أمام العالم فترة ترقب اقتصادي ومالي ونقدي لا تقل في وزنها عن احتمالات المواجهات العسكرية.
الديون الصادرة بالدولار تنمو بسبب دوافع استثمارية تجعله مجدياً حيال العملات من حيث السعر وانخفاض نسبة المخاطرة في الاستثمار فيه.
القول إنّ الدولار سيفقد دوره جوابه أنّ “بريكس” تشكل تحدياً أمام عملة أميركا، لكن القول إن الدولار مرشح لانتكاسةٍ في المدى المنظور فهذا غير وارد.
السبب في تفضيل الدولار على غيره هو أن الحكومات والشركات الكبرى تريد الإصدار بعملة مستقرة. لكن سعر تبادلها مرشح للصعود في الظروف الصعبة.
الدولار هو العملة المهيمنة والتحول إلى نظام متعدد العملات يعتمد الذهب أو سلة عملات يتطلب ترتيبات تمر بدون مقاومة كبيرة وهجوم مضاد من أميركا وحلفائها.
ليس الدولار العملة الأقوى والأكثر مردوداً والأقل مخاطرة فحسب، بل أن أميركا اعتمدت سياسات نافعة للدولار والاقتصاد الأميركي على حساب الدول المنافسة وعملاتها.
من نتائج جائحة كورونا وحرب أوكرانيا خشي كثيرين من دخول العالم الكساد التضخمي وهي دورة نادرة مرت بها اقتصادات كثيرة بالعالم بعد طفرة أسعار النفط في 1973.
الدول التي ربطت عملاتها بالدولار، وتنافس أميركا اقتصادياً، رأت أن هذا السلوك الأميركي المنغلق على المصلحة الأميركية لا يتوافق مع دور الدولار كعملة احتياط دولية.
عانت معظم دول بريكس من عسكرة الدولار واستخدامه سلاحا ضد خصوم أميركا، روسيا وإيران والصين وتعاني غيرها ارتفاع كلف ديونها بالدولار ما يرغبها في بدائل للدولار.
* * *
اتصل بي كثيرون في وطني الأردن ومن خارجه يتساءلون عن مصير الدولار في ضوء اجتماع قمة مجموعة بريكس الخامس عشر، والذي عقد الأسبوع الماضي في جوهانسبرغ أكبر مدن دولة جنوب أفريقيا.
وقد تراوحت توقعات السائلين ومعهم كثير من المعلقين على وسائل الإعلام المختلفة أن هدف “بريكس” هو الرغبة في إزاحة الدولار عن عرشه أو رهبة من ذلك وسوف تتناول في هذا المقال هذه القضية.
في مقال نشرته مجلة الاقتصاد المالي في عددها الثاني من مجموعة 144 في شهر مايو/ أيار عام 2022 بعنوان “الدين النقدي المسيطر (Dominant Currency Debt) للكاتبين إيجمين إرين وسيمون مالامود يؤكد أن الدولار لا يزال هو العملة المهيمنة في العالم بدليل نمو أدوات الدين النقدية والصادرة بالدولار.
وتقدر قيمة الائتمان الممنوح بالدولار عبر الحدود لغير البنوك بحوالى 12 تريليون دولار وفقاً لبنك التسويات الدولي. ومع أن هذا الرقم قد تراجع بعد أزمة عام 2008، لكنه عاد للارتفاع بسرعة بعد ذلك.
ويخوض المقال في بحث الأسباب التي تجعل الدولار هو العملة المهيمنة على الاقتصاد العالمي. ولعلّ أهمها هو أن الاقتصادات الصاعدة تفضل إصدار سندات دين بالدولار بدلاً من العملات المحلية وكذلك تفعل الشركات الكبرى العالمية.
والسبب في تفضيل الدولار على غيره هو أن الحكومات والشركات الكبرى تريد الإصدار بعملة مستقرة. ولكن سعر تبادلها مرشح للصعود في الظروف الصعبة. إذاً فالدين الصادر بالدولار ينمو بسبب دوافع استثمارية تجعله مجدياً حيال العملات من حيث السعر وانخفاض نسبة المخاطرة في الاستثمار فيه.
