الرئيسية / أخبار / كيسنجر ومهمّته الصعبة في الصين

كيسنجر ومهمّته الصعبة في الصين

لم يُوارب شي جين بينغ في حديثه الصريح مع كيسنجر عندما قال له إن أميركا اليوم بحاجة إلى “حكمتك وشجاعة نيكسون”.

مهمّة كيسنجر صعبة اليوم في الصين، ومن غير المحتمل أن ينجح هذه المرّة، كما فعلها عام 1972، باحتواء التوتر بين واشنطن وبكين.

يعقد مهمّة كيسنجر خلط الأولويات في السياسة الخارجية لبايدن مقارنة بالرؤية الحكيمة لكيسنجر التي مكّنته من النجاح بمهمته في سبعينيات القرن الماضي.

لم تثمر زيارة وزير الخارجيّة بلينكن، لبكين الشهر الماضي، فتحرّك كيسنجر “الصديق القديم للصين” كما تسمّيه بكين، في محاولةٍ لكسر الجمود بين واشنطن وبكين.

كانت السياسة الخارجية الأميركية عند زيارة الرئيس نيكسون عام 1972 للصين تركّز على “احتواء الصين”، بينما تقوم سياستها الخارجية اليوم على “تركيع الصين”.

في الأشهر الأولى لانتخابه رئيساً، قال بايدن إن لدى الصين طموحات لأن تصبح القوة القائدة للنظام الدولي والدولة الأكثر ثراءً، وذلك “لن يحدث على مرأى ومسمعٍ مني”.

* * *

تقول الحكمة الشعبية إن التاجر عندما يُفلس يبدأ بالنبش بالدفاتر القديمة، لعله يجد حلولاً فيها. يبدو أن الأمر ينطبق هنا على الرئيس الأميركي بايدن الذي لم تثمر زيارة وزير خارجيّته، بلينكن، لبكين في الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، فتحرّك “الصديق القديم للصين” (كما تسمّيه بكين) كيسنجر، في محاولةٍ لكسر الجمود مع واشنطن.

أكمل كيسنجر، قبل أسابيع، مائة عام من عُمره، وها هو يستأنف نشاطه الدبلوماسي، فيصل إلى الصين، ويجتمع مع الرئيس شي جين بينغ الذي لم يُخفِ صعوبة مهمّة الصديق القديم، فأخبره أن الصين وأميركا “على مفترق طرق”، حيث يتطلب من كلا البلدين الذهاب كلٌّ في طريقه، لأن “المشهد الدولي يمرّ بتحوّلات كبيرة”، ولكلٍّ من البلدين الخيار.

مهمّة “الثعلب العجوز” هذه أصعب بكثير مقارنة بزيارته التاريخية للصين عام 1971، التي مهّدت لزيارة الرئيس الأميركي هناك ريتشارد نيكسون عام 1972، والسبب الرئيسي أن السياسة الخارجية الأميركية آنذاك كانت تركّز على “احتواء الصين”، بينما تقوم سياستها الخارجية اليوم على “تركيع الصين”.

أدرك نيكسون مبكّراً أن الطريقة المثلى للتعامل مع الصين تتمثل باحتوائها وتطبيع العلاقات معها، فكتب في مقالة له قبل أن يصبح رئيساً نشرت في مجلة فورين أفيرز عام 1967، إن الصين يجب أن لا تبقى معزولة عن المجتمع الدولي، ومصلحة الولايات المتحدة والسلام والاستقرار في العالم يكمن في تحسين العلاقات معها.

وقد أعطى ذاك الدعم الرئاسي لكيسنجر بالانفتاح على الصين هامشاً كبيراً للمناورة، ووضع مهاراته الدبلوماسية في موقعٍ أهّله لتحقيق نجاح باهر في إحداث التقارب الأميركي الصيني، الذي حكم العلاقة بين البلدين فترة طويلة.

أما اليوم، فقد أوضح جوزيف بايدن سياسته تجاه الصين مبكّراً، وفي الأشهر الأولى لانتخابه رئيساً، قائلاً إن لدى الصين طموحات لأن تصبح القوة القائدة للنظام الدولي والدولة الأكثر ثراءً، وذلك “لن يحدث على مرأى ومسمعٍ مني”.

وأضاف أن الرئيس الصيني يرى أن “الأوتوقراطية” (حكم الفرد المطلق)، لا “الديمقراطية” هي التي تملك “مفتاح المستقبل”. يجد كيسنجر يديه مكبّلتيْن أمام إحداث اختراقٍ في العلاقات مع الصين برؤية بايدن القائمة على المواجهة مع بكين في السياسة الخارجية.

وكذلك التناقض الأيديولوجي المتمثل بطبيعة نظام الحكم وامتلاك مفاتيح المستقبل بين بكّين وواشنطن كما يراه الرئيس الأميركي، فهامش المناورة للثعلب العجوز محدود للغاية، فكيف له أن يُقنع الرئيس الصيني بالتخلي عن طموحاته بأن تصبح دولته الأكثر ثراءً في العالم، وربما قيادة النظام الدولي، أو أن تكون القوة الأولى في العالم.

