إنَّ العدوان الاسرائيلي المتكرّر على غزة، مثلاً، بحجمه ووسائله ونتائجه، كشف مرّة واحدة وإلى الأبد أن إسرائيل اختارت القوة والقوة فقط للتعامل مع المنطقة، وبهذا فقد اختارت الطريق الأسهل للتآكل والانفجار. فالمنطقة العربية وبكل دلالاتها وحمولتها الثقافية والحضارية، أثبتت على مدى التاريخ، أنها لا تُحكم بالقوة ولا تخضع بالإكراه. هذه منطقة الجهات الكبرى التي صنعت التاريخ كلّه، وهي التي قدمت لهذا العالم مغامراته الروحية واكتشافاته الوجدانية الأولى التي ما تزال تعمل وتفعل، وبالتالي فإن منهج القوة الذي تنتهجه إسرائيل هو منهج قصير المدى، قصير النَفَس، ووصفة أكيدة للفشل.
وكان العدوان المتواصل على غزة، كشكل من أشكال الحرب المتعددة على الشعب الفلسطيني ، ورقة التوت الأخيرة التي سقطت عن عورة الأيديولوجيا الصهيونية، وجذرها التلمودي التوراتي القائم على فكرة التفوّق العرقي والإثني. إذ كان هذا العدوان اعتداءً على مفهوم الانسانية نفسها وعلى مفهوم العيش المشترك المُمكن بشروط التعايش، وعلى مفهوم الأخلاق ذاته، فقد دفعت إسرائيل بمفهوم الحرب إلى السقف الذي لا يمكن تجاوزه لانحطاطه وعدم أخلاقيته ووحشيته. لا يمكن لحرب أن تكون أكثر قذارة من الحرب على النساء والأطفال الآمنين، أو استعمالهم كدروع بشرية، أو قصف الملاجىء والمستشفيات والمدارس، لن تكون هناك حروب بمثل هذه الفظاعة. إن وصول إسرائيل إلى هذه المستويات المتدنية من الحروب دفع شعوب العالم كله إلى أن تخرج عن صمتها وعن ترددها.
ذلك أن معظم أهل المعمورة شعروا أن هذه الحرب تمسّ كل جميل وطيّب ومقدّس وأن العدل الذي يشكّل مرجعية روحية وأخلاقية ومعيارية للناس جميعاً، على مدى العصور، قد تم اغتياله بمشاركة المتنفذين وأصحاب القرار. كان صوت الناس البسطاء والعاديين في كل العالم يحاول أن يقول إن العالم بهيج ويمكن أن يُعاش رغم أن هناك مَنْ يقتل الأطفال بدم بارد.
وعلى المستوى الآخر، وفي إسرائيل ذاتها، كان هناك مَنْ يكتب في صحيفة يومية شهيرة بأنه يفرح عندما يرى أشلاء الفلسطينيين وهي ممزقة، هذا الكلام جاء ليكشف حجم اندفاع الجمهور الإسرائيلي نحو اليمين والتطرّف والعنصرية، عداك عن أن الجمهور الإسرائيلي ينتخب مَنْ يسفحُ دماً فلسطينياً أكثر، ما يعني أنه مجتمعُ دموي بامتياز. كذلك فإن الصهيونية كمشروع علماني متنور، كما رغب منظروه الأوائل أن يسوّقوه إلى الحركة القومية الأوروبية كجزء منها، انتهى بعد بضع وسبعين سنة من إقامة إسرائيل إلى مجرد مقولات حاخامية تلمودية مغرقة في وَهْم التفوّق والعنصرية. وربما كان هذا أول ما يجب الانتباه إليه في خطابنا الثقافي والإعلامي، اذ لم يعد من المقبول القول – أو على الأقل بالنسبة لي – أن الصهيونية هي فكرة علمانية قابلة للحوار أو التفاوض معها، إنما هي أفكار وأوهام عنصر الاستعلاء الحاخامي التي اتخذت لغة عصرية ليس إلا. ولا يجب هنا أن يغيب عن بالنا أن الصهيونية ذاتها هي بنت البروتستانية القيامية وربيبتها الثقافية والاستعمارية، الأمر الذي يدفع إلى قول إن جماعات اليهود