ويقدم الباحثان في هذه الدراسة المحترمة نموذجاً رياضياً افتراضياً يحللون فيه سلوك المستثمرين بالدولار لمدة خمس سنوات، ويجدون أن النتائج تظهر ايجابية على الأرجح، خاصة إذا ما قورنت بالاستثمارات الصادرة بعملات منافسة للدولار مثل اليورو، والين، واليوان الصيني والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري والروبل الروسي.
وتعاني دول “بريكس” الخمس من اعتماد السياسة الاقتصادية الأميركية على هيمنة الدولار على الأسواق، ليس لأنه العملة الأقوى والأكثر مردوداً والأقل مخاطرة فحسب، بل لأن الولايات المتحدة اعتمدت سياسات نافعة للدولار والاقتصاد الأميركي على حساب اقتصادات الدول المنافسة وعملاتها.
وقد ظهر هذا جلياً بعد انتهاء أزمة كورونا التي أحدثت تراجعاً واضحاً في معدل النمو الدولي، ثم الطفرة السعرية بعد انفجار الحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع اسعار المواد الرئيسية في العالم.
ولقد كان من نتائج جائحة كورونا أولاً وحرب أوكرانيا ثانياً أن خشي كثير من المراقبين والمحللين من دخول العالم في الكساد التضخمي (Stagflation)، وهي نفس الدورة النادرة التي مرت بها اقتصادات كثير من دول العالم بعد ثورة أسعار النفط عام 1973/1974، إذ أحدث ذلك هزة كبيرة في أسواق السلع الدولية رفعت الأسعار وسببت زيادة كبيرة في مؤشرات التضخم العالمي في الوقت الذي صاحب ذلك ارتفاع كبير في نسب البطالة.
لكن الاقتصاد الأميركي، الذي تحسن نسبياً على حساب الدول المنافسة بسبب كورونا، لم يُعان من نسب مرتفعة من التضخم. لكن بنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) رفع أسعار الفوائد بحوالى 350 نقطة بحجة السيطرة على الميول التضخمية، لكنه ساهم في جعل الديون بالدولار أكثر مردوداً وفائدة، فتعززت لدى المستثمرين الماليين فكرة أن الاستثمار بالدولار هو الأجدى والأفضل.
في المقابل، فإنّ الدول التي ربطت عملاتها بالدولار، والتي تنافس أميركا اقتصادياً رأت أن هذا السلوك الأميركي المنغلق على التفكير في المصلحة الأميركية لا يتوافق مع دور الدولار كعملة دولية رائجة مسيطرة. وترك أمور التصرف بالسياسات النقدية للولايات المتحدة وحدها يسبب أذى كبيراً لاقتصادات الدول الأخرى.
الصين هي الدولة الأهم في مجموعة بريكس ويشكل ناتجها المحلي الاجمالي حوالي 60% من مجموع دول “بريكس” والتي تشكل بدورها حوالي 31.5% من الناتج المحلي الإجمالي الدولي، أو أكثر بقليل من الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة السبع الغربية، وإن كان هناك تشكيك في هذا الأمر.
لكنّ إضافة ست دول جديدة (الأرجنتين، مصر، إثيوبيا، إيران، السعودية، الإمارات) سيرفع الناتج المحلي الإجمالي لهذه المجموعة بحوالى تريليوني دولار، وحينها لا يبقى شك في أن هذه المجموعة ستفوق مجموعة السبع المكونة من أميركا، كندا، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، بريطانيا، اليابان.
أما من الناحية التجارية، فإن الأعضاء الخمسة الأصليين في “بريكس” يساهمون بما حجمه 23% من مجموع الصادرات و19% من الواردات. وإذا أضفنا الدول الست المدعوة للانضمام، فإن حجم الصادرات سيصبح 26.7% من صادرات العالم و22% من مستوردات العالم السلعية.
