يستعجل الرئيس الأميركي، جو بايدن، قبل انطلاق السباق الرئاسي، رفع رصيده الانتخابي بإنجاز الصفقة مع السعودية، مع إرجاء الجزء الخاص بالتطبيع مع إسرائيل؛ إذ ترفض الأخيرة طلب الرياض تقديم التزام بـ “مسارٍ موثوق” نحو إقامة دولة فلسطينية، ووقف حرب غزّة. تتضمّن الصفقة اتفاقاتٍ أمنية ودفاعية تشمل حصول السعودية على تقنيةٍ نووية، وتوسيع نطاق تجارتها الحرّة مقدّمةً للتطبيع مع الكيان الصهيوني في إطار مساعي المملكة إلى إنهاء مشكلاتها مع الجوار، وضمن خطّة مشروع رؤية 2030، الساعي إلى تنويع اقتصادها والاستثمار في الطاقات البديلة، والتحوّل وجهةً سياحيةً عالميةً، وهذا يتطلّب استقراراً إقليمياً، وبالتالي، تهدئة الصراع المستمرّ في فلسطين، بأيَّ ثمن.
إطالة أمد الحرب في غزّة، وعدم تمكّن القوّة العسكرية الإسرائيلية المدعومة بتسليح أميركي لا محدود من القضاء على الجناح العسكري لحركة حماس، أوقعا إدارة بايدن في حرج كبير أمام ناخبيه والمجتمع الدولي، وفتحا الباب أمام تغيُّرٍ في المزاج العام الغربي تجاه التعاطي مع القضية الفلسطينية، بدءاً برفع جنوب أفريقيا دعوى على إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في حقّ الفلسطينيين، إلى التظاهرات العارمة في العالم دعماً لغزّة، وظاهرة انتفاضة الجامعات الأميركية، ثم سعي محكمة الجنايات الدولية إلى إصدار مُذكّرة اعتقال في حقّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير الحرب يوآف غالانت، وصولاً إلى اعتراف كلّ من إسبانيا وأيرلندا والنرويج بالدولة الفلسطينية. هذا المُستجدّ، ومع استمرار الحرب على غزّة، صعّب مسألة التطبيع السعودي الإسرائيلي، التي كانت تبدو أكثر سلاسة قبل “طوفان الأقصى”.
إطالة أمد الحرب في غزّة وعدم تمكّن القوّة العسكرية الإسرائيلية من القضاء على الجناح العسكري لحركة حماس أوقعا إدارة بايدن في حرج كبير
وتزيد بايدن ارتباكاً الأنباءُ عن اقتراب إيران من الإعلان عن امتلاك قنبلة نووية؛ وربّما سيدفع مصرع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ومعه وزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، بعد تحطّم المروحيّة الرئاسية قرب الحدود الأذربيجانية في 19 مايو/ أيار الحالي، المرشدَ الأعلى للثورة الإيرانية، آية الله علي خامنئي، إلى الإسراع في إصدار فتوى القنبلة النووية، والإعلان عنها منجزاً قومياً للبلاد، يمكّنه من الهروب إلى الأمام وكسب الوقت، لحسم الصراعات الداخلية بشأن من سيملأ الفراغ الذي تركه كلٌّ من رئيسي وأمير عبد اللهيان، وبشأن مسألة خلافة المُرشد الأعلى. هذا يعني أنّ على إدارة بايدن الإسراع في تشكيل حلف عربي- أميركي، فيما انضمام إسرائيل ينتظر انتهاء مهمّة “القضاء” على “حماس” في غزّة، للحفاظ على الرياض ضمن معسكرها الجيوسياسي في مواجهة قوّة طهران. قبلت الإدارة الأميركية بالشروط السعودية، وعادت إلى تشكيل تحالف أمني قوّي معها، متجاوزة كراهية الكونغرس للسعودية، ووعود بايدن الانتخابية السابقة بمحاسبتها على الانتهاكات الإنسانية، وفي مقدمتها قضية مقتل جمال خاشقجي. تفتش الرياض عن علاقات مرنة بعيداً عن الانحياز إلى قطب واحد، في وضع دولي غير مستقر، إذ لم تعد تثق بالولايات المتّحدة، وبتقلّبات أمزجة الإدارات المتتالية تجاه التزاماتها بتعهداتها تجاه المملكة. وبالتالي، لن تتراجع عن علاقاتها المتصاعدة مع الصين، باعتبار الأخيرة أكبر مستورد منفرد للنفط السعودي، وعلى استعداد لتزويد الرياض بالأسلحة والتكنولوجيا من دون شروط، وكذلك، لن تتراجع عن علاقاتها مع روسيا لإدارة إنتاج النفط العالمي، وتحديد سعر البرميل ضمن تحالف “أوبك +”، ولا عمّا أُنجِزَ من تحسّنٍ دبلوماسي في علاقتها مع طهران برعاية بكين.
