عمر نجيب
تكثف الحكومة الأمريكية والبعض من حلفائها من جهودهم في محاولة تكييف الوضع والتوازنات والعلاقات الدولية مع مجموعة من دول العالم لتصبح أكثر قابلية على خدمة مصالحهم، ويدخل هذا الجهد المكثف في نطاق جهود التحالف الغربي لمواجهة التطورات السلبية المتسارعة التي يتعرض لها سواء على ساحة المواجهة العسكرية مع روسيا في وسط شرق أوروبا، أو التراجعات المتعاقبة والمتراكمة التي واجهها ويواجهها بدء من تعقيدات غزو واحتلال العراق سنة 2003 مرورا بفشل مشروع المحافظين الجدد للشرق الأوسط الكبير المبني على إستراتيجية الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وصولا إلى هزيمة أمريكا وحلف الناتو في أفغانستان في 30 أغسطس 2021، وصولا إلى عزلة الغرب المتصاعدة عالميا بسبب سياسة العقوبات والمصادرات التي يمارسها على كل من يختلف معه.
ترفض واشنطن تقبل بزوغ عهد جديد في العلاقات الدولية وتقلص قدرتها على فرض إرادتها بالقوة الاقتصادية والعسكرية أو التأقلم مع مقولة نهاية القرن الأمريكي والنظام العالمي الأحادي الذي يسود منذ العقد الأخير من القرن العشرين والذي عمر لأكثر من ثلاثة عقود. ويجادل عدد كبير من سياسيها أن نهاية الهيمنة الأمريكية ليست قريبة مشيرين إلى سوابق تاريخية منها أنه إذا كانت الإمبراطورية البريطانية قد استمرت قرنين، “فلماذا بدأنا بالانحدار بعد نحو خمسين سنة”.
مشكلة البيت الأبيض في الواقع كما يرى عدد من الساسة الأمريكيين وغيرهم في الغرب خاصة هي رفضه التعامل مع الدول الأخرى على أساس مبدأ المساواة.
في 8 مارس 2023 صدر تقرير “تقييم التهديد السنوي” لمجتمع الاستخبارات الأمريكي لعام 2023، وهو من أهم التقارير السنوية الإستشراقية التي تستعرض خلالها وكالات الاستخبارات الأمريكية أبرز التهديدات العالمية المباشرة والأكثر خطورة على الأمن القومي للولايات المتحدة خلال عام. والملاحَظ في هذا التقرير استمرار الإشارة إلى روسيا والصين باعتبارهما المنافسَين الاستراتيجيين للولايات المتحدة، وذلك اتساقاً مع ما ورد في وثائق وتقارير أمريكية سابقة. فضلا عن تأكيد احتدام التنافس بين القوى العظمى، والقوى الإقليمية الصاعدة، ومَن وصفهم التقرير بـ”مجموعة ناشئة من الجهات الفاعلة غير الحكومية”، من أجل تشكيل قواعد وملامح النظام الدولي في المستقبل، والهيمنة على هذا النظام. وبحسب التقرير، فإن هذا التنافس سيجعل السنوات القليلة القادمة مصيرية في حسم مستقبل النظام الدولي.
احتلت الصين موقع الصدارة في تقرير مجتمع الاستخبارات الأمريكي، إذ جاء التهديد الصيني على رأس قائمة التهديدات التي شملها التقرير. ولا شك أن هذا الأمر يعَد مؤشرا على المخاوف الأمريكية المتزايدة من القوة الصاعدة لبكين على المسرح الدولي.
أشار التقرير إلى أن الحزب الشيوعي الصيني (CCP) سيواصِل جهوده لتحقيق رؤية الرئيس “شي جين بينغ” لجعل الصين قوة بارزة في شرق آسيا، وقوة عظمى على الصعيد الدولي، موضحا أن بكين تعمل على دمج قوتها العسكرية المتنامية جنبا إلى جنب مع قوتها الاقتصادية والتكنولوجية، ودورها الاستراتيجي في سلاسل التوريد العالمية، ونفوذها الدبلوماسي المتزايد، في إطار نهج شامل لتحقيق تفوقها الإقليمي، وتعزيز نفوذها عالميا.
