الرئيسية / أخبار / بين اليمين واليسار.. أين المفر

بين اليمين واليسار.. أين المفر

ربى عياش 

هل نجحت تيارات اليسار المتبنية لراية الدفاع عن الأقليات والتعددية والمرددة لشعارات الديمقراطية والحريات اللامحدودة بخلق واقع أفضل للمواطن؟

لعل فشل تيارات اليسار الليبرالية التي تصف ذاتها بالوسطية في تحقيق أي حياة مستقرة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وفكريا واعدة للمجتمعات البشرية هو السبب الحقيقي في عودة اليمين إلى الواجهة من جديد في الكثير من الأماكن في العالم.

شبح موسيليني يجسد ذاته من جديد في العالم بشكل سريع. العالم يتجه نحو اليمين.. من الصين إلى روسيا العائدة إلى حلم الأمة الروسية، إلى إيطاليا بفوز ميلوني، إلى إسرائيل وانسحاب المعسكر اليساري من الساحة، وصولا إلى ألمانيا والنمسا وفرنسا.. وغيرها كثير.

لكن لماذا؟

برأيي، أن غياب العدالة الاجتماعية والتحديات الاقتصادية اليومية من أبرز العناصر التي تجعل المجتمعات في حالة تخبط وتنازع، كما أن تدفق المهاجرين واللاجئين إلى الدول يخلق فجوات حضارية وصراعا ثقافيا فكريا عميقا بين الأفراد، ويوفر بيئة خصبة لظهور المزيد من الرفض للآخر، والمزيد من “نحن” و”هم”، ويبدأ الأفراد بالعودة إلى مجموعاتهم الصغيرة على أساس الإثنية والجنسية والدين.. مما يجعل المجتمع أكثر شراسة، ويوفر بيئة متطرفة عنيفة.

◄ على هذه الأجيال تقبل فكرة أن العالم تغير والمجتمعات بدأت تتغير بتركيبتها السكانية، لذا قد يتطلب هذا تعاطفا أكثر، وأنانية وعنصرية أقل، وتقبلا أكبر ورحمة واسعة

التحديات الاقتصادية حقيقية في العالم أجمع، وتكلفة المعيشة باتت ثقلا على كاهل الأفراد من شرق هذا العالم حتى غربه والبقاء على الحياة أصبح أمرا مرهقا.

الدول الأوروبية تأثرت كثيرا في ظل دعمها لحرب أوكرانيا التي ألقت بظلال استنزافها وتحدياتها ونتائجها السلبية الاقتصادية والاجتماعية والأمنية على القارة العجوز بشكل خاص، ودعمت الدفع بالصراعات في الشرق الأوسط خلال العقد الأخير خاصة من فلسطين إلى لبنان وسوريا وليبيا والسودان.

سرقة واستنزاف الدول الأفريقية جلبا المزيد من الفوضى والاختلال والاضطراب في العالم، وأثرا بشكل أو بآخر حتى على الدول الأوروبية، فكانت واحدة من النتائج المزيد من اللاجئين المهاجرين الهاربين من جحيم دولهم بحثا عن بصيص أمل في دول أخرى، وهو ما خلق المزيد من المشاكل والتحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول.

اليمين من جانبه يلوح بورقة اللاجئين والمهاجرين، لكسب المزيد من المناصرين والعودة بقوة إلى السلطة. فمثلا، تجد ماري لوبان تقدم وعودا بإعادة كل اللاجئين إلى دولهم.

لكن، هل تفكر فرنسا بالمقابل بإعادة الدول المنهوبة المتشظية إلى اللاجئين؟

هل ستعوضهم عن الأضرار الجسيمة التي سببتها لهم بسرقة مواردهم وحقوقهم وحرياتهم وحرمانهم طوال عقود طويلة من عيش تجربتهم الخاصة في تقرير المصير، أو محاولة إيجاد صيغتهم الخاصة من الديمقراطية والحريات وتأسيس دول تشبه هُويتهم؟

من لبنان، الذي تتعامل معه فرنسا وكأنه مقاطعة تابعة لها، إلى سوريا المتضررة، إلى أوكرانيا التي ساهموا بزجها في حرب عصيبة، إلى تونس والجزائر وليبيا.. إلى الغابون والسنغال وغينيا وبوركينا فاسو وغيرها الكثير من الدول الأفريقية.

وبين اليسار واليمين وسطوة رجال الدين والسياسة على العامة، والخطاب المتطرف المنتشر في هذه الأيام الذي يجعل من كل فئة رافضة للآخر، وموهومة بذاتها وبكونها “الشعب المختار” يصبح الآخرون مجرد أدوات أو عبيد.

