الرئيسية / أخبار / نهاية الشيعية السياسية في لبنان

نهاية الشيعية السياسية في لبنان

ظهر مفهوم “المارونية السياسية” في الخطاب السياسي اللبناني قبل اندلاع الحرب الأهلية (1975 – 1990). واعتمدته القوى الإسلامية واليسارية لكونه يتحدى ما كان يعتبر الدور المهيمن (وغير المبرر) للطائفة المارونية الكاثوليكية داخل النظام السياسي الطائفي في لبنان. ومثلت المارونية السياسية رغبة القادة الموارنة في تشكيل سياسات لبنان الداخلية والخارجية دون خسارة امتيازاتهم ونفوذهم. وكان ذلك في الغالب بتحريف الديمقراطية والاستفادة من التدخل الأجنبي. وتلاشى هذا اليوم لأن الموارنة لم يعودوا مرتبطين بهذا النوع من السلطة. وظهرت “الشيعية السياسية” في المقابل.

وأصبحت الجماعات الشيعية المدعومة من إيران وفروعها وحلفاؤها القوة المهيمنة في سياسات العراق وسوريا ولبنان واليمن منذ الإطاحة بصدام حسين في 2003. واحتفظ الفاعلون من غير الشيعة ببعض الأدوار في الشؤون الداخلية بلبنان والعراق بفضل الهياكل الديمقراطية. لكن الكلمة الأخيرة في السياسة الأمنية والخارجية والاقتصادية ترجع إلى الجماعات الشيعية وحلفائها بالتشاور مع طهران.

وجاء في تقرير نشره موقع “سيريا إن ترانزيشن” (سوريا في طور الانتقال) أن الأمر لا يقتصر على كون الدول الأربع “تحت النفوذ الإيراني”، بل اعتبر الشيعة هذه البلدان ملكا لهم، وكان على الجميع إعادة التكيف مع هذا التصور.

وأصبحت روايتهم المعادية للغرب هي رواية الدولة، وأصبحت تحالفاتهم (والأعباء الأمنية) معممة على الدولة.

ويُغتال السياسيون في طريقهم، وتُسحق كل انتفاضة شعبية. أما إذا تبين أن الانتصار على المعارضة الداخلية مهمة يصعب تحقيقها فإن التعاون مع الولايات المتحدة وروسيا يصبح أمرا مبررا بتعلة “مكافحة الإرهاب”، مثلما حدث في العراق وسوريا. وتصبح حماية “الأمن القومي الشيعي” أمرا واقعا.

وتمر اليوم عشرون سنة على ظهور الحركة الشيعية السياسية (2003 – 2023). وكشف هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023 للجميع الأكاذيب المتأصلة التي تأسست عليها.

محور التسويق الكاذب

رغم المأساة التي تطغى على المشهد يجب الاحتفال بنهاية الشيعية السياسية، حيث تنتظرنا حقبة جديدة أكثر تفاؤلا

كان الاسم التجاري للحركة الشيعية السياسية هو “محور المقاومة”. وصور محور المقاومة المشروع الإيراني على أنه معاد للولايات المتحدة والصهيونية ويستحق التضامن والدعم العالميين. وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها تسويق مشروع من هذا النوع للعالم. ونجحت الخطة، حيث دافع العديد من اليساريين في أوروبا والولايات المتحدة على اتباع نهج ناعم تجاه إيران.

وكان التأكيد غير المجرب على أن أي مواجهة عسكرية مع محور المقاومة ستكون مدمرة جزءا لا يتجزأ من الرواية المنتشرة. وتواصل الترويج على نطاق واسع للانتصارات التي تحققت في الحرب بين إسرائيل وحزب الله سنة 2006 مثلا، حيث قيل إن الجماعة اللبنانية “دفعت إسرائيل إلى طريق مسدود”. لكنها كانت في الواقع انتصارات سياسية مشكوكا فيها انتزعت من بين فكي الهزيمة.

وكان التدخل الدبلوماسي للقادة العرب ورئيس الوزراء السني في 2006 هو الذي أنقذ حزب الله باتفاق وقف إطلاق النار. لكن ذلك لم يمنعه من إعلان فوزه، وهو ادعاء لم يطعن فيه أحد إلى حدّ كبير.

