لماذا تبدّلت السياسة الأميركية تجاه الصين؟
إذا لم تؤد العقوبات وحرب أوكرانيا لانهيار روسيا (وهي أضعف من الصين)، فمن الأفضل لأميركا التريّث في مسار استفزاز الصين حتى يحين أوان ذلك.
أهداف استراتيجية احتواء الصين ما زالت قائمة لكن التصعيد الذي مارسه الديمقراطيون بأميركا بدأ يتبدل وحلّ الحوار مكان التصعيد العسكري والاقتصادي.
رغم الكلام الإيجابي الذي أطلقه المسؤولون الأميركيون خلال زياراتهم الأخيرة لبكين، فلا يمكن أن نتصور أن الأميركيين تخلوا عن “استراتيجية احتواء الصين”.
القلق الأميركي من الصعود الصيني راسخ وحقيقي وممتد منذ دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، ولا يمكن أن نتصور أنه تلاشى في الوقت الراهن.
تصف الاستراتيجية الصين بـ”المنافس الوحيد الذي ينوي إعادة تشكيل النظام الدولي وتراكم قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف”.
* * *
في زيارات تهدئة تعكس تبدلاً جوهرياً في طريقة تعامل الولايات المتحدة الأميركية مع الصين، وصل وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري، الذي يشغل حالياً منصب المبعوث الخاص حول المناخ، إلى بكين لإجراء محادثات ثنائية، وذلك بعد زيارات سابقة لوزير الخارجية الحالي أنتوني بلينكن ووزيرة الخزانة الأميركية جانيت يالين.
رغم الكلام الإيجابي الذي أطلقه الأميركيون خلال تلك الزيارات، فلا يمكن أن نتصور أنَّ الأميركيين تخلوا عن “استراتيجية احتواء الصين”، إذ إنَّ القلق الأميركي من الصعود الصيني راسخ وحقيقي وممتد منذ دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، ولا يمكن أن نتصور أنه تلاشى في الوقت الراهن.
أولاً- استراتيجية احتواء الصين منذ عهد بوش إلى بايدن
منذ ما قبل الرئيس باراك أوباما الذي أعلن استراتيجية “التوجه نحو آسيا”، ينظر الأميركيون إلى الصين باعتبارها تهديداً محتملاً للولايات المتحدة. وقد ظهر هذا في استراتيجيات الأمن القومي الأميركية المتعددة.
– جورج بوش الابن
ذكرت وثائق بريطانية رُفعت عنها السرية أنّ الرئيس جورج بوش أعرب عن قلقه من تقدم الصين في فبراير/شباط 2001، خلال زيارة رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير إلى واشنطن.
وقال بوش (بحسب الوثائق): “ستكون الصين قوة عالمية رئيسية خلال 50 عاماً، وستغدو صاحبة أحد أكبر اقتصادات العالم، لكن نوع هذه القوة لم يتضح بعد”، وتذكر الوثائق أنّ بوش وبلير اتفاقا على ضرورة “التفكير بحرص في كيفية احتواء القوة الصينية”.
– باراك أوباما
تزامن إطلاق أوباما استراتيجيته الجديدة للتوجه إلى المحيط الهادئ مع إعلان “مبادرة الطريق والحزام” الصينية. ويمكن اختصار استراتيجية أوباما المعلنة تجاه الصين بأنها كانت مزيجاً من الاحتواء والتعاون أو ما سمّاه بعض الباحثين الأميركيين “congagement”.
– دونالد ترامب
في استراتيجية الأمن القومي التي أصدرتها إدارة ترامب عام 2017، تغيّرت اللغة المستخدمة سابقاً (الهادئة نوعاً ما) تجاه روسيا والصين، واعتُبرت الأخيرتان “تهديداً استراتيجياً للولايات المتحدة الأميركية يجب مواجهته”.
– جو بايدن
برز العداء الأميركي لكلٍّ من روسيا والصين في استراتيجية إدارة بايدن للأمن القومي التي صدرت في تشرين الأول/أكتوبر 2022، فاعتبرت الوثيقة أنَّ الصين وروسيا نظامان استبداديان يرفضان القيم الديمقراطية، ويشكلان تحدياً للسلام والاستقرار الدوليين.
تصف الاستراتيجية الصين بأنها “المنافس الوحيد الذي ينوي إعادة تشكيل النظام الدولي، وأنها تواصل زيادة قوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف، لتخرج بذلك عن المنافسة التقليدية التي تنادي بها الولايات المتحدة في سوق المصالح الاقتصادية المختلفة”.
وجاء في الاستراتيجية: “على الرغم من أن المنافسة مع الصين ستكون أكثر وضوحاً في منطقة المحيطين الهندي والهادي، فهي أيضاً عالمية، إذ يدور السباق حول كتابة القواعد العالمية وتشكيل النظام الدولي”.
