أقسى ما في الحروب أنها تتعرض لماكينة النسيان. ولكن هناك مَن يعتقد أن علينا ألا نبالغ في التذكير بالحروب. وهنا يمكن القول إن صفة “المبالغة” فيها الكثير من القسوة والظلم. ذلك لأنها تضع البشر في ميزان ينبغي ألا يكون مقياسا لمعاناتهم. فحين تكون الحرب مجرد صور يحل الوصف محل العذاب وتكون الكلمات الهادئة بديلا للصرخات المذعورة وينخفض مستوى الألم إلى درجة لا تليق به. فالحرب هي التي تقتل وتهدم وتشرد وتمحو وتنخفض بشروط الوضع البشري. لا تقع الحروب لتُنسى. إذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان سيعجز عن رؤية الوحش الذي يسكنه في مرآة الحقيقة. النسيان هو نوع من الإنكار. ويمكن أن يكون واحدا من أكبر الأسباب التي تؤدي إلى أن يقع الإنسان في الخطأ نفسه. يرتكب الحماقة نفسها. منذ نهاية الحرب العالمية لم تعش الكرة الأرضية التي ابتليت بنا إلا ساعات سلام معدودة. بل إن الحروب صارت تتزامن، بعضها مع البعض الآخر.
لا ينتظر البشر انطفاء نار حرب ليشعلوا نار حرب أخرى. صاروا على عجلة من أمرهم كما لو أنهم يميلون إلى الفناء بدلا من الميل إلى البقاء. يقول المؤرخون إن الإنسان في العصور القديمة كان يقتل أخاه الإنسان مدفوعا بنزعة البقاء. حدث ذلك في أزمنة الصيد وقبل أن يستقر في قرى ثابتة، بعد أن اكتشف الزراعة أما حين اخترع العجلة فقد كانت الدولة وهي واحد من أعظم اختراعاته قد وضعته على طريق القانون الذي نظم حياته وحمى ملكيته وهذب سلوكه وصار لما يفعله معنى المشاركة الاجتماعية. غير أنه لم يكف عن الغزو إلى أن حلت البشرية مشكلاتها عن طريق التوصل إلى مفهوم الدولة الحديثة التي أضفت على الجغرافيا معنى جديدا. صار مبدأ الغزو مستهجنا في ظل ثبات حدود الدول على الخريطة السياسية. إنجاز عظيم انبثق منه مفهوما الوطن والمواطنة غير أنه لم يحل دون استمرار مبدأ الغزو. غزت ألمانيا أوروبا بالطريقة نفسها التي غزت فيها الولايات المتحدة العراق وأفغانستان.
وبغض النظر عما يُقال من أن هناك دروسا تعلمتها البشرية من حروبها وهو قول غامض يتعامل معه السياسيون باستخفاف فإن النسيان هو ما يراهنون عليه. إنهم يعتقدون أن عصرا تسوده قيم الاستهلاك السريع هو الحاضنة المثلى للنسيان. وهم يعتقدون أن تراكم الحروب التي تشن في أماكن مختلفة من العالم يمكن أن يفقد الإنسان التركيز على حرب بعينها. فبعد كل ما رافق حرب أوكرانيا من ضجيج غربي وتبعه هلع الطاقة والخبز، جاءت حرب غزة لتتصدر المشهد العالمي بين مؤيد ومعترض. ولكن ماذا عن حرب اليمن وبعدها حرب السودان؟ وهناك حروب أقل ضررا في بقاع أخرى. ولكنها حروب يصاحبها القتل والعذاب والتشرد والفقر والجوع. نسينا حرب أوكرانيا من أجل حرب غزة من غير أن نفكر أصلا بما تجلبه حربا اليمن والسودان من ضحايا ليس المطلوب التعرف على أسمائهم غير أن كارثة المقابر التي حلت محل البيوت تظل ماثلة أمام أعيننا بغض النظر عن الميزان الدولي.
مثلما نُسيت أوكرانيا ستُنسى غزة. غزة ليست بأهمية أوكرانيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة وأوروبا اللتين تسيطران على وسائط الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي. لقد استقبلت أوروبا حشود اللاجئين الهاربين من أوكرانيا. قبلهم استقبلت أفواج القادمين من سوريا. ولكنها اليوم تساهم في إغلاق أبواب غزة على الفلسطينيين. ابقوا في ملعب القتل. سيصل طعامكم معلبا بالمظلات. أما المسحوق اليمني والسوداني فلا يحمل سوى معنى واحد. شعب ينتحر. في المصفاة الغربية ليس هناك من ضحايا إلا إذا كانوا يدخلون في حسابات الدعاية. كم هو عدد الذين قُتلوا في الحرب العراقية – الإيرانية أو في حرب تحرير الكويت أو في الغزو الأميركي للعراق؟ لا أحد يفكر في ذلك حتى لو كانت الأرقام صادمة.
قياسا بما يجري فإن البشرية في حاجة ماسة إلى مَن يذكرها بعارها. لا ينحصر ذلك العار بنسيان الضحايا بل وأيضا بالتغاضي عن حقيقة أن الحروب ليست حلا مشرفا وعادلا. وإذا كان ضحايا الحروب لا ينتظرون أن يسأل أحد عنهم أو يفكر فيما انتهوا إليه من مصائر مظلمة فإن البشرية جمعاء في حاجة إلى أن تتذكر أن النسيان ليس علاجا لحماقاتها وأن الحروب المنسية ستظل جروحها مفتوحة مهما طال الزمن.