اعتبر التقرير أن روسيا وإيران وكوريا الشمالية، على التوالي، ستظل ضمن مصادر التهديد الرئيسية للولايات المتحدة وحلفائها، ولعل ذلك يتضح أيضا في ضوء الترتيب الذي احتلته عقب الصين مباشرة.
تطرق التقرير كذلك إلى مخاطر مرتبطة بعدد من التهديدات التقليدية اعتبر أنها قد تشكل تهديدا على الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بصورة أو بأخرى، بما في ذلك النزاعات حول العالم الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل، وتنامي مخاطر انتشار الأسلحة التقليدية والنووية إيران ومصر والسعودية وتركيا، وتزايد المخاطر المرتبطة بالصراعات المسلحة خاصة في أفريقيا، والتهديدات الإرهابية العابرة للحدود.
كسر التفوق
قبل سنتين تقريبا من صدور تقرير مجتمع الاستخبارات الأمريكي لعام 2023، قدمت وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، نهاية شهر ابريل 2021، تقييمها للبيئة الأمنية العالمية والتهديدات التي تواجه الولايات المتحدة حول العالم.
ولفتت الوكالة إلى تحديات من المنافسين “الذين يطورون قدرات تهدف إلى تحدي الأفضلية العسكرية الأمريكية أو الحد منها أو تجاوزها”، بما يشمل الصواريخ البالستية والعابرة، وتزايد المخزونات النووية، و”تدابير المنطقة الرمادية كالقوات غير التقليدية الغامضة، والوكلاء الأجانب، والتلاعب بالمعلومات، والهجمات الإلكترونية، والإكراه الاقتصادي”.
وحذر تقييم وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، على وجه الخصوص، من تطوير الصين وروسيا قدرات فضائية، واستخدامهما الفضاء الإلكتروني لزيادة وصولهما إلى البنية التحتية للولايات المتحدة.
نهاية شهر مارس 2023 صرح مستشار الأمن القومي السابق في البيت الأبيض جون بولتون إن تشكيل تحالف روسي صيني يخلق مشكلة حقيقية للدول الغربية أكثر خطورة من الصراع في أوكرانيا.
وذكر في مقابلة مع صحيفة “التليغراف” البريطانية، نشرت مساء الثلاثاء 21 مارس “تقول كل من الصين وروسيا إنه تحالف بلا حدود، وأعتقد أنهما يقولان ذلك بجدية.. هذه هي المشكلة الحقيقية للغرب بغض النظر عما يحدث في أوكرانيا”.
وتابع “أعتقد أن المحور الروسي الصيني قد تم تشكيله، والذي تجاوره إيران وكوريا الشمالية.. نحن بحاجة إلى أخذ هذا على محمل الجد”. وأضاف بولتون أن الغرب يحتاج إلى البدء في مراجعة المفهوم الحالي للردع بسبب حقيقة أن “الصين أصبحت تهديدا في كل من المجال النووي والمجال التقليدي”.
وقال “الصين ككل تشكل تهديدا وجوديا” للغرب وهذا يتطلب مقاربة جادة للقضايا الأمنية. وأضاف بولتون أيضا أن الناتو يجب أن يبذل المزيد من الجهود لمواجهة الاتحاد الروسي.
كما اكد بولتون أن الصين دعمت روسيا منذ بداية العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، ولم تحاول البقاء على الحياد.
بعد اندلاع الجولة الثانية من الحرب في وسط شرق أوروبا في 24 فبراير 2022 جربت واشنطن كل الأساليب لمنع استمرار التحالف الروسي الصيني الذي اعتبره محللون غربيون أخطر تحدي للغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكنها فشلت خاصة بعد استمرت في إتباع أسلوب الإملاء والتلويح بالعقوبات.
