وضع الانتصار المفاجئ الذي حققه اليسار في الانتخابات التشريعية الفرنسية قادته أمام اختبار التغلب على انقساماتهم من أجل تشكيل ائتلاف وفق برنامج حكم مشترك. ورغم أن هذا السيناريو منطقيٌّ إلا أن الخلافات قد تحول دون ذلك.
باريس – حققت الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية في فرنسا انتصارا مفاجئا في الانتخابات البرلمانية التي جرت الأحد وهو ما يؤهلها نظريا لحكم البلاد، لكن الجزء الأصعب يبدأ الآن إذ أن الجبهة المؤلفة من عدة أحزاب، منقسمة بشدة على نفسها.
ويرى محللون أن أحزاب الجبهة اليسارية الجديدة أمام اختبار حسن إدارة خلافاتها العميقة وتضارب تصوراتها للحكم إذ جمعها التصدي لوصول اليمين المتطرف إلى السلطة لكن قد تفرقهم الحسابات الحكومية.
ومع عدم حصول أي حزب على الأغلبية المطلقة في البرلمان، وفي غياب أي طريق واضح للمضي قدما بالنسبة إلى الكتل السياسية الثلاث الكبرى (اليسار، الوسط، اليمين المتطرف)، تواجه فرنسا احتمالا حقيقيا للغاية يتمثل في سنوات من الجمود السياسي.
وبينما تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعدم التنحي عن الرئاسة حتى تنتهي ولايته في عام 2027، فإن سنوات الفشل المتكرر لأي من الحركات الثلاث في تمرير الإصلاحات الرئيسية – والمطلوبة بشدة – قد يزيد من تأزيم الأوضاع. وأكد اليسار الفرنسي استعداده لحكم البلاد بعدما تصدّر الأحد نتائج انتخابات تشريعية حاسمة، إنما دون تحقيق غالبية مطلقة، ويبدأ مناقشات داخلية شاقة لتعيين رئيس للوزراء.
وقال أوليفييه فور رئيس الحزب الاشتراكي المنضوي في الجبهة الشعبية الجديدة التي تشكلت لخوض الدورة الثانية للانتخابات التشريعية التي جرت الأحد، في تصريح إذاعي الاثنين “ينبغي أن نتمكن خلال الأسبوع الراهن من تقديم مرشح” لمنصب رئيس الوزراء.
وفي معسكر المدافعين عن البيئة الأعضاء في هذه الجبهة اليسارية أيضا، قالت زعيمتهم مارين توندولييه في تصريح إذاعي أيضا إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “يجب أن يدعو اليوم” اليسار إلى اقتراح اسم شخصية لتولي رئاسة الحكومة.
وطلب ماكرون الاثنين من رئيس الوزراء غابريال أتال الذي أتى لتقديم استقالته، البقاء في منصبه “في الوقت الراهن لضمان استقرار البلاد” على ما أعلن القصر الرئاسي. وكان أتال قال الأحد إنه مستعد للبقاء في منصبه “طالما استدعى الواجب ذلك” خصوصا أن باريس تستضيف قريبا دورة الألعاب الأولمبية.
ولا يمكن لأي حزب خاض الانتخابات التشريعية تحقيق الغالبية المطلقة بمفرده والبالغة 289 نائبا في الجعمية الوطنية (البرلمان). وحصلت الجبهة الشعبية الجديدة على 180 مقعدا والمعسكر الرئاسي على حوالي 160 واليمين المتطرف على 140 مقعدا.
وداخل الجبهة الشعبية الجديدة، حقق حزب فرنسا الأبية العدد الأكبر من النواب مع نحو 75. لكن ينبغي التخفيف من أهمية ذلك إذ أن الاشتراكيين والشيوعيين والمدافعين عن البيئة نالوا مشتركين أكبر عددا من النواب ويضاف إلى ذلك “متمردون” قطعوا روابطهم مع قيادة فرنسا الأبية. ومساء الأحد أكدت كل تشكيلات تحالف اليسار أن برنامج الحكومة المقبلة يجب أن يستند إلى مشروع الجبهة الشعبية الجديدة.
وينص هذا البرنامج على إلغاء إصلاح النظام التقاعدي وقانون الهجرة وإصلاح مخصصات البطالة فضلا عن إجراءات حول القدرة الشرائية مثل تحديد “الحد الأدنى للأجور الصافي ب1600” على ما يؤكد الاشتراكيون.
ووعد رئيس حزب فرنسا الأبية جان لوك ميلانشون بأن زيادة الحد الأدنى للأجور سيتم “بموجب مرسوم” مؤكدا “لن نقبل بأي ذريعة أو حيلة أو تسوية”. ورفض كذلك “الدخول في مفاوضات” مع حزب “النهضة” الرئاسي.