– التصعيد الأميركي ضد الصين
تطبيقاً لاستراتيجية الاحتواء التي بدأها ترامب واستمر بها جو بايدن، ازداد التصعيد الأميركي ضد الصين تجارياً واقتصادياً وعسكرياً. استمرَّت إدارة بايدن في تطبيق التعريفات الجمركية على بعض البضائع الصينية التي بدأها دونالد ترامب، وفرض بايدن قيوداً على تصدير الرقائق الإلكترونية ومعدات تصنيعها والبرامج التي تحتوي على التكنولوجيا الأميركية إلى الصين.
وتبنّت إدارة بايدن قانون خفض التضخم الذي يقدم مساعدات للشركات التي تقوم بالاستثمار في الولايات المتحدة، ولكن استُثنيت منه الشركات الصينية، ومُنعت الشركات التي تحصل على تلك المساعدات من الاستثمار في الصين.
أما في الإطار العسكري، فقامت أميركا بتطويق الصين بالتحالفات والقواعد العسكرية، إذ قامت بتشكيل حلف أوكوس، وزودت أستراليا بالغواصات النووية، ونشرت جيشها في المحيط الهادئ، كما نشرت قواعد عسكرية في كل من اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وغيرها.
ثانيًا: هل تغيّرت استراتيجية بايدن تجاه الصين؟
المؤكد أن أهداف الاستراتيجية الأميركية باحتواء الصين ما زالت على حالها، لكن الوسائل التصعيدية التي مارسها الديمقراطيون في أميركا بدأت تتبدل، وحلّ الحوار مكان التصعيد الحربي والاقتصادي، فما السبب؟ قد تعود أسباب التبدل إلى ما يلي:
1. فشل نظرية الدومينو الحربي
ربما اعتقد الأميركيون أنهم يستطيعون تكرار سيناريو “روسيا – أوكرانيا” في المحيط الهادئ “الصين – تايوان”، فكما قاموا بتطويق روسيا واستفزازها عسكرياً لدفعها إلى مغامرة غزو أوكرانيا، يستطيعون -بالطريقة نفسها- تطويق الصين عسكرياً وحشرها لجرّها إلى غزو تايوان.
يدل على هذا التصور ما أعلنه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن خلال “منتدى ريغان للدفاع الوطني” الذي عقد في ديسمبر/كانون الأول عام 2022، إذ قال علناً إن “الولايات المتحدة تبني القوة الأكثر فتكاً في المحيطين الهندي والهادي، وإنها لن تسمح للصين بالهيمنة على تلك المنطقة”.
وبالفعل، قام الأميركيون بتطويق الصين بالقواعد العسكرية، كما فعل الناتو تماماً حول روسيا، إضافة إلى التصعيد الكلامي المستمر لجو بايدن وزيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان.
اعتقد الأوروبيون والأميركيون أنَّ روسيا سوف تنهار وتتفكك بفعل العقوبات الاقتصادية ورحيل الشركات الغربية، ومن جراء النقمة الداخلية على بوتين، وأن باستطاعة أوكرانيا بواسطة الدعم العسكري اللامحدود الذي يقدمه لها أعضاء حلف الناتو أن تستنزف الجيش الروسي، ما سيعيد تكرار تجربة انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن حسابات الحقل لم تطابق حساب البيدر، وفشل الهجوم المضاد الأوكراني، وتكبدت أوكرانيا خسائر هائلة، واستنزفت مخازن الأسلحة في دول الناتو، ولم تنهَر روسيا ولم تتفكك.
وبالتالي، إذا لم تنهَر روسيا (وهي أضعف من الصين) بفعل العقوبات وتأثر الاقتصاد العالمي سلباً بالحرب الأوكرانية، فيبدو من الأفضل للأميركيين التريّث في مسار استفزاز الصين إلى أن يحين الأوان لذلك لاحقاً.
2. اعتماد المقاربة العقلانية (ربح – تكلفة)
التصور الآخر لمسار اعتماد التهدئة الحربية ضد الصين التي بدأها جو بايدن هو أن من الصعب في الوقت الراهن على الاقتصاد الأميركي بشكل خاص، والاقتصاد العالمي بشكل عام، تحمّل كلفة حرب كبرى مع الصين، وخاصة في ظل الركود والتضخم الذي يعانيه العالم بسبب حرب أوكرانيا، إضافة إلى أن ترابط الاقتصادين الأميركي والصيني يجعل من الصعب فكّه من دون زعزعة الاقتصاد العالمي والتسبب بكوارث اقتصادية، ناهيك بأن فرض عقوبات على الصين قد يؤدي إلى انهيار الشركات الأميركية نفسها.
وبناءً عليه، تعمل هذه المقاربة على أنه من الأفضل الاستمرار في احتواء الصين بطريقة هادئة إلى أن يحين الأوان ويأتي الوقت المناسب في المستقبل للتصعيد، عندما يكون الاقتصاد الغربي استعد لكل الاحتمالات. عندها، يمكن الاندفاع إلى مغامرة حربية مع الصين.
*د. ليلى نقولا أستاذة العلاقات الدولية بالجامعة اللبنانية