سلسلة اتصالات
عقد الرئيسان الأمريكي جو بايدن، والصيني شي جين بينغ، قمة في 14 نوفمبر 2022 في بالي في إندونيسيا، على هامش قمة مجموعة العشرين. وكانت الأولى التي يعقدها الرئيسان وجها لوجه منذ تولّى بايدن الرئاسة مطلع عام 2021. بعد ذلك توالت اللقاءات التي كان هدف واشنطن الأساسي منها شق التحالف بين بكين موسكو، وفي 18 يونيو 2023 حل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ببكين في زيارة هدفها حسب واشنطن محاولة تخفيف التوترات الثنائية وإذابة الجليد الدبلوماسي بين البلدين.
بعد انتهاء الزيارة بفترة قليلة وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره الصيني “شي جين بينغ” بالدكتاتور، فيما أكد أن الأمريكيين لا ينبغي أن يقلقوا بشأن الصين لأنها تواجه مشاكل اقتصادية حقيقية. وأضاف بايدن في حملة لجمع التبرعات في كاليفورنيا “السبب الذي جعل شي جين بينغ مستاء للغاية عندما أسقطت هذا البالون المليء بمعدات التجسس هو أنه لم يكن يعلم بمكانه”. وتابع “هذا إحراج كبير للديكتاتوريين. عندما لا يعرفون ما الذي يحدث، لم يكن من المفترض أن يذهب إلى حيث ذهب، لقد انحرف عن مساره”.
بداية يونيو 2023 رفض وزير الدفاع الصيني لقاء نظيره الأمريكي في سنغافورة بعد أن فرضت واشنطن عقوبات على الجيش الصيني، وتعليقا على رفض الصين الاقتراح الأمريكي بعقد اجتماع بين وزيري دفاع البلدين في سنغافورة على هامش منتدى “شانغريلا” للأمن الإقليمي، الذي عقد في سنغافورة في الفترة من 2 إلى 4 يونيو، قال المتحدث باسم الوزارة الصينية تان كه في، إن الحوار لا بد أن تكون له مبادئ، وإن الصعوبات الحالية التي تواجه التبادلات بين جيشي البلدين مصدرها الجانب الأمريكي، الذي يتجاهل مخاوف بكين ويخلق العقبات، مما يقوض بشكل خطير الثقة المتبادلة.
لم تحل تلك اللقاءات من استمرار التوتر بين الطرفين خاصة نتيجة إصرار واشنطن على دعم تايوان ماديا وعسكريا رغم أنها تعترف بوجود دولة صينية واحدة.
الصراع الاقتصادي
أقوال الطمأنة للرئيس بايدن لمواطنيه بشأن عدم تفوق الصين عسكريا واقتصاديا على الغرب في المستقبل القريب كذبتها الكثير من التقارير حتى الأمريكية ولهذا جاءت زيارة جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية لبكين بين السادس والتاسع من يوليو 2023 لتبحث عن حلول وسط حسب بعض المصادر بعد أن كانت واشنطن ترفض ذلك تماما في السابق. حيث أعلنت يلين أنها ستبحث مع أعضاء في الحكومة الصينية أهمية “أن يدير البلدان علاقتهما بطريقة مسؤولة، بوصفهما الاقتصادين الرائدين في العالم”، وأضافت كذلك، أنها تعتزم التشديد على ضرورة “التواصل مباشرة بشأن مجالات الاهتمام والعمل على مواجهة التحديات العالمية”.
ورأى إدوارد آلدن الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، أن واشنطن “تحاول بوضوح إرساء أرضية” لضبط “تدهور” العلاقة الاقتصادية مع بكين.
واعتبر أن زيارة يلين قد “تعيد إطلاق نمط ثابت من التفاعل على مستويات (مسؤولية) أدنى”، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة تمضي نحو إستراتيجية “خفض المخاطر” مع بكين.
