحات والمعاهدات الدافئة (مثل اتفاقية “الشراكة الإستراتيجية الشاملة” التي من المتوقع أن توقعها روسيا قريبا مع إيران)، لا يصل احتضان موسكو لطهران وحلفائها الحد الذي يتصوره الكرملين، على الأقل في الوقت الحالي.
وقال فاتانكا إن “الروس… لا يريدون تمكين محور المقاومة، بل يهدفون إلى استغلاله”.
وذكر أن بوتين يريد اليوم الحفاظ على الوضع الراهن في المنطقة، بقدر ما هو خطير ودموي. ويتفق آخرون مع هذا الرأي. وقالت نوت إن “حجم التوتر والتطورات لم تهدد حتى الآن المصالح الروسية أو مواقفها في المنطقة. لكن يمكننا أن نتجاوز نقطة التحول نوعا ما، خاصة إذا شنّت إسرائيل هجمات على إيران، أو شهدنا تدهورا كبيرا في سوريا، حيث يمكن أن يتغير هذا التوازن و… إذا أصبحت المخاطر تفوق بعض الفوائد”.
وأضافت أن موسكو لم ترغب في رؤية وضع في سوريا يكون فيه عدم الاستقرار كبيرا إلى درجة تجبرها على تكثيف جهودها في المنطقة، لأن الحرب في أوكرانيا هي أولويتها وتتطلب منها الكثير من الموارد.
وأكدت أن الهجوم الإسرائيلي على إيران يمكن أن يسلط ضغطا على صناعتها الدفاعية “وهو أمر ربما لا تريد روسيا رؤيته بسبب الشراكة المعززة التي تربطها بالإيرانيين”.
الكرملين مرتاح للمستوى الحالي من العنف في الشرق الأوسط لأنه يستفيد من الفوضى لتعزيز مصالحه الخاصة في المنطقة
وتابعت قائلة إن السيناريو الذي يهاجم فيه الإسرائيليون إيران قد يكشف عن عجز روسي “لأنني لا أرى روسيا قادرة على التدخل في الدفاع عن إيران في حالة حدوث هذا النوع من التصعيد والانتقام الإسرائيلي. وقد تضطر روسيا إلى الجلوس على الهامش، وهو ما يمكن أن… يضر بسمعتها”.
وترى أن موسكو ستواصل السعي لمحاولة الحفاظ على التوازن. ولكن “كلما تعرض محور المقاومة إلى ضغوط في المنطقة، رأينا أيضا روسيا تقدم مساعدة معينة لشركاء إيران مثل الحوثيين وحزب الله. وبهذا قد تصبح روسيا في موقع متقدّم أكثر”.
وذكر تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الخميس أن روسيا قدّمت بيانات للمتمردين الحوثيين اليمنيين لمساعدتهم في مهاجمة سفن غربية في البحر الأحمر.
ووفقا للصحيفة الأميركية، تمكن الحوثيون من استخدام بيانات الأقمار الصناعية الروسية التي نقلها وسطاء إيرانيون، لاستهداف سفن بصواريخ باليستية ومسيّرات.
ونسبت الصحيفة هذه المعلومات إلى “مصدر مطلع على الملف” وإلى “مسؤولَيْن أوروبيَّيْن في مجال الدفاع”.