مع تنحّي الرئيس الأميركي، جو بايدن، وتنازله عن المضيّ في الترشّح عن الحزب الديمقراطي، ودعمه نائبته كامالا هاريس لتأخذ مكانه قبل مُؤتمَر الحزب، تكون الحماسة قد عادت إلى الانتخابات الأميركية، ليس بين الحزبين وأتباعهما، بل في صعيد الدول وزعمائها في شتى أصقاع الأرض. يُؤكّد هذا أهميّة الولايات المتحدة زعيمةً للعالم، ويُؤكّد ترابط الملفّات الدولية وتشابك المصالح العالمية وتعقيداتها. يجادل بعضهم بأنّ سياسات الدول الراسخة مُؤسّساتها لا تتأثّر تأثّراً جذريّاً مع تغيّر الحكومات والقادة، ويضربون لذلك مثلاً أميركا ذاتها، عندما منعت المؤسّسات دونالد ترامب من سحب القوات الأميركية من سورية. ومع ذلك، يبقى الرئيس الأميركي صاحب النفوذ الأكبر في السياسة الخارجية، وهذا ما يمكن أن يطبع ولايةَ واحد من الرؤساء بطابعٍ مختلف عن غيره، فقد كان لترامب مثلاً سمة الارتجال والتصرّف بشخصنة متجاوزاً المؤسّسات، عكس بايدن الذي كان لمستشاريه ومساعديه دورٌ كبيرٌ في صنع القرارات الرئاسية، واتخاذ المواقف من الأحداث الدولية.
ينتظر الرئيسَ المُقبلَ، أيّاً كان، وضعٌ دولي قمّةً في التشابك والتوتّر والتعقيد. أوروبياً، تُقلق الحرب الروسية الأوكرانية الجميع، خاصّة الأوروبيين، الذين يرون في استمرارها استنزافاً دائماً لاقتصاد دولهم، ممّا يُؤثّر بصورة مباشرة في الانزياحات السياسية في الساحة الانتخابية، وهذا ما بدأت نتائجه تظهر من خلال فوز اليمين واليمين المُتطرّف في انتخابات البرلمان الأوروبي، وفي الانتخابات الوطنية، في العديد من دول الاتحاد الأوروبي. وفي إيران، استبق المُرشدُ علي خامنئي الاستحقاقَ الرئاسيَّ الأميركيَّ بتعميد رئيسٍ محسوبٍ على الإصلاحيين، وبهذا تُعاود إيران اللعب على وَتر الموازنة بين التشدّد والانفتاح، وهذا ما أوصلها مع الديمقراطيين أيّام باراك أوباما إلى اتّفاق حول ملفها النووي. فإذا جاء ترامب مُجدّداً وجب عليها الانحناء لعاصفة غضبه أربعة أعوامٍ أخرى، وتحمّل حصار شديد بالحد الأدنى، وحرب إسرائيلية بالحدّ الأقصى، بينما سيكون نهج هاريس امتداداً لسياسة سلفيها بايدن وأوباما، إذ لطالما كان الديمقراطيون أكثر قرباً إلى الإيرانيين. سنجد معاودة إلى ما بدأه أوباما بهذا الخصوص، سيعني هذا من حيث النتيجة مزيداً من التمدد الإيراني في الشرق الأوسط، وتدفّقاً غير محدود بالموارد المالية، باعتبار أنّ إيران ستُلحّ على فكّ الحجز عن أموالها في المصارف الأميركية، كما ستصرّ على رفع العقوبات الاقتصادية عنها، إذن سيكون استمرار الإدارة الديمقراطية لمصلحة إيران، وفي غير مصلحة خصومها.
رغم التزام هاريس بمبدأ “أمن إسرائيل”، لكنّها صرّحت بأنّها لن تُغمض عينيها عن معاناة الفلسطينيين
في تركيا يترقّب كثيرون عودةَ ترامب، ورغم أنّ الأخير كاد يسبّب للاقتصاد التركي كوارث حقيقية، عندما غرّد بأنّه قادر على تحطيمه إن شاء، ما أدّى لحظتها إلى انهيار كبير في سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار، إلّا أنّه في المقابل سمح لها بالدخول إلى سورية، واقتطاع جزء من أراضيها، بحجّة إزاحة حزب العمّال الكردستاني من حدودها. قد يترتّب على عودة ترامب توسّعاً في التمدّد التركي على حساب قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، خصوصاً إذا أصرّ على اتباع سياسة الصفقات، والانكفاء إلى الداخل. وفي المقابل، يمكن أن نشهد مزيداً من التوتّر في المنطقة، خاصّة بين تركيا وإيران، مع قدوم هاريس، باعتبار أنّ سياستها ستعني المزيد من الانفتاح على الأخيرة. ثمّة تضارب واضح في المصالح بين إيران وتركيا، وهناك تناقض بين سياسة أميركا تجاه حليفتها تركيا، التي هي عضو حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وبين موقفها من إيران المصنّفة أحد أضلاع محور الشرّ. هل ستتكيّف تركيا مع استمرار سياسة الديمقراطيين، وهل ستتراجع عن خططها لتحجيم الوجود الكردي في حدودها من جهة العراق وسورية، وهل ستكون قادرةً على المتابعة في مشروعها الاقتصادي المسمَّى طريق التنمية؟… هذا كلّه سيكون رهناً بمن سيجلس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض.