وأوضح أن ذلك “يعني التركيز على مدى أضيق من الأمور ذات الأهمية الإستراتيجية، محاولة تسييج هذه الأمور لحمايتها، لكن مع ذلك محاولة الاستمرار في تغذية علاقة اقتصادية أمريكية-صينية قوية بشكل معقول”.
إلا أن المراقبين لا يتوقعون خفضا سريعا للتوترات خصوصا وأن البلدين يتنافسان في مجال التقنيات الدقيقة.
وفرضت إدارة بايدن عام 2022 قيودا على تصدير بعض أشباه الموصلات ومكونات التكنولوجيا الأمريكية إلى الصين. وقبل ذلك، كانت قد أبقت على رسوم جمركية فرضها ترمب على منتجات تصدّرها الصين إلى الولايات المتحدة.
وردت الصين بفرض قيود على تصدير معادن إستراتيجية أساسية إلى أمريكا كما منعت التعامل مع شركات أمريكية.
وكانت الصين قد أعلنت، فرض قيود على صادرات على اثنين من المعادن التي تقول الولايات المتحدة إنها ضرورية لإنتاج أشباه الموصلات وغيرها من التقنيات المتقدمة.
وصرح وي جيانغو، نائب وزير التجارة الصيني السابق، لصحيفة “تشاينا ديلي” الرسمية: “هذه مجرد البداية.. ففي جعبة الصين المزيد من الأدوات”.
كذلك، تناولت يلين مع السلطات الصينية “المخاوف” التي يثيرها قانون مكافحة التجسس الجديد الذي دخل حيز التنفيذ السبت في الصين. ويمنح هذا النص الحكومة الصينية مزيدا من الحرية لمحاربة أي تهديدات للأمن القومي، ما يثير مخاوف لدى الشركات الأجنبية العاملة في الصين.
يوم الجمعة 7 يوليو 2023 دعت جانيت يلين إلى عدم ترك “الخلافات” تتسبب “بتدهور غير مجد” للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، مشددة، خلال لقاء مع رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ، على أن فك الارتباط بين الاقتصادين “مستحيل عمليا”.
وخلال أول زيارة لها إلى الصين منذ تولي مهامها عام 2021، قالت وزيرة الخزانة الأمريكية: “نسعى إلى منافسة اقتصادية سليمة، لا يحصد الأقوى فيها كل الغنائم، مع مجموعة من القواعد المنصفة يمكن أن يستفيد منها البلدان مع الوقت”.
كذلك، دعت إلى عدم ترك “الخلافات” تتسبب “بتدهور غير مجد” للعلاقات بين البلدين. وتأتي تصريحات يلين بينما يدعو سياسيون أمريكيون منذ أشهر إلى “فك الارتباط” بين الاقتصادين لخفض اعتماد واشنطن على الدولة الآسيوية العملاقة، وسط تصاعد الخلافات الجيوسياسية.
وشددت يلين بهذا الصدد على وجوب توخي الحذر، مؤكدة، أمام عدد من مسؤولي شركات أمريكية، أن “فك الارتباط بين أكبر اقتصادين في العالم سيؤدي إلى زعزعة الاقتصاد العالمي”، مضيفة أن ذلك “سيكون من المستحيل عمليا”. الباحثة في معهد “آسيا سوسايتي بوليسي” وندي كاتلر قدرت أن النقاشات مع الصين تهم الولايات المتحدة “لمحاولة تحفيز نمو اقتصادي عالمي أكبر”. وفي الصين، يسعى المسؤولون الصينيون إلى العثور على “خطوات ملموسة تتخذها الولايات المتحدة” تظهر أن احتواء بكين “ليس الهدف النهائي” لواشنطن.
