يتسم الصراع بين إسرائيل وإيران، والذي احتدم أخيرا بسبب الحرب الإسرائيلية المستمرّة على غزّة منذ السابع من أكتوبر الماضي بمفارقات عديدة، منها، مثلا، تباين مفردات القوة لدى الطرفين، فإيران تعتمد في صراعها مع إسرائيل على عمق استراتيجي كبير توفره مساحتها الواسعة (1.65 مليون كم مربع)، وعدد سكانها الكبير (85 مليون نسمة)، وموقعها الجيوسياسي الحساس (في قلب المنطقة الأوراسية)، فضلا عن مواردها الطبيعية الهائلة (ثاني أكبر احتياط من الغاز ورابع احتياط من النفط)، كما تتكئ إيران على إرث حضاري عميق وهوية قومية قوية ومتجذرة، لكنها من ناحية ثانية دولة معزولة تخضع لعقوبات دولية قاسية تحول بينها وبين الاندماج في النظام الدولي، والاستفادة من مكامن القوة لديها، لذلك تجدها تحتل مراتب اقتصادية وتنموية متأخرة بين دول المنطقة، كما أن علاقاتها بجيرانها صعبة ومعقّدة، بسبب نزعات هيمنة تتغذّى من تاريخ إمبريالي يضرب بجذوره عميقا في تاريخها، ومن إيديولوجيا مذهبية تسعى إلى التوسّع والانتشار. إسرائيل في المقابل، كيان مصطنع نشأ نتيجة لحل مشكلة أوروبية على حساب أحلام شعب آخر وتطلعاته، وهي تعد لذلك دولة غير طبيعية، دخيلة في محيطها، تواجه برفض منه على مستوى الرأي العام أقله. ولأنها تفتقر إلى عمق استراتيجي وقوة بشرية كبيرة تعتمد إسرائيل في بقائها على التكنولوجيا الحديثة، وعلاقتها الراسخة بالمؤسسات الغربية (الأكاديمية والاقتصادية والأمنية والعسكرية)، وتعدّ، الى حد كبير، امتدادا لها، كما تتكئ على علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة التي تضمن لها الحماية والتفوق في المجالات كافة. ونتيجة لذلك، تتقدّم إسرائيل على إيران في نواح عديدة، رغم الفارق الكبير في المساحة وعدد السكان والموارد الطبيعية، إذ تحتل المرتبة 28 بحجم الاقتصاد (530 مليارا بحسب تقديرات البنك الدولي لعام 2024)، في مقابل 460 مليارا لإيران التي تحتل المرتبة 34 على مستوى العالم. كما تتفوق إسرائيل عسكريا بامتلاكها أحدث الأسلحة الغربية.
المفارقة الرئيسة الثانية، أن الصراع بين إسرائيل وإيران، بخلاف أكثر الصراعات المعروفة في العالم، يجري بين دولتين لا اتصال جغرافياً بينهما، وهما لذلك تتواجهان عبر منطقة عازلة (Buffer Zone) بينهما (يشكّلها العرب في هذه الحالة). وفيما تمتنع الحرب التقليدية لهذا السبب بين الطرفين، لتعذر حشد جيوش متقابلة، تستخدم إيران وكلاء وأذرع محلية تخوض عبرها صراعها مع إسرائيل، وتشكل ما يسمى “طوق نار” حولها (Ring of Fire). إسرائيل، في المقابل، تواجه إيران مباشرة إنما بأدوات أمنية (اغتيالات، تخريب منشآت استراتيجية.. إلخ)، وعبر اختراق بُناها الأمنية والعسكرية والعلمية.
المفارقة الثالثة والأهم، أن إيران التي كرست جهودها خلال العقود الأربعة الماضية لتفكيك دول المنطقة العربية وإعادتها إلى حالتها الأولية (طوائف وقبائل وعشائر)، نجحت أخيراً في انتزاع قضية فلسطين كليّاً من أيدي العرب الذين رضوا بدور الجمهور المتفرّج على الصراع الدائر حاليا بينها وبين إسرائيل، يشجع بعضهم هذا ويشجع بعضهم الآخر ذاك. بتخلّيهم عن قضية فلسطين التي تعد، إذا تركنا البعد الأخلاقي الجوهري فيها، أحد أبرز نقاط قوة العرب منذ الاستقلال، إذ تجعل لهم قضية مركزية يلتفون حولها ودوراً ذا معنى وقيمة استراتيجية في العالم ناتجة عن صراعهم مع إسرائيل التي تعد امتداداً للسياسة الغربية التي تقف في مواجهة مع قوى كبرى أخرى في العالم (الاتحاد السوفييتي سابقا وروسيا والصين حاليا).
لقد ساهم العرب، الذين يشتكون من سياسات إيران وعدائيتها تجاههم، في تعزيز قدرتها على تهميشهم نتيجة تخليهم لها عن قضية فلسطين التي تستخدمها إيران مجانا لجني عائد كبير، إذ تواجه إسرائيل بدماء العرب وأموالهم وتحصد نتيجة ذلك مكاسب كبيرة، بما في ذلك تقويض مصداقية الحكومات العربية أمام شعوبها. منذ تخليهم عن قضية فلسطين صار العرب هامشيون في سياسات المنطقة والعالم (Irrelevant)، ولن يستردوا أهميتهم وقوتهم في مواجهة مشاريع إيران وإسرائيل، التي تستهدف تقويضهم، من دون استرداد ولايتهم على القضية الفلسطينية، التي كانت ويجب أن تبقى قضية عربية لا يجوز السماح لأحد باختطافها. وليس هناك خدمة أكبر يؤدّيها العرب لإيران أكثر من وضعهم قضية فلسطين في حضنها.