وإزاء الشائعات حول احتمال تشكيل ائتلاف بين المعسكر الرئاسي والقسم الأكثر اعتدالا من جبهة اليسار، علق مسؤول في فرنسا الأبية باستياء “يحاول الماكرونيون سلبنا الفوز وتشكيل ائتلاف. يجب أن يتصل بنا رئيس الجمهورية”.
توسيع الغالبية
يعتبر حزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي أن على المجموعة التي نالت أكبر عدد من النواب أن تقترح اسما. ويميل الآخرون إلى قرار مشترك لنواب تحالف اليسار إذ أن ميلانشون بات شخصية تثير الكثير من الانقسامات حتى داخل جزء من اليسار.
ورأى مانويل بومبار المنسق الوطني لفرنسا الأبية أن الخيار يمكن أن يحصل ب”التوافق” وليس بالضرورة عبر التصويت داخل الجبهة الشعبية الجديدة. وأكد الاثنين في تصريح تلفزيوني “يجب أن نأخذ الأمور مرحلة بمرحلة. النقاش يجب أن يحصل اليوم أولا بين التشكيلات السياسية المختلفة في ائتلافنا. من ثم يحصل اقتراح. وبطبيعة الحال أتمنى أن يكون هذا الاقتراح موضع اتفاق لدى كل النواب وليس بالضرورة عبر التصويت. يمكن أن يحصل توافق”.
وبشأن قدرة اليسار على الحكم، أبدى الباحث مارسيل فوكو من مركز البحوث السياسية في كلية سيانس بوتشكيكه قائلا “يبقى مجموعة سياسية أقلية، ائتلاف أحزاب حل في المرتبة الأولى مع أقل من 200 مقعد”.
وأكد الخبير السياسي “حديث البعض عن تهدئة وإصلاح فرنسا.. وإعطاء وجهة سياسية تصحيحية، كلها أمور لا تستند إلى أسس جيدة عندما يقولون إن هذا هو البرنامج من دون غيره. نحتاج إلى وقت للتوضيح الرؤية بشأن حكومة ائتلافية”.
وقد تلقف الشيوعيون هذه الرسالة وهم أعضاء في الجبهة الشعبية الجديدة. وقال السناتور إيان بروسا الناطق باسم الحزب الشيوعي “سنضطر على صعيد عدد كبير من المسائل توسيع غالبيتنا لأنها لن تكون كافية”. وكان للمدافع عن البيئة يانيك جادو التحليل نفسه بقوله “علينا بناء غالبيات حول مشروعنا”.
ويثير برنامج الجبهة اليسارية الجديدة المشترك برفع الحد الأدنى للرواتب من 1400 إلى 1600 يورو (1515 إلى 1735 دولارًا)، وسحب إصلاح معاشات التقاعد الذي أقره ماكرون والذي رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عامًا، وتجميد أسعار المنتجات الغذائية الأساسية والطاقة قلق الأسواق المالية. وأدى الانتصار غير المتوقع للجبهة الشعبية الجديدة اليسارية إلى انخفاض اليورو حيث تخشى الأسواق موجة إنفاق كبيرة.
الإنفاق المالي
انخفض اليورو بنسبة 0.4 في المئة في الساعات الأولى من التعاملات الآسيوية يوم الاثنين بعد فوز حزب الجبهة الشعبية الجديد في فرنسا في الانتخابات التشريعية في البلاد. وفي حين ارتفعت الأسواق مؤخرا على خلفية الاعتقاد بأن التجمع الوطني اليميني المتطرف لن يحصل على الأغلبية المطلقة في فرنسا، عادة حالة عدم اليقين في السوق من جديد.
وقال سايمون هارفي، رئيس قسم تحليل العملات الأجنبية في شركة مونكس أوروب، “يبدو أن الأحزاب المناهضة لليمين المتطرف حصلت بالفعل على دعم كبير. وأضاف هارفي “ولكن بشكل أساسي من منظور السوق، لا يوجد فرق من حيث النتيجة. سيكون هناك فراغ حقيقي عندما يتعلق الأمر بقدرة فرنسا التشريعية”. ومن المعروف أن الأسواق تكره حالة عدم اليقين، والمشهد السياسي في فرنسا بعيد كل البعد عن الاستقرار في الوقت الحالي.
ومع احتمال وجود برلمان مُعلّق وقلة الوضوح فيما يتعلق بشكل الائتلاف الذي قد يكون ممكنًا، يبدو من المحتمل أن يكون هناك شكل من أشكال حكومة الأقلية أو “التعايش”، حيث يتم تقاسم السلطة بين رئيس الوزراء والرئيس من الأحزاب المعارضة، ما قد ينذر بجمود تشريعي، ويضاف إلى ذلك أن تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري ليس معروفًا بحذره المالي.