تخفيف المخاطر
جاء في تقرير نشر في العاصمة الأمريكية واشنطن يوم الاثنين 10 يوليو 2023:
بعد 10 ساعات من الاجتماعات مع المسؤولين الصينيين في بكين، أعلنت وزيرة الخزانة الأمريكية، في مؤتمر صحفي أن البلدين سيعملان على تحسين الحوار على الرغم من “الخلافات الكبيرة”.
ولم يحدث اختراق كبير لتخفيف التوتر بين البلدين، لكن مجرد الحوار رفع الآمال بالتوصل إلى صيغة توافق لدرء خطر المواجهة، كما تقول صحيفة نيويورك تايمز.
وجاءت زيارة يلين إلى الصين وسط آمال بأن تتمكن الولايات المتحدة من استئناف العلاقة التي تدهورت لسنوات بسبب نقاط توتر مهمة – بما في ذلك الحرب في أوكرانيا، وبالون صيني حلق فوق الأراضي الأمريكية وأسقطه الجيش الأمريكي، وتصاعد تبادل القيود على التجارة بين البلدين.
وبعد 10 ساعات من الاجتماعات على مدى يومين في بكين، قالت يلين في مؤتمر صحفي، الأحد، إنها تعتقد أن الولايات المتحدة والصين يقفان على أساس أكثر ثباتا على الرغم من “خلافاتهما الكبيرة”. وأضافت “نعتقد أن العالم كبير بما يكفي لكلا بلدينا لتزدهر”.
وأعلنت الوزيرة أن الجانبين سيواصلان مزيدا من الاتصالات المتكررة على أعلى المستويات، واصفة الحوار بأنه وسيلة لمنع انعدام الثقة من تدمير العلاقة التي وصفتها بأنها “واحدة من أكثر العلاقات أهمية في عصرنا”.
ووفقا لنيويورك تايمز، سيزور المبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص لتغير المناخ، جون كيري، الصين قريبا لاستئناف مفاوضات الانحباس الحراري العالمي.
واعتبر محللون أن الرغبة في مزيد من الحوار تطور مهم، حيث “بدأ البلدان بالتحدث عن خلافاتهما بعد أشهر من الصمت”، كما تقول نيويورك تايمز.
وقدمت الحكومتان تقييمات إيجابية للاجتماعات التي استمرت يومين، واتفقتا على إجراء مزيد من المحادثات، وفقا لوول ستريت جورنال.
وقالت يلين الأحد، على شبكة “سي بي أس نيوز الأمريكية”: “هدفي هو التأكد من أننا لا ننخرط في سلسلة من الإجراءات التصعيدية غير المقصودة التي ستكون ضارة بعلاقتنا الاقتصادية الشاملة مع بعضنا البعض”.
وأعرب كبير محاوري يلين الصينيين، نائب رئيس الوزراء هي ليفينغ، عن قلقه بشأن العقوبات الأمريكية، لكنه قال إن الجانبين “اتفقا على الحفاظ على التبادلات والتفاعلات”، وفقا لبيان رسمي.
ورحب هي ويوين، وهو مسؤول سابق في وزارة التجارة الصينية وهو الآن زميل بارز في مركز الصين والعولمة في بكين، بتعليق يلين بأن كلا من الصين والولايات المتحدة يمكن أن تزدهر.
وصرح لنيويورك تايمز “الصين والولايات المتحدة لديهما خلافات عميقة، لذا فإن التبادلات المستمرة والمباشرة ليست بناءة فحسب، بل ذات أهمية حاسمة”.
انفراج غير محسوس
ومع ذلك، قد لا يكون من المرجح حدوث تخفيف ملموس للتوتر الاقتصادي، وفقا لنيويورك تايمز.
وعادت يلين إلى واشنطن، الأحد، دون أي إعلانات عن انفراجات أو اتفاقات لإصلاح الانقسامات المستمرة بين البلدين.