يبدو المشهد في إسرائيل مختلفاً مع قدوم هاريس، فقد أظهرت حَزْماً فاجأ بنيامين نتنياهو وفريقه خلال زيارته واشنطن أواخر الشهر الماضي (يوليو/ تمّوز)، فرغم التزامها بمبدأ “أمن إسرائيل” المفروغ منه، لكنها صرّحت بأنّها لن تغمض عينيها عن معاناة الفلسطينيين. يُضاف إلى ذلك أنّها، وعددٌ معتبرٌ من أعضاء حزبها الديمقراطي، لم يحضروا خطاب نتنياهو في الكونغرس، وهذا مُؤشّر قوي على عدم رغبتها منحه ضوءاً أخضرَ مستقبلاً كما كان يفعل بايدن، أو كما هو مُتوقَّعٌ من ترامب. فهل سيعني هذا من حيث النتيجة إرغام إسرائيل على القبول بحلّ الدولتين، وهل ستنتج الضغوط التي يمكن أن تمارسها عليها تغييراً ملحوظاً في نهج الاستعلاء والتوحّش والإبادة المستمر منذ نشوء هذه الدولة؟… اليمين الإسرائيلي يفضّل ترامب على هاريس، ومجموعات الضغط المُؤثّرة في المجتمع الأميركي، ومنها لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك)، قادرةٌ على التأثير في توجهات بعض شرائح من الناخبين بوضع مسألة دعم إسرائيل، جنباً إلى جنب، مع قضايا التأمين الصحي والتقاعد والخدمات الأخرى، التي تهمّ الناخب الأميركي بالدرجة الأولى.
في الخليج العربي، لا يحبّذ القادة نهج الديمقراطيين عموماً، ولعلّهم بدؤوا التوجّه نحو تنويع الحلفاء شرقاً، منذ إدراكهم حجم الخذلان الذي تعرضت له السعودية، وهي أكبر حلفائهم وأقدمهم، بعد تركها وحيدة في مواجهة اعتداءات إيران عبر صواريخ الحوثي ومسيّراته، التي استهدفت شركة أرامكو قبل أعوام. من هنا، قَبِل السعوديون الوساطة الصينية لتصفير المشكلات مع جيرانهم الإيرانيين، أو في الأقلّ تجميد درجة التنافس عند حدودٍ دنيا لا تسمح للخصوم بالتصعيد، الذي لا قِبَلَ للسعودية بمجابهته، خاصّة أنّها لا تملك مليشيات خارجة عن القانون كالحوثيين، وغيرهم في العراق أو سورية أو لبنان. كذلك كان الاتجاه نحو روسيا لتعديل كفّة الميزان مع الغرب. من هنا، كان الموقف السعودي على سبيل المثال متوازناً في عدم الانجرار وراء العقوبات الغربية، وعدم الاندفاع في دعم الأوكرانيين بلا حدود كما فعل الأوروبيون.
لن يتغيّر استعصاء المشهد السوري مع نجاح هاريس، فالمقايضة الإيرانية مع الديمقراطيين ستضع في سلّم أولوياتها الحفاظ على النظام
في الساحة السورية لن يتغيّر استعصاء المشهد الراهن مع نجاح هاريس، فالمقايضة الإيرانية مع الديمقراطيين ستضع في سلّم أولوياتها الحفاظ على النظام، لأنّه أفضل من مكّن الإيرانيين من البقاء والتمدّد هناك، ولا يمكن لنا نسيان أوباما خطوطه الحمراء تجاه استخدام الأسد الكيميائي ضدّ الشعب السوري، وكيف خضع لضغوط المُرشد، الذي هدّد بوقف المفاوضات بشأن الملف النووي إن تمت معاقبة الأسد على جريمته النكراء. يضاف إلى ذلك أنّ حالتَي اللاحرب واللاسلم السائدة بين إسرائيل والنظام السوري منذ 50 عاماً، يمكن استمرارها إذا ما تعهّد بشّار الأسد الحفاظ على حدوده معها آمنة، كما فعل هو وأبوه طيلة نصف قرن. لا أحد سيهتمّ بمطالب الشعب السوري، وهذا يفرض على المُعارضة السورية التأقلم مع حالة الميوعة والسيولة الراهنة، وقد تجد نفسها خارج المعادلات كلّها، إذا ما استمر نهج التطبيع مع الأسد. في أفضل الأحوال يمكن أن يُترك لها مساحة صغيرة للحركة مثل نظيرتها الإيرانية، في اختلاف مستويات تطوّر كلّ منهما في صعيد المؤسّسات وأساليب الحوكمة.
ينتظر الشرقُ الأوسط مثل بقية العالم نتائج الانتخابات الأميركية، وتضبط دول كثيرة برامجها على دقّات ساعة واشنطن، وإنّ غداً لناظره قريب، وقد تكذّب المياهُ الغطّاس.