إذاً، نحن أمام بروز مجموعة جديدة قوية تغطي قارات آسيا وأفريقيا وجنوبي القارة الأميركية. وليس بين دول “بريكس” أي دولة من شمال القارة الأميركية، أو أوقيانوسيا، أو أوروبا. وهذا الاصطفاف على أسس جغرافية سيجعل العالم كله منفتحاً على احتمالات تنافسية حادة في المستقبل.
ويقدر أن لدى دول “بريكس” الأصلية والمستجدة حوالي 10 تريليونات دولار على شكل استثمارات نقدية بعملة الدولار. ورغم عدم دقة الرقم، إلا أنه قريب من الواقع ويضع عقبة أساسية حيال تصرف الدول في إزاحة الدولار عن عرشه.
لكن معظم دول “بريكس” عانت من عسكرة الدولار إذ تستخدمه أميركا كوسيلة عسكرية ضد خصومها،خاصة روسيا وإيران، وأحياناً الصين. وتعاني دول أخرى من ارتفاع كلف مديونيتها بالدولار، ما يجعلها راغبة بدرجات متفاوتة في البحث عن بدائل للدولار.
فالصين ترى في نفسها المزاحم الأكبر للولايات المتحدة، ولا تريد أن ترى استمراراً لهيمنة الدولار في حال انتقال العالم من النظام النقدي الحالي إلى نظام العملات الإلكترونية.
وتريد أن يكون لعملتها دور في تحديد أسعار صرف عملات الدول الأخرى، وكذا في إجراءات التسوية التي ستشهد طفرة كبرى حينما يصبح التبادل الدولي مرقمناً بالكامل. وهي حريصة على أن يكون لها أسواقها في العالم النامي بخاصة عن طريق الاستثمار عبر بنك التنمية الجديد الذي خلقته ضمن إطار “بريكس”.
أما الهند فلا تريد أن تتخلى عن التعامل مع الغرب، ولكنها لا تريد أن ترى نفسها بدون دور فاعل داخل مجموعة بريكس حالياً وفي المستقبل.
أما البرازيل وجنوب أفريقيا فتتطلعان إلى تنمية أدوارهما في مناطقهما على أقل تقدير (أميركا اللاتينية وأفريقيا) ويريدان لهذا الدور الإقليمي أن يكون قاطرتهما نحو ولوج الاقتصاد العالمي بشكل أفضل.
أما دولتا الخليج السعودية والامارات فهما واقعيتان، إذ تريدان الحفاظ على التبادل التجاري والاستثماري مع جارتيهما الكبيرتين في آسيا (الصين والهند) من دون الإخلال بعلاقاتهما مع الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. لكنهما مرشحتان للتعرض مستقبلاً لضغوط غربية قد تضعهما أمام خيارات صعبة.
وروسيا وإيران واضحتا العداء لأميركا وللدولار وتريدان التخلي عن الدولار فوراً. ويشكل هذا التجمع بالنسبة لهما مدخلاً لمواجهة التحديات الأخرى التي تواجهها مع الولايات المتحدة وحلفائها.
أما الأرجنتين فإنها تعاني من تضخم شديد يؤثر على إنجازها الاقتصادي، وترى في أن دخولها مع مجموعة بريكس سيجعل مهمتها في مكافحة التضخم أسهل واحتمالات الدخول في دورة كساد تضخمي أبعد احتمالاً.
القول إنّ الدولار سيفقد دوره جوابه أنّ “بريكس” تشكل تحدياً أمام العملة الأميركية، ولكن القول إن الدولار مرشح لانتكاسةٍ في المدى المنظور فهذا غير وارد، خاصة أنه العملة المهيمنة، والتحول إلى نظام متعدد العملات معتمد على الذهب أو سلة عملات يتطلب ترتيبات تمر بدون مقاومة كبيرة وهجوم مضاد من الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها.
أمام العالم فترة ترقب اقتصادي ومالي ونقدي لا تقل في وزنها عن احتمالات المواجهات العسكرية