وأوضحت الوزيرة أن إدارة بايدن لديها مخاوف جدية بشأن العديد من الممارسات التجارية للصين، بما في ذلك معاملتها للشركات الأجنبية، والسياسات التي تعتبرها الولايات المتحدة جهودا للإكراه الاقتصادي.
وذكرت وزيرة الخزانة إنها ناقشت التعريفات الجمركية التي فرضتها إدارة ترمب على الواردات الصينية، والتي لا تزال مفروضة، وفي حين انتقدت يلين التعريفات باعتبارها غير فعالة، فقد أشارت إلى أن الإدارة لن تتخذ أي قرار بشأن الرسوم حتى يتم الانتهاء من مراجعة داخلية لها.
كما قالت، خلال لقاء مع رئيس الوزراء، لي تشيانغ، في قصر الشعب في بكين: “نسعى إلى منافسة اقتصادية سليمة، لا يحصد الأقوى فيها كل الغنائم، مع مجموعة من القواعد المنصفة يمكن أن يستفيد منها البلدان مع الوقت”.
وأكدت يلين على أن “الخلافات” يجب ألا تؤدي إلى “تدهور غير مجد” للعلاقات الصينية الأمريكية، فيما قال رئيس الوزراء الصيني، لي تشيانغ، إنه يرى تحسنا في العلاقات مع واشنطن.
وفي رحلتها، وهي الأولى التي يقوم بها وزير خزانة أمريكي منذ أربع سنوات، التقت يلين بأربعة من أقوى القادة الصينيين المشاركين في صنع السياسات الاقتصادية في عهد الرئيس شي جين بينغ، وهم، رئيس الوزراء لي تشيانغ، ونائب رئيس الوزراء هي ليفينغ، ووزير المالية ليو كون، ورئيس بنك الشعب الصيني، بان غونغ شنغ.
وقبل ساعات من المؤتمر الصحفي الذي عقدته يلين في الصين، أصدرت وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا) تقريرا عن زيارتها وصف المحادثات بأنها بناءة، لكنه أكد أيضا على ما تعتبره الصين مجالات رئيسية للخلاف.
وأعرب التقرير عن اعتراضات الصين المستمرة على تأكيد إدارة بايدن على الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي من خلال القيود التجارية.
وقالت شينخوا “تعتقد الصين أن تعميم مفاهيم الأمن القومي لا يفضي إلى تبادلات اقتصادية وتجارية طبيعية”. وأضافت: “أعرب الجانب الصيني عن قلقه بشأن العقوبات الأمريكية والإجراءات التقييدية ضد الصين”.
ويمثل الاقتصادان الصيني والأمريكي 40 بالمئة من مجموع الناتج الاقتصادي العالمي، وهما شريكان في في نواح كثيرة، ويتبادلان المتاجرة في عدد كبير جدا من السلع الهامة.
واعترفت يلين، وفقا للصحيفة، بالمخاوف الصينية بشأن القيود الأمريكية التي تلوح في الأفق على الاستثمار في الصين، وقالت إنها حاولت أن توضح أن مثل هذه الإجراءات ستستهدف قطاعات معينة بشكل ضيق ولن يكون لها تأثير واسع على الاقتصاد الصيني.
كما يشعر المسؤولون والخبراء الصينيون بالقلق من أن جهود الإدارة للحد من وصول الصين إلى تكنولوجيا معينة يمكن أن تضعف تطويرها للصناعات ذات الإمكانات العالية مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية.
تسليح الدولار
يقدر مراقبون أن مباحثات يلين في بكين لم تعالج ولو بنسبة بسيطة مخاوف واشنطن من تقلص مكانة عملتها على الصعيد الدولي حيث يتزايد الاعتماد على عملات بديلة في المعاملات الدولية.
