هاجمت إيران، في ليلة 14 إبريل/ نيسان الجاري، إسرائيل مباشرة بعشرات الطائرات المسيّرة والصواريخ بعيدة المدى، ردّاً على الغارة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من الشهر، وأدّت إلى مقتل خبراء وعسكريين إيرانيين رفيعي المستوى. وبرّرت طهران هجومها بحق الدفاع عن النفس، خصوصاً بعدما رفض مجلس الأمن إدانة الاعتداء الإسرائيلي على قنصليتها في سورية. ومن الناحية السياسية، هو بمثابة حفظ ماء الوجه بالنسبة لإيران التي تعرّضت مراراً لضربات إسرائيلية أغلبها غير مباشرة، لم تتبنّاها إسرائيل، وجاء ردّها أخيراً ليعلن انتهاء “استراتيجيّة الصبر” التي اعتمدتها طهران في التعاطي مع اعتداءات القوى المناهضة لها في المنطقة، خصوصاً إسرائيل وأميركا، لتجنّب الدخول في مواجهة مباشرة معها، خوفاً من انعكاسات ذلك على تعطيل برنامجها النووي. ومن الناحية المعنوية، كان الهجوم الإيراني ضرورياً بالنسبة لها للحفاظ على مصداقيّة خطابها المعادي لإسرائيل، خصوصاً في وقتٍ تخوض فيها المقاومة الفلسطينية في غزّة، مسنودة بقوى المقاومة في المنطقة، حرباً مفتوحة ومباشرة مع الكيان الصهيوني منذ سبعة أشهر. لكن الهجوم الإيراني، رغم محدودية فاعليته، إلا أنه سيدفع إسرائيل إلى الردّ، وهذا ما يتوعّد به قادتها، حفاظاً أيضاً على مصداقيتهم وحفظاً لماء وجههم أمام رأيهم العام، ما سيؤدّي بالمنطقة إلى الدخول في حربٍ واسعةٍ وشاملةٍ لا أحد يستطيع أن يتنبّأ بآثارها المدمّرة على المنطقة بل وعلى العالم في حال دخلت فيها قوى عالمية كبرى.
حتى كتابة هذا المقال، ما زلنا أمام “حرب المصداقيات”، يريد كل طرفٍ أن يستعيد مصداقية خطابه الذي يقوم على نفي الآخر. وإذا كان الإيرانيون قد تصرّفوا بمنطق حساب “تاجر البازار”، الذي يحتسب الربح والخسارة بدقّة متناهية، فإن ردود فعل الحكومة المتطرّفة في إسرائيل، الغارقة في وحل غزّة، والمدعومة من القوى الغربية التي لا تتوانى في حمايتها ودعمها عسكرياً ومالياً وسياسياً وإعلامياً، غير معروفة، ولا يمكن التحكّم فيها، وهو ما يجعل العالم من جديد على حافّة أزمة عالمية كبرى، ويضع القوى الغربية الكبرى الداعمة لإسرائيل في ورطة كبيرة بسبب ارتهانها لحكومة إسرائيلية متطرّفة تريد أن تجرّ العالم إلى حرب كبرى لتحقيق خرافاتها التوراتية.
وبعيداً عن التهليل للهجوم الإيراني على إسرائيل، أو تَبْخِيس فاعليّته أو السخرية منه، كما عبّر عن ذلك بعض المنهزمين نفسياً، خصوصاً في صفوف المطبّعين والمستسلمين، فإن منطق التحليل الواقعي يدفع إلى اعتبار الهجوم الإيراني شكّل نقلة نوعية في المواجهة بين طهران وتل أبيب، وأسّس لقواعد اشتباك جديدة في معادلة الردع بينهما، رغم أنها ليست المرّة الأولى التي تهاجم فيها إسرائيل مباشرة من إحدى دول المنطقة، فقد سبق لعراق صدّام حسين في بداية تسعينيات القرن الماضي أن قصف مدناً إسرائيليةً بصواريخ سكود. ويومها طلبت أميركا من حليفتها إسرائيل عدم الردّ، وتكفّلت هي بمهمة تدمير نظام صدّام، لكن الوضع اليوم مختلف، لأن طهران تقول إنها تصرّفت حسب منطق القانون الدولي، وراعت في هجماتها أن تكون محسوبة بعناية، تجنّباً للتصعيد والانزلاق نحو الأسوأ.
أحد دوافع الرد الإيراني أوجبته المعادلة الجديدة التي فرضتها قوى المقاومة الفلسطينية على الأرض في غزّة والقوى المساندة لها
ثم لا يجب أن ننسى أن الهجوم الإيراني، رغم أنه جاء انتقاماً لمقتل قادتها العسكريين في دمشق، إلا أنه يأتي في سياق أطول وأعنف حرب تخوضها إسرائيل، منذ وجدت في المنطقة، فجّرها “طوفان الأقصى” الذي أفقدها هيبتها العسكرية وحطّم أسطورة جيشها الذي لا يُهزَم. فقد سبق لإسرائيل أن قصفت مراراً وتكراراً قواعد ومواقع إيرانية في سورية واغتالت قادة عسكريين وسياسيين وعلماء إيرانيين في سورية ولبنان وفي مناطق أخرى من العالم، بل وفوق التراب الإيراني. ومع ذلك، كان رد الفعل الإيراني محدوداً لم يصل إلى مستوى (وحجم) الهجوم أخيراً، والذي يعتبر إحدى نتائج تداعيات “طوفان الأقصى” والصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية في غزّة أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية المدعومة غربياً، فأحد دوافع الردّ الإيراني أوجبته المعادلة الجديدة التي فرضتها قوى المقاومة الفلسطينية على الأرض في غزّة والقوى المساندة لها في لبنان واليمن والعراق، بما أن طهران التي تعتبر “عرّابة” محور المقاومة في المنطقة كانت ستجد نفسها في موقف حرج إنْ لم تردّ الضربة التي تعرّضت لها من العدو نفسه الذي تواجهه قوى المقاومة الموالية لها في المنطقة ببسالة نادرة في حربٍ شرسة غير متناظرة وبإمكانات محدودة جداً.
