بالنسبة للاتحاد الأوروبي، تُعتبر قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، التي انعقدت في واشنطن خلال النصف الأول من يوليو/ تمّوز الجاري، فرصةً لتعزيز التعاون بين المُؤسّستَين، إذ كان هناك اتفاق على مجموعة من الخطوات لتعزيز الأمن والدفاع في أوروبا، والتركيز على التهديدات المُتزايدة من روسيا والصين، وزيادة الإنفاق الدفاعي، وتعزيز القدرات الدفاعية، بالإضافة لدعم أوكرانيا.
وكما جرت العادة في قضايا كثيرة كبرى، تباينت مواقف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من نتائج القمّة، فرحبت بعض الدول، مثل بولندا ودول البلطيق، بقوّة بالتأكيد على التزام الحلف بدعم أوكرانيا وتعزيز الأمن الأوروبي، بينما أعربت دول أخرى، مثل ألمانيا وفرنسا، عن قلقها من احتمال تصاعد التوتّر مع روسيا، ولا تزال المجر مُتردّدةً في زيادة إنفاقها الدفاعي، أو اتخاذ خطواتٍ ضدّ روسيا، بالإضافة إلى المخاوف من أنّ التركيز المتزايد على الأمن والدفاع سيؤدّي إلى إهمال قضايا أخرى مُهمّة، مثل المناخ وحقوق الإنسان. وبشكل عام، اتّخذت المجر موقفاً منفرداً خلال قمة “الناتو”، تميّز بمعارضتها لتوسيع الحلف، وانتقادها سياسة واشنطن تجاه روسيا، ودعوتها إلى علاقاتٍ أكثر تعاوناً مع الصين، وعارضت فرضَ عقوبات على الغاز الروسي، نظراً إلى اعتمادها الكبير على مصدر الطاقة هذا.
صحيحٌ أنّ من الصعب التنبّؤ بشكل دقيق بالتأثير طويل المدى لقمّة “الناتو” في الاتحاد الأوروبي، لكن من المحتمل أن يكون للقمّة تأثير كبير على التكتّل الأوروبي في الأشهر والسنوات المقبلة، وقد يُؤدّي التأكيد المُتجدّد على الأمن والدفاع إلى زيادة الإنفاق العسكري في دول الاتحاد، وتعزيز التعاون العسكري بين الدول الأعضاء، وقد يُؤدّي أيضاً إلى اتخاذ موقف أكثر تشدّداً تجاه روسيا والصين، وستعتمد التأثيرات الفعلية للقمّة على كيفية تنفيذ الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التعهدات التي اتُّخِذت، ومن المُرجّح أن تستمر المناقشات بشأن دور الاتحاد في الأمن والدفاع بعض الوقت، في ظلّ مخاوف بشأن احتمال تصاعد التوتّر مع روسيا.
سبق لترامب أن وصف الناتو بأنّه منظّمة “عفا عليها الزمن”، وتحدّث عن الانسحاب من الحلف
ولم تكن الانتخابات الرئاسية الأميركية غائبةً عن أجواء القمّة، وينظر إلى أداء بايدن في القمّة بأنّه مُهمٌّ، ليس فقط بالنسبة إلى الأميركيين، بل للقادة المشاركين أيضأً، الذين يتطلعون إلى مُستقبل حلف الناتو. وبدأت أوروبا بالفعل في مناقشة مُستقبل الحلف في حال فوز ترامب بالانتخابات في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وهو الذي سبق خلال فترة رئاسته أن وصف الحلف بأنّه منظّمة “عفا عليها الزمن”، وتحدّث عن الانسحاب منه، وصرّح بأنّ أوروبا، التي لم تنفق ما يكفي على دفاعها لا ينبغي لها أن تعتمد على بلاده في أمنها، بل ذهب أبعد من ذلك إلى حدّ القول إنّ “روسيا تستطيع أن تفعل ما تشاء ضدّ هذه الدول”. وأثّرت إمكانية إعادة انتخاب ترامب على القرارات التي اتُّخِذت في القمّة، خاصّة في ما يتعلّق بمستقبل أوكرانيا، وينبغي تقييم القرار بزيادة المساعدات المالية والعسكرية، فضلاً عن إنشاء وحدة خاصة لتدريب وتنسيق المساعدات العسكرية للجيش الأوكراني، في هذا السياق.
ورغم أن التركيز الرئيسي للقمّة كان على الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فإنّ هذه القضايا متشابكة في الواقع، فالتحالف عبر الأطلسي، الذي لم يذكر الصين رسمياً في بياناته حتّى عام 2019، اتّهم الصين، للمرّة الأولى علناً، بدعم روسيا، وهذا يعني أن حلف الناتو ضمّ الصين رسمياً إلى تقييمه للتهديد الوثيق، وفي الأيام المُقبلة ستبدأ مناقشة العقوبات الاقتصادية بناءً على موقف الصين.
وتمرّ أوروبا اليوم بمرحلة من التحوّلات فيها تحدّياتٌ كثيرة، ويتضمّن المشهد السياسي في أوروبا ديناميكية ملحوظة مع بروز اتجاهات وتحدّيات جديدة، لعلّ أبرزها صعود اليمين المُتطرّف، فقد شهدت آخر انتخابات أوروبية مكاسبَ كبيرة للأحزاب اليمينية المُتطرّفة، ما أثار قلق العديد من المراقبين بشأن طبيعة المرحلة المقبلة، والتأثير المستمرّ للحرب في أوكرانيا، إذ تلقي الحرب ظلالها على الوضع العام الأوروبي، وتواجه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تداعيات اقتصادية وأمنية كبيرة، كما أدّت الحرب إلى تدفّق اللاجئين وتفاقم أزمة الطاقة وارتفاع معدّلات التضخم، ما أثار قلق المواطنين الأوروبيين، بالإضافة إلى أزمة كلفة المعيشة، التي تواجهها دول أوروبية عديدة، فتُسجّل معدّلات التضخّم ارتفاعاً غير مسبوق، أدّى ذلك إلى احتجاجات وإضرابات في بعض الدول، وهو ما يُشكّل ضغطاً على الحكومات.
ويبقى القول إنّه قد تكون القضية الأبرز اليوم هي مستقبل الاتحاد الأوروبي، التي لا تزال موضع نقاش ساخن، ويرى بعض الخبراء أنّ الحرب في أوكرانيا وآخر الأزمات قد تُشكّل تهديداً للوحدة الأوروبية، بينما يرى آخرون أنّ هذه التحدّيات قد تُعزّز التعاون بين الدول الأعضاء.