وقاتلت الجماعات الشيعية المتمردين السنّة في العراق، إلى جانب القوات الأميركية، وحاربت في سوريا تحت غطاء القوات الجوية الروسية. وكان الحوثيون في اليمن محظوظين بمواجهة الجيوش العربية التي تفتقر إلى القوات البرية الهجومية.

ولم يكن من المفترض أن يقاتل المحور جيشا حديثا يمتلك العدّة والعتاد، بل كان معدّا أساسا للعمليات الإرهابية والمناوشات ومواجهة المتمردين السنة. ولم تكن إيران تسعى أبدا للاصطدام بالولايات المتحدة أو إسرائيل، ناهيك عن هزيمتهما. وكان هدفها الحقيقي هو الضغط على الغرب ليعترف لها بمجال نفوذ؛ أي قبول قاعدة للشيعية السياسية في العالم العربي.

وكان البعض في الغرب على استعداد لمسايرة الأمر. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون،على سبيل المثال، راضيا بمشروع الطاقة الإيراني طالما كان الموارنة في لبنان بخير. ولكن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما هو الذي أيد، أكثر من أي زعيم غربي آخر، فكرة “أسهم إيران”، حيث استندت خطة العمل الشاملة المشتركة إلى تعليق النشاط النووي مقابل توسيع نفوذ إيران. ودفعت الشيعية السياسية عددا من مراكز الفكر الغربية وخبراء السياسة الخارجية إلى التحذير من اندلاع الحرب العالمية الثالثة في حالة تعرض إيران للأذى، ودعوا باستمرار إلى “حلول دبلوماسية” (أي الرضوخ لابتزاز طهران النووي).

الشماتة

مع استمرار نكسات حزب الله وتصفية قادة الحرس الثوري واحدا تلو الآخر، تبدو مستويات التضامن منخفضة في الشارع العربي

تزعم الأكاذيب في جوهر الشيعية السياسية كون إيران قوة عسكرية عظمى وأن هدفها هو هزيمة إسرائيل والولايات المتحدة. لكن الحقيقة برزت عندما قررت إسرائيل تغيير “قواعد الاشتباك”.

وشهدنا في غضون أسبوعين القضاء على حزب الله (جوهرة التاج) من خلال تفجير أجهزة البيجر والغارات الجوية المستهدفة التي قتلت حسن نصرالله وخليفته إلى جانب العشرات من كبار القادة، وجرحت حوالي 3 آلاف عضو، خسر العديد منهم عيونهم وأطرافهم.

وفرّ قادة قوات الحشد الشعبي العراقية بسرعة إلى إيران، ونجح ترويع الحوثيين في اليمن بعد عملية قصف إسرائيلي واحد، ويبدو أن بشار الأسد اختار البقاء متفرجا على الصراع الدائر. وقدمت ترسانة إيران من الصواريخ عرضا خفيفا مثيرا فوق تل أبيب. وكلما حاولت إيران ووكلاؤها المقاومة، زاد الإذلال الذي تكبدته.

وكانت صدمة الهزيمة مدوية للمجتمعات الشيعية في المنطقة. وكان مقاتلو حزب الله فرحين في 2015، وهم يحاصرون البلدات السورية ويجوعون سكانها لإخضاعهم، ويسخرون من السنة السوريين بينما يجبرونهم على ركوب الحافلات الخضراء المخيفة إلى المنفى في محافظة إدلب السورية.

وكانت الغطرسة التي أظهرها القادة والمعلقون الشيعة تجاه الجماعات الأخرى، و”القوة المفرطة” التي تفاخروا بها، وتجاهلهم التام للأطر القانونية أو الدستورية، وهو ما جعل أعداءهم الكثيرين ينظرون إليهم الآن بعين الشماتة، ولن يرضوا اليوم بأقل من نزع سلاح حزب الله وعودة السيادة الكاملة إلى الدولة في ظل الديمقراطية المناسبة.

ومع استمرار نكسات حزب الله وتصفية قادة الحرس الثوري واحدا تلو الآخر، تبدو مستويات التضامن منخفضة في الشارع العربي.

ويرجع ذلك جزئيا إلى التعب من التضامن بعد عام من مشاهدة إسرائيل تقتل الفلسطينيين في غزة. لكن العامل الرئيسي هو أن العرب لم يعودوا ينخدعون بسهولة. وتغنيهم وسائل التواصل الاجتماعي عن الاعتماد على قناة الجزيرة التي كانت تملي عليهم ما يفكرون فيه.