من جهة أخرى، تتكثّف المفاوضات بين الولايات المتّحدة وإيران، في الفترة الأخيرة، بوساطة عُمانية ووساطة أطراف أوروبية. ترفع إيران سقف مطالبها، بعد اقتراب امتلاكها السلاح النووي، والذي أصبح ورقة قوّية على طاولة المفاوضات، وفي حال إعلانها أنّها أصبحت دولة نووية ستزداد عزلتها في المجتمع الدولي. قد يصل الطرفان إلى شكلٍ من اتفاق نووي جديد يجعل محطّة نطنز النووية تقتصر على إنتاج اليورانيوم المُخصّب لأغراض سلمية، مع عودة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى العمل. هذا يتطلّب تنازلات أميركية، أيضاً، عن الشروط التي كان قد وضعها الرئيس باراك أوباما عند إبرام اتفاق 2015، والشروط التي كان بوسع بايدن وضعها لإتمام الاتفاق عند بداية ولايته الرئاسية في 2021.
في كلّ الأحوال، يبدو أنّ أذرع طهران ضمن الإقليم ليست ضمن جدول أعمال التفاوض، بل تتعاطى واشنطن معها ملفّاً منفصلاً، فنفوذ إيران في أربع عواصم عربية ودعمها دوراً تخريبياً، تقوم به مليشيات مدعومة منها، دفع السعودية، وباقي دول الخليج، إلى التفكير بقبول الأجندة الأميركية بشأن تشكيل تحالف يضمّ إسرائيل لردع إيران. كما أنّ دور المليشيات الشيعية في الدول التي حصلت فيها ثورات (سورية واليمن)، ساهم في تحوّل الصراع إلى منحىً طائفي هُويّاتي، واستنقاع تلك الدول، بدلاً من انتصار الثورات، وحالة الاستنقاع، هذه، هي ذاتها في العراق ولبنان، وهذا يأتي ضمن الأجندة الأميركية لضبط المنطقة.
يبدو أنّ أذرع طهران ضمن الإقليم ليست ضمن جدول أعمال التفاوض، بل تتعاطى واشنطن معها ملفّاً منفصلاً
في المقابل، تضبط إيران تصعيد أذرعها (حزب الله في لبنان، والحوثيين في ممرّ البحر الأحمر التجاري) على وقْع مصالحها طويلة الأمد في تلك الدول، والمتعلّقة بالحفاظ على تلك الأذرع، بل هي تسعى إلى تعزيز قوّتها، وفتح جبهاتِ مناوشةٍ جديدةٍ باسم المقاومة مع إسرائيل، في الجولان مثلاً. ورغم ما قيل قبل أسابيع عن ابتعاد نظام دمشق عن طهران، إلا أنّ وجود قرابة عشرين ألف مقاتل شيعي من العراق في جنوب دمشق، وتغلغل حزب الله بأريحية على الحدود السورية اللبنانية، يدلّ على قوّة النفوذ الإيراني وصعوبة إزاحته. تهتمّ واشنطن بتقليم أذرع إيران، وجعل تحرّكاتها مضبوطة، عبر دعمها الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سورية، وعبر تحالفها الدولي في البحر الأحمر ضدّ الحوثيين، وتمسُّكها بقواعدها العسكرية في العراق وفي التنف وفي شمال شرق سورية، وأخيراً، دعمها لدور دبلوماسي وسياسي سعودي أكبر في المنطقة، يتوافق مع الأجندة الأميركية. في هذا السياق تمكن قراءة المحاولة السعودية لانتزاع دمشق من الحضن الإيراني، وتعيين سفير سعودي في دمشق بعد انقطاع 12 عاماً؛ فيما تشكّل قدرة (أو عجز) دمشق عن ضبط ملفّ تجارة الكبتاغون وتهريبه إلى دول الخليج عبر الحدود الأردنية دلالة على نجاح (أو فشل) تلك المراهنة السعودية.