المهندس سليم البطاينة
يُجمع غالبية الباحثين ممن ربطوا مفهوم السياسة بعملية الإدارة والإصلاح على تعريفها بأنها فن الحكم وصناعة تدبير شؤون الدولة ،، وهو ما أسماه ( ابن خلدون ) بالسياسة العقلانية التي تُؤكد أن إصلاح الإدارة العامة للدولة هي قضية سياسية قبل كل شيء كونها مرآة للسياسة ولشكل النظام السياسي.
لن ندخل في باب تفسير هذا النظام لأن نواياه مكشوفة ، فـ كل دول العالم تسن قوانين وانظمة من أجل مصلحة الأغلبية لا الأقلية ،، لكن إذا تبين ان تلك القوانين والأنظمة ظالمة وتحدث اختلالاً في موازين العدالة الاجتماعية والاقتصادية لصالح الطبقات العليا فإنها تُراجع وتُعدل أو تُلغى ويُسن أصلح منها ، لأن تدهور الإدارة العامة للدولة لا يردعه إلا ميزان العدل.
وإذا ما سلمنا بأهمية هذا الطرح من الناحية الواقعية والاجتماعية ؛ فنحن أمام سلطة الأمر الواقع ، و خرجنا عن إطار الدستور ، وأصبحنا ننفذ وصفات ممنهجة لتفكيك الدولة ومؤسساتها ! لان الذي يحصل استقواء على طرف ضعيف لا حول ولا قوة له ،،، فهل تعي الدولة فقدان الموظف وظيفته في دولته التي ينتمي إليها ؟ وهل تعي النتائج المترتبة على وصول الموظف العام الى حالة نفسية وعقلية من الضياع وخوفه من مستقبل مجهول ،،، فـ موظفين القطاع العام هم منتوج اجتماعي ومولد شرعي غير لقيط ،، واداة إنتاج رئيسية تحوي ثروة المجتمع وذخيرته واستقراره ،،،، والاهم من كل ذلك أنهم صمام الأمان الأمني لاستقرار الدولة.
كثيرةٌ هي القوانين والأنظمة والتشريعات في الأردن لا يسع المجال لحصرها أفرغت الدستور من مضامينه كالعادة ! فقد اتسمت العقود الماضية بتصورات ليبرالية عديدة كان لها تأثير على مسار الإدارة العامة للدولة أهمها : اختلاف دور الدولة وغياب الرؤية الاستراتيجية في الإصلاح ، واختلال الجهاز التنفيذي نتيجة سوء السياسات وتحكم مجموعات شلليّة من أبناء التوريث والتدوير والترضيات لعقود من الزمن بمعظم مفاصل الإدارة العامة داخل أجهزة ومؤسسات الدولة ووزاراتها ! الأمر الذي تسبب في تأزيم هيكل العلاقة بين الدولة والنظام من جهة والشعب من جهة أخرى ،،،،، ناهيك عن التراجع في دور الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي ! والمُصيبة ان لا أحد منهم يجرؤ ان يعترف ان نصيبه من الفشل هو بمقدار نصيبه من المسؤولية.
أزمات الأردن تتوالد من بعضها البعض ! والجزء الأكبر منها هي من صُنع الحكومات ! فقد أصبحت أهم أدوات الفعل السياسي ! ودعونا هنا نرجع الى تقرير حالة البلاد الذي نشره المجلس الاقتصادي الاجتماعي قبل ٦ سنوات ،، الذي وصف الأردن بأنه يعيش حالة أزمة مُركبة متراكمة متعددة الأوجه تؤثر سلبا على مكونات المجتمع الأردني واستقراره ،،، فأوضاع الناس كما هو معروف تضطرب عندما توظّف السلطة آلياتها وقوانينها ضدهم !
الوطن الحقيقي هو من يصنع مستقبل أبنائه بعدالة ! لكن اياً كانت نتائج نظام الموارد البشرية الاستبدادي ! وما يحمله من مخاطر متوقعة ! فإن الواقع يشير أن ضحيته هم جيل القهر والامال الضائعة والمؤجلة من أبناء القرى والبوادي والمخيمات الذين أفنوا سنوات عمرهم في دراستهم الجامعية بغية الحصول على وظيفة تعيينهم !
الظلم كائن حي له تاريخ نشوء ومناخ وظروف ولحظة انفجار ، وعندما يدرك هؤلاء ان كل شيء يدار لحساب أبناء الطبقات العليا وليس لحساب شعب ووطن ! حينها تصبح المفردات والعبارات للدفاع عن الوطن والنظام غير مستساغة.
جدلٌ واسع يدور الآن حول نظام الموارد البشرية الجديد وخطورة تداعياته السيكولوجية والاجتماعية ، ممّا يستوجب إعادة حساباتنا واختياراتنا وفتح هذا الملف الذي يدار بطريقة الحَمَق واللاعقلانية ! وكشف الغطاء عنه وعن المسكوت الذي لا نراه ،، لكننا نرى أثره ونعلم نتائجه ،،،،،،، فـ هناك مؤسسات وهيئات وحتى وزارات انتهت مهمتها وفقدت صلاحيتها وأثبتت فشلها ، خُلقت وتم تفصيلها من أجل الترضيات وشراء الولاءات لم تقدم للأردن ولا للمستقبل شيئاً.
سأكون كغيري من أصحاب التحذيرات الاستباقية من خطورة تفعيل نظام الموارد البشرية الجديد ! فالفكرة في جوهرها هي شيطنة الإدارة داخل مؤسسات الدولة ،، وفتح الأبواب الخلفية لتعيينات من لديهم القوة والحضور والتعليم المميز ! فطبقية التعليم الحاصلة حالياً في الأردن ستقود إلى أخذ أبناء الميسورين من الطبقات العليا والحاكمة الوظائف والتنافس عليها دون غيرهم ! فهؤلاء تم تدريسهم وإعدادهم بطريقة ومنهج وأسلوب ينسجم مع تطورات المجتمع لهم مستقبلاً من حيث فرص العمل والمناصب العليا.
تُعرّف الأمور بأضدادها ! لكن اليوم تبدو الأمور أشد خطورة حين يجتمع الشيء وضده بنفس الوقت.
والواضح أن الحكومة لا تقبل النُصح ، ولا تقبل ليّ الذراع ! وليست مستعدة للتراجع عن تطبيق هكذا نظام ! وكأن قوس قزح الأردني لا يقبل إلا الأسود والأبيض ! وأنا على قناعة ان كلماتي تلك لن تجد صدى لدى من بيدهم زمام الأمور !! لكن سؤالي من يدفع بالأردن نحو التفكيك ؟
المرحلة القادمة لا تحتمل شراء الولاءات وإعادة التدوير وتوزيع العطايا ولا حتى الهبوط المظلي ،،، فـ الطريق الإصلاحية الحقيقية واضحة لمن يُريد أن يسلُكها ! وعملية الإصلاح ليست بالمستحيلة رغم مصاعبها وعظمة مشاكلها ،، لكنها تحتاج الى جدارة سياسية ترافقها حجة ومنطق ،،، فما حدث في ماليزيا قبل أكثر من ثلاثون عاماً ليس بالمعجزة ، بل كان نتيجة الانفتاح الفكري الموضوعي دون التفريط بثوابت العدالة والحقوق والحماية الاجتماعية.
إمّا إصلاحات حقيقية وإلا سنستمر بهذا التخبيص وهذه الأزمات الى ما لا نهاية.
المهندس البطاينة نائب سابق في البرلمان الاردني