مخدوعون بشكل جزئي أيضاً، فالصهيونية – بغض النظر عن رؤيتها ومنابعها الفكرية والثقافية والسياسية- صُممت أصلاً لخدمة تلك النظم الإمبريالية الغربية البروتستانية القيامية التي رأت في هذه المقولة ما يحقق النبوءات والتفسيرات الحديثة من جهة، وما يحقق الهدف الاستعماري من جهة أخُرى. عدا أن الاستعمار نفسه، وإسرائيل جزء منه، هو ابن التاريخ المُفزع الذي أباد الشعوب في العالم الجديد، واجترح محاكم التفتيش والتطاحن المُرعب والإبادات الجماعية. والخطير في هذا الأمر أننا مرة أخرى أمام حملة أخرى من حملات الغزو الاستعماري الأوروبي والغرب على بلادنا، ولكن هذه المرة هي الأكثر إحكاماً ودهاء وقوة وشدة. يجب أن نتمتع أيضاً بقوة البصر والبصيرة حتى نعرف مَنْ نُقاتل ومن نُعادي، فإسرائيل المصنوعة من جهة والصانعة من جهة أخرى، ليست إلا رؤية غربية للتاريخ ونهاياته، وليست إلا واجهة أخرى من واجهات الصراع الأوروبي العربي، ومن هنا، رأينا كيف تداعى قادة الغرب جميعاً إلى زيارة تل ابيب في ذروة العدوان، لدعم إسرائيل وترميم صورتها، ورفضت أوروبا وأمريكا في اجتماعاتهم أن يُدينوا إسرائيل وجرائمها!
كما أن العدوان على غزة، كشف المواقف جميعاً، كشف أصول ومنابع الخطابات الثقافية المستمرة عبر حقب طويلة من الزمن. فاسرائيل هي رؤية الغرب لمنطقتنا وشعوبنا وقضايانا، وإسرائيل هي الدليل على صدق الرؤى والنبوءات، وهذا دليل آخر قوي وملموس على أثر الرؤية الثقافية على مجمل السياسات الدولية، فالقرار السياسي ليس مصالح فقط، بل هو مبادىء ومرجعيات واختيارات ثقافية.
ولا بد هنا من التفصيل في هذا الأمر، فالعالم الغربي الاستعماري الآن يعيش في ذروة عبادته لنفسه، متمحور على ذاته، واثق بإمكانياته، ويرى في الأزمة – أي أزمة – جزءاً من نظامه، قادر على انتقاد نفسه، قادر على تجاوزها، قادر على التعايش مع التناقض، حلوله تحت يديه، يعتقد أن العالم جزءٌ من اقطاعيته الكونية. ولهذا فإن ما يسمى بالعولمة كانت تعبيراً عن هذا الإحساس بالسيطرة والقوة والقدرة على التكيّف والتعاطي مع الأزمات مهما كانت. التكنولوجيا هنا تلعب الوسيلة وقد تلعب الهدف أيضاً، وربما كان هذا هو الجانب غير الرحيم من المسألة أو في المسألة برمّتها.
إن عالماً متمركزاً حول ذاته بهذه الطريقة، شاعراً بالقوة والتحكّم والزَهْو، سيعود بالتأكيد إلى تبسيط المفاهيم إلى درجة السذاجة المفرطة، فسيقال دون الشعور بأي ذنب إن هذا العالم هو أفضل من كل الآخرين، وإن كل التجارب والخبرات التي تم اكتسابها هي تجارب أفضل وأعمق لأنها أدت الى نتائج جيدة وفاعلة، بمعنى آخر، فإن هذا العَالَم المُحكم والمتحكِّم سيعود إلى لغة الاستعلاء البسيطة والساذجة.. نحن أفضل من الآخرين، وعلى الأخرين هؤلاء أن يكونوا في خدمتنا، وإذا رفضوا فعلينا أن نتخلّص منهم لأن العالم سيكون أفضل دونهم، ومَنْ ليس معنا سيكون ضدنا، إلى آخر هذا التبسيط الساذج والمضحك، الذي يؤدي في النهاية إلى إعلان الحرب على الله سبحانه وتعالى لأنه جلّ وعلا لا يعلن قراره بشكل واضح وجليّ.
