قيل الكثير عن أسباب “التحوّل الجزئي” في الخطاب الأميركي في دعم الكيان الصهيوني في العدوان على غزّة، لكن المهم تحليل مآلاته. ما زال الخلاف الجديد الذي برز بين إدارة الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، نتنياهو، في إطار “الخطاب”.
إلى أيّ مستوى يمكن أن يؤثر هذا “التحوّل” في الخطاب الأميركي؟ ما زال الحديث عن أمرين رئيسين: الأول، وضع جدول عملي للعمليات الإسرائيلية، والانتقال من “مستوى مكثّف عالٍ” إلى “منخفض الكثافة” (لاحظوا اجتراح المصطلحات الجديدة للتمييز بين المساحة المشتركة والاختلاف بين الطرفين). والثاني، هو لمرحلة اليوم التالي في غزّة (على فرض الانتصار على حركة حماس عسكرياً). وهنا يبدو الخلاف أكثر وضوحاً، مع لاءات نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس (لا للتهجير، لا للاحتلال، لا لإقامة مناطق عازلة إسرائيلية في غزّة)، ثم اللغة المختلفة للرئيس بايدن تجاه إسرائيل، بخاصة حديثه أمام المجتمع اليهودي في أميركا (الذي اعتُبر نقطة تحوّل)، وتصريحات متتالية صادرة عن وزارة الخارجية تظهر تراجعاً (على مستوى الإدراك والخطاب) في الدعم المطلق السابق لإسرائيل، واستعارة مصطلحات استخدمتها الدبلوماسية العربية، بخاصة الأردنية، مثل القول إنّ الحل سياسي وليس عسكرياً، وإنّ حماس فكرة والفكرة لا تهزم، إلخ.
في المقابل، ثمّة دعم ما زال قائماً وواضحاً في الخطاب الأميركي وعلى أرض الواقع لإسرائيل، يتمثل بتأكيد الأهداف العسكرية بالقضاء على حكم “حماس” وقدرتها العسكرية في غزّة، وفي عدم وقف إطلاق النار إلا بتحقيق ذلك. ولكن جرى اجتراح مصطلح آخر جديد، يتناسب مع التحوّل النسبي، ويتمثّل بـ”الهُدن الإنسانية طويلة المدى” التي قد تسمح للصفقات المرتبطة بتبادل الأسرى، وبصفقاتٍ أو تسوياتٍ سياسيةٍ وترتيبات للمرحلة المقبلة، مع استئناف الضربات العسكرية الإسرائيلية بصورة أكثر تركيزاً، بما يخفّف حجم الغضب العالمي والأميركي والعربي من الفظائع الكارثية والإنسانية التي تُرتكب في غزة، وبما يسمح لبايدن بإعادة تسويق نفسه بين طرفين متناقضين: الأول، دعم إسرائيل (مع إضعاف نتنياهو شخصياً). والثاني، تخفيف الخسائر الكبيرة في الصورة الأخلاقية لإدارته، ومحاولة ترميم شيءٍ من العلاقة مع الأميركيين العرب قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ثمّة خلاف آخر غير معلن، لكن يمكن إدراكه بين سطور النقاش بين الطرفين، ويتمثّل بإدراك إدارة بايدن أن مشروع نتنياهو يتجاوز قضية الانتصار العسكري على “حماس” إلى إيجاد واقع جديد في غزّة يقوم على إعادة الاحتلال والتهجير، ووجود توجّه واضح إلى سيناريو آخر في الضفة الغربية، وهي الأكثر أهمية بالنسبة إلى اليمين المتطرّف الديني في إسرائيل، الذي يسعى لعملية تطهير عرقي وسيطرة مكانية على القدس وأغلب مناطق الضفة الغربية. لذلك، نجد التحرّكات الأميركية في محاولة عدم تفاقم الأوضاع في الضفة الغربية، والشعور بأنّ لدى اليمين الإسرائيلي أجندة أصبحت تحكم السياسات الإسرائيلية، وتستبعد تماماً حلّ الدولتين أو أيّ أفق سياسي، وهو ما حاول بايدن تمريره للمجتمع اليهودي في أميركا والعالم، بالتلميح إلى أنّ هذه الأجندة تمثل خطراً على الشعب اليهودي نفسه (كما قال واستخدم مصطلح “حرفياً”)، بمعنى أنّ هنالك صراعاً آخر بين إدارة بايدن والديمقراطيين على “روح الكيان الصهيوني” مع التيار اليميني المتطرّف، الذي يجد عادة في الحزب الجمهوري حليفاً أقوى من الديمقراطيين، لأجندته، مع اتفاق الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، على “حماية إسرائيل” من حيث المبدأ.
اجترحت إدارة بايدن مخرجاً آخر لها لتعطي فرصة زمنية للعدوان الإسرائيلي لاستكمال القتل والذبح، ويتمثل بمهلة أسابيع، ثم يتحوّل العدوان إلى “منخفض الوتيرة”، وهي المهلة التي سيستثمرها الكيان للقيام بأعمال إبادة شنيعة أكبر! سيراهن نتنياهو على ثلاثة أمور: أن هذه الفرصة الزمنية تعطيه مساحة للمناورة مع إدارة بايدن. أنّ بايدن يزداد ضعفاً وغير معنيّ بالدخول في صدام مع إسرائيل اليوم على أعتاب الانتخابات الأميركية. أنّه (بايدن) محاط بأحباب إسرائيل ومريديها، وأنّهم سيعملون على تخفيف حدّة التحول وتدوير الزوايا الحادّة في العلاقة بين الرجلين.
في الخلاصة، لا يمكن الرهان بصورة حقيقية على هذا التحوّل ولا مآلاته على أرض الواقع، على الأقل في المدى القصير، فهو لن يوقف العدوان، ولن يؤدّي إلى وقف إطلاق نار، وعلى المدى المتوسط المطلوب تغيير في التكتيك، وليس في الأهداف الرئيسية.