◄ على هذه الأجيال استحضار فلاسفة عصر التنوير، والعودة إلى الاستماع لهم وتجسيد أفكارهم وتجربتهم بشكل يشبه ويلائم العصر الحديث

خطابات دينية سياسية في العالم تخلق المزيد من التطرف والعنف والكراهية واللاإنسانية. ومجتمعات متخبطة متبنية هلوساتها وخرافاتها ومعتقداتها بتطرف بعيد عن أي إنسانية وحكمة. وهذا قد يقودنا إلى عالم متطرف عنيف سيعيد تشكيل ذاته ودوله بناء على العرق والدين والإثنية.. وإن بناء دول قائمة على دين واحد ونهج واحد وعرق واحد وفكر واحد ورجل واحد.. لن يكون حتما مثالا للديمقراطية والإنسانية والحريات والتعايش والتسامح.

أعتقد أن المشكلة الحقيقية في هذا العالم اليوم لدى الأفراد أنهم ما زالوا “تابعين” و“نائمين” عاجزين عن كسر الأصنام، يقدسون الخرافات والأشخاص، عاجزين عن التحرر التام من التبعية لأي تيارات فكرية حزبية هشة لم تعد قادرة على إيجاد حلول حقيقية لمشاكل العالم الحديث، وعاجزين عن رؤية المسبب الحقيقي لآلامهم.

عليهم إدراك أن من يجلب حياة بشرية أفضل هم المفكرون والفلاسفة والعلماء، وليس القادة ورجال الدين والسلاطين والجنرالات الذين يستمرون في هذا النظام العالمي في جلب المزيد من الدمار والحروب والصراعات.

كان من المفترض بدلا من لوم “الآخر” وتحميله مسؤولية الفوضى والتحديات والصعوبات في المجتمعات والحذو نحو تطرف أكبر وديمقراطية ووسطية أقل، البدء بمعالجة عميقة حقيقية لعجلة النظام التي تُضحي بالعامة كقرابين وتزيد من آلام ومأساة الجماعة من أجل مصلحة النخبة.

هذا العالم يجبر الجميع على الاختيار بين خيارات محددة سلفا، بتيارات فكرية حزبية عاجزة عن إنقاذ مركب في بعض الأحيان. وهنا يكمن وهم الديمقراطية والحريات، وهنا تكمن العلة الحقيقية في الانتخابات.

لذلك، على الأجيال الشابة والناضجة أن تعي قوتها وأن تدرك بوصلتها. عليها تشكيل قوالبها الخاصة بأحزابها ورؤيتها الجديدة.

وأن تميز السبب الحقيقي لمعاناتها المستمرة، وأن كلمة الحاضر والمستقبل لها.

على هذه الأجيال استحضار فلاسفة عصر التنوير، والعودة إلى الاستماع لهم وتجسيد أفكارهم وتجربتهم بشكل يشبه ويلائم العصر الحديث.. من كانط وفولتير وديكارت ولوك ومونتسكيو وسبينوزا وغيرهم الكثير.

◄ غياب العدالة الاجتماعية والتحديات الاقتصادية اليومية من أبرز العناصر التي تجعل المجتمعات في حالة تخبط وتنازع

وبدلا من الاستمرار في زج أنفسهم في الصراعات وتغذية نيران الحروب وتعظيم الفجوات بين البشرية يجب على الشباب وضع العنف جانبا، واستئصال الكراهية، وكسر لعنة الحروب العالمية التي ما زالت تطارد هذا العالم، ومحاولة معالجة عميقة لكل ما ورثه هذا العالم من صدمات أخلاقية فكرية متطرفة وما ترتكبه النخبة السياسية والعسكرية والأمنية والدينية من دمار في هذا العالم.

عليهم البدء بعصف ذهني جماعي لمحاولة الوصول إلى عالم أقل تطرفا وأقل فوضى وظلاما..

عليهم تحديد هويتهم بعيدا عن العالم المتشظي الذي ورثوه.. هم في حاجة إلى صوت الحكمة والوسطية الحقيقية.. إلى التجذر بشكل أفضل بقيمهم وأخلاقياتهم وأفكارهم وإيمانهم الخاص الذي يشبه عصرهم وملامحهم. عليهم أن لا يستمعوا لصوت رجال الدين وصوت السياسيين والعسكريين.

هم في حاجة إلى قوانين ودساتير تؤمّن للأفراد الأمان والعدالة الاجتماعية وتأسيس أحزاب قائمة على احترام الإنسان وكينونته.

عليهم البدء بالبحث عن أفكار جديدة قادرة على إدارة الأزمات بشكل أفضل وتتسبب بضرر أقل.

عليهم تقبل فكرة أن العالم تغير والمجتمعات بدأت تتغير بتركيبتها السكانية، لذا قد يتطلب هذا تعاطفا أكثر، وأنانية وعنصرية أقل، وتقبلا أكبر ورحمة واسعة، وعملا بشريا جماعيا لترميم الضرر العظيم.