ومما يعقد مهمّة كيسنجر، خلط الأولويات في السياسة الخارجية لبايدن مقارنة بالرؤية الحكيمة لكيسنجر التي مكّنته من النجاح بمهمته في سبعينيات القرن الماضي. آمن كيسنجر بأن التناقض الرئيسي للولايات المتحدة آنذاك هو مع الاتحاد السوفييتي، لذا من الضروري تحييد الصين للتفرّد بموسكو.

أما بايدن، فقد آمن بأن تناقضه الرئيسي هو مع الصين، فعوضاً عن تحييد القوى الأخرى، دخل في حربٍ مع روسيا التي لا تشكّل منافساً رئيسياً له، على الأقل بسبب ضعفها الاقتصادي، لتخرج بكين المستفيدة الأولى من الحرب في أوكرانيا، حيث تفرّغت لتقوية نموّها الاقتصادي، وحتى اللعب في السياسة الخارجية في مناطق نفوذ كانت تاريخياً حكراً للولايات المتحدة، مثل رعايتها اتفاق التقارب بين السعودية وإيران.

انشغلت واشنطن عن منافستها على قيادة النظام الدولي، على الأقل بسبب نموّها الاقتصادي المتسارع، لتدخل في حرب استنزاف في أوكرانيا لا يعلم أحدٌ متى ستنتهي، فضلاً عن أن الحرب أيضاً أضعفت روسيا لصالح الصين كقوة مركزية في شرق آسيا.

المؤسّسة السياسية الأميركية هي الأخرى لا تساعد كيسنجر في مهمته الحالية، فقد شكّلت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، عام 2022، تايوان إحراجاً كبيراً للقيادة الصينية التي لم تستطع إيقافها، ولم تردّ بالقدر الذي يعيد لها كرامتها، ما ترك شكوكاً كبيرة لدى بكين بشأن نيات واشنطن تجاهها، وانعدام للثقة بالقيادة الأميركية الحالية تجاه أي تقارب بين البلدين.

لقد أدت زيارة كيسنجر ونيكسون الصين عام 1972 إلى توقيع “بيان شنغهاي” الذي أقرّت به الولايات المتحدة بصين واحدة على ضفتي مضيق تايوان، وزعزعت زيارة بيلوسي تايون الثقة لدى القيادة الصينية بموقف واشنطن من اتفاق الصين الواحدة التاريخي.

ومعلوم أن عامل “الثقة” هو أساس التقارب في العلاقات الدولية، وقوّضته تصريحات بايدن المتكرّرة بشأن إضعاف الصين وزيارة رئيسة المؤسّسة التشريعية في الولايات المتحدة.

من جهة أخرى، يجد كيسنجر نفسه اليوم مفاوضاً مع طرفٍ اختلف كثيراً عما كان عليه الحال في سبعينيات القرن الماضي، فالصين آنذاك كانت قوة صاعدة تحاول لملمة اقتصادها بعد الحرب الطاحنة التي خاضتها في كوريا (1950 – 1953).

أما اليوم، فتحتلّ مراتب متقدّمة عالمياً في النمو الاقتصادي، لتتحوّل إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ولتصبح ثاني أكبر دائن للولايات المتحدة بعد اليابان، حيث وصل الدين الأميركي للصين حوالى تريليون دولار.

يجد كيسنجر نفسه اليوم مفاوضاً ضمن موازين قوى اختلفت جوهرياً عما كان عليه الحال في عهد نيكسون. وبالتالي، لا تجد بكين (الدائن الكبير لواشنطن) مضطرّة إلى القبول بأقلّ ما تؤهلها قوتها الاقتصادية والعسكرية من لعب دور على الساحة الدولية.

مهمّة كيسنجر صعبة اليوم في الصين، ومن غير المحتمل أن ينجح هذه المرّة، كما فعلها عام 1972، باحتواء التوتر بين واشنطن وبكين. والسبب الرئيسي لا يكمن بضعف مهاراته الدبلوماسية أو تقدّمه في العمر، وإنما لأن بايدن ليس نيكسون.

ولأن الولايات المتحدّة التي تخوض أزماتٍ داخلية مع الترامبية السياسية، والمنحسر نفوذها تدريجياً على الساحة الدولية اليوم، هي ليست نفسها “أميركا ريتشارد نيكسون”، وكذلك الصين النامية في السبعينيات ليست الصين اليوم القائدة للتنمية الاقتصادية.

لم يُوارب شي جين بينغ في حديثه الصريح مع كيسنجر في زيارته هذه، عندما قال له إن أميركا اليوم بحاجة إلى “حكمتك وشجاعة نيكسون”.

*د. إبراهيم فريحات أكاديمي وباحث فلسطيني، رئيس برنامج إدارة النزاعات بمعهد الدوحة للدراسات العليا.