كل طرف يرى أنه على حق. فريق يريد أن يدافع عن حرية الرأي والتعبير التي جادت بها ثورة 2011، وفريق آخر يقول الدولة أولا ثم الحريات ثانيا، وطالما أن الدولة لم تتماسك ولم تستعد هيبتها، فكل شيء مؤجل. كل فريق لديه حجج ينشرها على مواقع التواصل، التي باتت ساحة الصراع الحامي، ولديه أنصار ومريدون بعضهم لا يحتمل مجرد دردشة تمس ثوابته.
المشكلة أن هذا الصراع الذي يحتكم للي الذراع سيقود البلاد إلى مشهد غير محمود. الذي ينظر إليه من بعيد يستنتج أن تونس غير مستقرة وأن الوضع فيها غير مريح. رسالة سلبية يمكن أن يتلقاها المستثمرون الأجانب، والمؤسسات المالية والمانحون، وشركات السياحة، ويستثمرها المنافسون المباشرون ليحولوا وجهة المستثمرين والسياح مثلما حصل في السنوات الأولى للثورة.
إلى الآن يتحسر التونسيون على الخسائر التي جنوها من الصورة التي رسموها لأنفسهم ضمن صراع إعلامي سياسي وأيديولوجي بأجندات داخلية وخارجية أفضى إلى ما تعيشه البلاد من أزمة اقتصادية خانقة وانقسام سياسي حاد.
من منا لا يتذكر نقل رجال أعمال تونسيين وأجانب أعمالهم من تونس إلى بلدان أخرى كانت تعيش حالة تامة من الاستقرار. من لا يتذكر نشر الغسيل الأمني للبلاد على بلاتوات الفضائيات وحسابات مواقع التواصل.
كل طرف كان يفكر في مصالحه المباشرة، لم يكن مهما وضع تونس والصورة التي تتشكل عنها ثم يتساءل سياسيونا الذين كانوا أو أصبحوا في المعارضة، لماذا يتردد المستثمرون الأجانب في القدوم إليها؟ ولماذا تتخلى عنا دول الخليج والصناديق المالية؟ ولماذا تتجنى علينا مؤسسات التصنيف السيادي وتنظر إلينا بشكل سلبي؟
ما تسعى الدولة إلى معالجته من خلال خطاب طمأنة الخارج بأن البلاد بدأت تستقر، ومناخها الأمني والسياسي والاجتماعي ملائم للاستثمار وإنجاز المشاريع يمكن أن ينتكس سريعا من خلال معركة لي الأذرع الجارية حاليا.
ليس مهما كيف ينظر إليها التونسيون من الداخل. المهم عيون الخارج.
الذين ينتظمون في المعارضة يرون في ما تقوم به السلطة تشددا وتعديا على حرياتهم، وحزام السلطة من سياسيين ونشطاء يرون أن في ذلك تأكيدا لنظرية المؤامرة التي يفسرون بها كل شيء.
من المهم الإشارة إلى أن ما يجري لا يمكن أن يقف عند حد الخلاف السياسي الذي يتم حسمه بالقضاء أو بجلسات الحوار والوساطات. هو أبعد من ذلك وأكثر تعقيدا.
ربما يرى طرف أن الفرصة مواتية له لفرض نفسه وتحويل شعبيته الانتخابية إلى مشروعية واقعية، ويتمسك الآخر باستعادة ما خسره بصندوق الانتخابات ذات غفلة أو تراجع خاصة أن تونس على أبواب انتخابات رئاسية نهاية العام الحالي.
لكن النتائج المتفرعة عن ذلك كبيرة، لعل أهمها أنها تعيد البلاد إلى حالة الانقسام المجتمعي الكبير، بين إسلاميين ويسار وقوميين، بين نقابات ورجال أعمال، ومعارك بخلفيات عشائرية ومناطقية، وحملات تخوين وتكفير وتحريض على الاستهداف. هذا هو المناخ الذي نشط فيه الإرهاب وتمدد بعد مقتل المعارضين شكري بلعيد ومحمد براهمي في 2013.