وفي انتظار ما سيأتي، لأن الحرب كما يقال سجالٌ عندما تبدأ لا أحد يمكنه أن يعرف متى وكيف ستنتهي، يمكن جرد بعض حسابات الربح والخسارة المؤقتة من وراء أول مواجهة عسكرية مباشرة إيرانية إسرائيلية في النقاط التالية. بالنسبة لإيران، حفظت ماء وجهها، وانتقمت لضحاياها، وعزّزت ثقة محور قوى المقاومة في وقوفها خلفها، ورفعت منسوب شعبّيتها عند شرائح واسعة من الرأي العام الداخلي وفي المنطقة العربية، حيث يئست الشعوب من تحرّك أنظمتها لمواجهة الغطرسة الإسرائيلية. وعلى المستوى العسكري، جرّبت قدراتها الهجومية كما اختبرت ردود فعل التصدّي لأسلحتها، وأكّدت نفسها قوة إقليمية كبرى لا يمكن تجاوزها في الاستراتيجيات التي تخطّط لها القوى العظمى في المنطقة. وفي الجانب السلبي، محدودية فاعلية هجومها والتأكيد الإسرائيلي والأميركي على إفشاله يعرّيان الضعف الذي يمكن أن يستغله أعداؤها مستقبلاً للنّيل منها، ولعل هذا ما دفع مسؤولين إيرانيين إلى القول إن الإخطار المسبق بالهجوم كان مقصوداً للحد من فاعليّته لتجنّب مخاطر التصعيد!
الهجوم الإيراني قرار جريء في وقتٍ يقف فيه العالم وهيئاته ومؤسّساته مكتوفي الأيدي أمام جرائم الحرب التي يرتكبها صهاينة ساديون
أما إسرائيل التي يتوعّد حكّامها المتطرّفون برد جنوني، فقد شكّل الهجوم الإيراني صفعة قوية لكبريائها في المنطقة، وكشف حاجتها الوجودية إلى الحماية الغربية للدفاع عن نفسها وضمان أمنها واستقرارها، بل واستمرار وجودها، وبعث الشكّ في دورها الوظيفي دولة ردع في المنطقة لحليفتها أميركا. ومع ذلك، المستفيد، حتى الحظة مما حدث، هو الدولة العبرية، لأن الهجوم الإيراني، وردود الفعل الغربية، ساهما في فكّ طوق العزلة الدولية الذي كانت في طوْر التشكّل حولها بسبب الجرائم التي ترتكبها في غزّة، ولفت الأنظار، ولو إلى حين، بعيداً عن هذه المجازر التي ما زالت تُرتكب يومياً. وفي حال تطوّر المواجهة بينها وبين إيران، قد يؤدّي ذلك إلى تحوّل في مزاج الرأي العام العالمي الذي ينتقد اليوم جزءٌ كبير منه، خصوصاً في الدول الغربية، الحرب الإسرائيلية على غزّة ويؤيد الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامته دولته المستقلة. وداخل إسرائيل نفسها، فإن حكومتها المتطرّفة بقيادة بنيامين نتنياهو تجد نفسها في موقع المستفيد الأول مما جرى، لأنه سيمنحها الضوْء الأخضر لتوسيع الحرب، بعد أن تغيّرت قواعد الاشتباك التي كسرها هذا الهجوم. وهذا ما كان نتنياهو يسعى اليه عندما نفّذ هجومه على القنصلية الإيرانية في سورية، أي فتح جبهة جديدة تغطّي على فشله في تحقيق أهدافه السياسية المعلنة في غزّة، وتخفيف ضغط الرأي العام الإسرائيلي الذي يطالب برحيله، واستعادة الإجماع الداخلي الذي أحدثه هجوم 7 أكتوبر، ما سيكسبه مزيداً من الوقت للهروب من استحقاق محاسبته ومحاكمته داخلياً. لذلك، يجب انتظار الردّ الإسرائيلي قريباً، سواءً من خلال ضرب إيران مباشرة، أو ضرب أهداف إيرانية في سورية أو بواسطة عملياتٍ نوعية تستهدف شخصيات إيرانية سياسية أو عسكرية أو علمية أو مواقع استراتيجية إيرانية، وهو ما تسعى الإدارة الأميركية إلى كبحه ما أمكن كي لا يكون مبالغاً فيه، حتى لا ينزلق الوضع إلى حربٍ واسعةٍ وشاملة.
وعوداً على بدء، الهجوم الإيراني، كيفما كانت خلفياته وأهدافه وتداعياته، قرار جريء في وقتٍ يقف فيه العالم أجمع وهيئاته ومؤسّساته مكتوفي الأيدي أمام جرائم الحرب التي يرتكبها صهاينة ساديون مجرمون. وأهمية التحرك الإيراني في هذه المرحلة من الحرب الإجرامية التي تقودها إسرائيل ضد الفلسطينيين العزّل الأبرياء، كونه جاء ليرسم معادلة ردع جديدة ومخيفة، تشبه “لعبة روليت روسية”، بين إيران وإسرائيل، قد تؤدّي إلى تهدئة الأوضاع واحتوائها أو إلى تفجيرها. والحلقة الضعيفة داخل هذه المعادلة هي الدول العربية في المنطقة. أما القضية الفلسطينية، الغائبة في كل هذه الحسابات، فإن إرادة الشعب الفلسطيني هي التي ستحسمها، طال الزمن أم قصُر.