ويدرك معظم العرب أن الدول التي تحكمها الشيعية السياسية تميل إلى أن تكون ضعيفة ومشلولة، بسبب سوء الخدمات والفساد المستشري. ويرون نهب السياسيين الشيعة الموالين لإيران لعائدات النفط العراقية، وأن لبنان أفلس تحت قيادة حزب الله وحلفائه المسيحيين. كما يرون أن يد إيران التوجيهية حولت سوريا إلى دولة مخدرات محطمة تماما، واليمن إلى دولة لا تستطيع دفع رواتب موظفيها المدنيين. ويدركون في نفس الوقت أن حلفاء الولايات المتحدة العرب هم الذين يتمتعون بالرخاء الاقتصادي.

العروبة العقلانية

معظم العرب يدركون أن الدول التي تحكمها الشيعية السياسية تميل إلى أن تكون ضعيفة ومشلولة، بسبب سوء الخدمات والفساد المستشري

في رواية جون لو كاريه “سمايليزبيبول”، يتأمل الجاسوس البريطاني جورج سمايلي في شخصية كارلا، نظيره في الاستخبارات السوفييتية. ويقول “إنه متعصب، والمتعصب يخفي دائما شكا سريا”.

ووراء الدعاية والخطط الذكية التي يبثها المرشد الإيراني علي خامنئي وجنرالاته في الحرس الثوري الإيراني، يجب أن نجد بالتأكيد شكوكا خاصة حول قدراتهم ووجاهة قضيتهم. ولا عجب هنا أن الموساد كان قادرا على اختراق إيران ووكلائها بشكل كامل. حتى أنه يقال إن الجنرال إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس الذي تتباهى به طهران كثيرا، يخضع للتحقيق لنقله معلومات استخباراتية إلى إسرائيل. ونتساءل هنا عمن يتجسس أيضا؟

ومن المؤكد أنه يصعب تعزيز الشيعية السياسية المبنية على وهم أن الشيعة مميزون لأنهم حزب الله الموعود. وعانى السنة بالطبع من أوهام مماثلة: القومية العربية (الناصرية والبعثية) والتطرف الإسلامي (الإخوان المسلمون والقاعدة وداعش). وتعلموا بالطريقة الصعبة أن الشعارات المنمقة والحلول الجذابة عاطفيا لا تجلب سوى الخراب. ويتعلم الشيعة الآن نفس الدرس، فلا يوجد بديل لما يجعل الدول قوية حقا (التعليم، والعمل الجاد، والتخطيط، والاقتصاد القوي، وحقوق المرأة، ومحاربة الفساد، ومؤسسات الدولة القوية والمستقرة، والسلام، وسيادة القانون، والتأمل الذاتي النقدي، والقدرة على الإصلاح الذاتي). بمعنى آخر، يتجاوز الأمر العروض العسكرية.

وبينما يواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلق إرثه، توقع أن تتخلى الفئران عن السفينة الإيرانية. ويخضع العديد من أولئك الذين خدموا طهران ذات يوم لتحول دمشقي ويعيدون اكتشاف ولائهم للعروبة والدولة القومية. وعندما يهدأ الغبار، فمن المرجح أن يفرح أولئك الذين اضطروا إلى تحمل حكم إيران القاسي وغير الكفء برؤية حكوماتهم حرة في اتخاذ الخيارات التي تخدمهم هم وليس مصلحة إيران.

العروبة العقلانية هي التي ستعوض الشيعية السياسية في البلدان المتحررة من سيطرة إيران، أي فكرة أن الكبرياء العربي لا ينبغي التعبير عنه بعنف، وأن العرب يمكن أن ينجحوا في العالم الحديث إذا تخلوا عن الطموحات العظيمة وغير الواقعية وركزوا على بناء مجتمعاتهم على أسس عقلانية.

ومن المفارقات أن تجسيد هذا يتجلى في المملكة العربية السعودية، زعيمة العالم العربي بلا منازع. وأصبح الوعد بإقامة دولة فلسطينية، والنهاية الرسمية للصراع العربي – الإسرائيلي، على عاتق الرياض اليوم.

يجب الاحتفال بنهاية الشيعية السياسية رغم المأساة التي تطغى على المشهد، حيث تنتظرنا حقبة جديدة أكثر تفاؤلا.