العدوان على غزة كشف كل هذا! كشف كيف أن دوائر القرار الغربي الاستعماري اختطف كل شيء؛ القرار الدولي والهيئات الدولية والأنظمة المرتبطة وشاشات التلفزيون، ذلك لأن الأمر ببساطة شديدة يكمن في أننا اكتشفنا جميعاً أن إسرائيل هي دولة غربية أوروبية بيضاء استعمارية تخدم المخطط العدواني القديم، ذلك المخطط الذي من أجله احتُلت القدس في القرن الحادي عشر ثم احتلت في القرن العشرين مرة أخرى. ذات المخطط وذات الأهداف. التاريخ ليس صدفة، صحيح أنه يستعصي على وضعه في قوانين نهائية، ولكنه بالتأكيد ليست مجموعة من الصدف والأحداث المفككة.
العدوان على غزة أيضاً، كشف عنا الغطاء، وأسقط ورقة التوت عن عورات خطابنا وأدائنا كذلك. كشف الهوة الكبيرة بين النخب وبين جماهيرها، وبين الشعارات وتطبيقها، كشف قوة الجمهور وعدم تجانسه وتماسكه واستمراره، قوة الجماهير مندفعة وعشوائية ثم تذهب دون تنظيم، كشف موسمية هذا الغضب وعدم تحوّله إلى مؤسسة، وكشف رعب الأنظمة وخوفها ومدى بطشها، كشف تخاذل المثقف وانحيازاته المشبوهة، وكشف نقص الوعي وتبعثره وتوجهه إلى مهالك الهوى والغرض والمصلحة، كشف انحياز بعض النخب إلى أعدائها عندما تحين ساعة الحسم والحزم. كشف مدى اختراق العدو لنسيجنا الاجتماعي والثقافي والأمني والسياسي، كشف ضعف وهشاشة المجتمع المدني لدينا، وكشف ارتباطاتنا وصفقاتنا وإعلامنا وكتّابنا.
العدوان على غزة كشف الانحيازات والاستقطابات والاصطفافات، كشف الهزيمة التي تعشش في صدور كثير منا، ذلك الذي ادّعى الواقعية والمرونة والفهم والتفهم، وحيث أراد أن يفرق بين الدم وصاحبه، وبين الضلوع وبين القلوب، وتحول كثير منا إلى فلاسفة ومنظّرين لنوع وشكل وأسلوب الهزيمة، وكان من الفانتازيا أن تخرج كثير من الأسماء الكبيرة والصغيرة تحلل ما معنى الهزيمة والنصر في غزة، (نحن من أوائل الشعوب التي تستمرىء الهزيمة). وبالمقابل، كان هذا العدوان المجرم على قطاع غزة أيضاً، دافعاً إلى الرؤية الواقعية الحقيقية، فاسرائيل النووية ضعيفة من داخلها، فجغرافيتها وديموغرافيتها وبنُيتها الاجتماعية والاقتصادية لا تحتمل المقاومة ولا الصمود، ولا تحتمل المواجهة الحقيقية والإرادة الصلبة والموقف السياسي المبني على مصالح الأُمّة. إسرائيل ليست فوق الواقع، بل هي كيان تجري عليه قوانين الواقع كما تجري على كل الكيانات، وقتالها والانتصار عليها ليست معجزة أو خارقة، بل هي ممكنة. إن ما جرى خلال اجتياح الضفة الغربية وخاصة في مخيم جنين العام 2002، وفي لبنان العام 2006، وفي غزة العام 2009 وفي 2014 وخلال 2021 وعام 2022، تجارب صحيحة وواقعية لما قد يفعله الشعب عندما يختار وعندما يفعل ما يريد،محمولاً على خطاب ثقافي أصيل يشرب من الينابيع الحقيقية لهذا الشعب، خطاب ثقافي يؤمن بالحرية والإنسانية والكرامة، غير مُستلب ولا مخطوف ولا مأجور أو مستأجر ولا مهزوم أو متردد أو مضطرب. إن ميلاد الخطاب الثقافي المعافى والممتلىء سيرافقه بالتأكيد مقاومة لا تقل عنه صحّةً وامتلاءً ونفاذاً.