◄ التصعيد وخلط الأوراق قد يحقق مكاسب سياسية آنية، لكنه لن يغيّر صورتها عند الناس
ستكون لهذا الانقسام المجتمعي تأثيرات غير محمودة على ملفات أخرى. سيتمدد إلى ملاعب الكرة، التي فيها ما يكفيها من توتر بسبب نظرية المؤامرة الرياضية، والسكوت لعقود على قضايا الفساد في ميدان حساس شعبيا، ويمثل مجالا للتنفيس بالنسبة إلى الفئات الاجتماعية المتضررة من نموذج أعرج للتنمية حوّل المدن الساحلية إلى مركز ومدن الداخل إلى هامش، وقاد إلى تشكل أحياء شعبية كبيرة وواسعة في شكل أحزمة للفقر ومدن للصفيح، وتجدها في الواجهة تستجيب لأي انتفاضة أو ثورة، وهي تعرف مسبقا أنها لن تستفيد منها.
ويمكن أن تقود حالة الانقسام الحاد إلى تعقيدات أخرى من ذلك زيادة الشعبوية في التعاطي مع المهاجرين الأفارقة. الرئيس قيس سعيد نجح في امتصاص الحملة الأولى ضد تونس من خلال مواقف وإجراءات وزيارات لمهاجرين. لكن الحملة تجددت شعبيا وهناك شحن آخذ في التصاعد، ويمكن أن يتطور سريعا في ظل خطاب المؤامرة الذي يرى أن كل شيء مخطط له ويستهدف استقرار البلاد.
هل يمكن أن تدخل تونس الانتخابات الرئاسية في هذا المناخ المشحون بالتوتر وردات الفعل غير المحسوبة. ما هي الصورة التي ستنقلها وسائل إعلام ومنظمات أجنبية وضيوف وافدون من وراء الحدود سيراقبون الانتخابات لأسابيع، هل سيقولون إنها علامة صحية، أم هي مؤشر على عدم الاستقرار.
ويعرف التونسيون مسبقا أن هذه الدوائر تشتغل بالتضخيم وتحويل الأنظار و“جعل الحبة قبة” مثلما يقول المثل العامي، فلماذا يعطونها المبرر لتصور البلاد في غير ما يريده المسؤولون عنها.
من الضروري التنبيه إلى أن تكرار هذه المواجهات لأسباب مختلفة يستنزف سمعة تونس العالمية لأن الإعلام الغربي أو السياسي الأوروبي لا يرى إلا سلطة تضغط على أصحاب رأي مخالف. لن يفهم على أنه صراع بين قوى ردة ودولة حازمة وحاسمة، كما يقول النشطاء الموالون للسلطة.
لا أحد يطلب من السلطة أن تتخلى عن حقها، ولا من المعارضة أن تسكت أو تتراجع، لكن المطلوب هو تصريف الخلاف في قنوات هادئة. يمكن للدولة، التي تحتاج إلى عقلها البارد في وقت الأزمات، أن تفتح قنوات الحوار مع أبرز القطاعات التي تتسم العلاقة معها بالتشنج مثل الإعلاميين والمحامين.
وللمفارقة، فإن هذين القطاعين أكثر من تفاعل بالإيجاب مع إجراءات 25 يوليو 2021 التي قام بها الرئيس سعيد، وأنهى بها منظومة الحكم السابقة من خلال حل البرلمان. من المهم أن تفرّق السلطة بين خصومها وأصدقائها، وأن تعمل على توسيع قائمة الداعمين والمحايدين والتقليل من المناوئين.
لكن ما يحصل الآن من محيط السلطة يشير إلى عكس ذلك، ثمة من يعتقد أن على الجميع أن يكونوا في صف الدولة/ السلطة أو ليسكتوا، وأن من يتكلم أو ينقد أو يحتج، فهو بالضرورة مع الخصوم، وهو جزء من المؤامرة.
ومن ناحية المعارضة، وأغلبها كان في السلطة وجرّب الحكم، فإن التصعيد وخلط الأوراق قد يحقق مكاسب سياسية آنية، لكنه لن يغيّر صورتها عند الناس.
أغلب التونسيين، بمن في ذلك من ينتقدون قيس سعيد، يشتركون في اعتبار أن المعارضة التي مارست الحكم قد فشلت فشلا كبيرا، وأنها عاجزة عن التغيير لأنها لا تملك مقاربات ولا برامج وليست لها خبرات بالدولة وآليات الحكم.
وجر السلطة إلى الاعتماد على القوة الصلبة والدفع نحو المحاكمات لن يغير صورة المعارضة لدى الناس، ولن يعيدها إلى السلطة. وخطاب عليّ وعلى أعدائي، أو أنا ومن بعدي الطوفان يضر بالبلاد ولا يستفيد منه أحد.
ما تعيشه تونس حاليا من تصعيد واستنفار هو معركة خطأ في توقيت خطأ.