جاء في تقرير نشرته صحيفة الاقتصاد يوم 10 يونيو 2023:
عند تقييم أداء الاقتصاد الصيني فإن أغلب المؤشرات لا تقودنا إلا لتعبير واحد “تجربة اقتصادية مذهلة”. ففي الأعوام الـ26 الماضية ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للصين بما يزيد على 700 في المائة، واليوم ها هي الصين تحتل المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي بناء على سعر الصرف في السوق، والأولى عالميا على أساس القوة الشرائية.
هذا الحجم الاقتصادي الهائل والنمو الضخم والسريع، والحفاظ على واحد من أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالمي لما يزيد على ربع قرن، والنجاح في انتشال 800 مليون شخص من براثن الفقر، والتحول إلى أكبر مصدر في العالم وأهم شريك تجاري لعديد من الاقتصادات الدولية يجعلنا نقف مشدوهين أمام هذا النجاح الاقتصادي الذي قل نظيره.
لكن إذا بعدنا قليلا عن تلك المؤشرات الاقتصادية وبدأنا الحديث عن العملة الصينية “اليوان”، فإن الإعجاب قد يتلاشى أو لا يحظى بالتقييم المدهش ذاته الذي يحظى به الاقتصاد الصيني.
بالطبع اليوان قطع شوطا لا بأس به في طريقه إلى العالمية، فقد قفز من المرتبة الـ35 لأكثر العملات تداولا عام 2011 إلى المرتبة الخامسة اليوم، وهو أيضا خامس أكثر العملات استخداما للمدفوعات الدولية منذ أبريل 2023 بعد أن كان في المركز الـ30 عام 2022.
مع هذا لا يتمتع اليوان بالبريق ذاته الذي يحيط بالأداء الاقتصادي للصين، بل إن بعض تلك التقديرات تعد مضللة من وجهة نظر بعض الخبراء، فحجم تداول اليوان أقل من عشر تداول الدولار الأمريكي، وجميع عمليات تداول اليوان تتم مقابل الدولار.
والحصة الفعلية لليوان في المدفوعات الدولية 2.3 في المائة فقط مقابل 42.7 في المائة للدولار الأمريكي ونحو 32 في المائة لليورو، كما أن اليوان شكل أقل من 3 في المائة من الاحتياطي النقدي العالمي في نهاية عام 2022 مقابل 58 في المائة للدولار و20 في المائة لليورو.
ويدفعنا هذا إلى التساؤل هل يمكن للحرب الروسية – الأوكرانية أن تغير هذا الوضع وتمنح العملة الصينية قوة دفع تغير من وضعها الدولي وتجعلها تحظى بالتقدير ذاته الذي يحظى به الاقتصاد الصيني، أو أن تمهد الحرب الطريق لتغير وضعية اليوان ليكون أكثر قدرة على منافسة العملات الدولية الأخرى، أم أن الحرب ستفتح الأبواب أمام اليوان لينتقل إلى المرحلة الثانية في طريقه ليصبح عملة دولية.
“الاقتصادية”، استطلعت آراء مجموعة من الخبراء في مجال الاقتصاد الدولي والتمويل العالمي لمعرفة تأثير الحرب الروسية – الأوكرانية في وضعية اليوان الدولية مستقبلا؟
الدكتور جاسبر ليما أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة لندن يعتقد أنه أيا كانت نتائج تلك الحرب فإن مكانة اليوان كعملة دولية ستتحسن بشكل كبير، مع هذا لا يزال هناك – من وجهة نظره – طريق طويل يجب أن تقطعه العملة الصينية لتحقيق مرادها.
ويقول، إن “العامل الأساسي في تأثير الحرب في مكانة اليوان الدولية ينبع من الطريقة التي تعاملت بها إدارة الرئيس بايدن مع الصراع، إذ قامت بتسليح الدولار وعدته جزءا من منظومة الأسلحة التي يمكن استخدامها لعزل روسيا دوليا، هذا أدى إلى قلق عالمي خاصة في الاقتصادات الناشئة تجاه المستقبل وإمكانية تكرار ذلك معها، هذا القلق أوجد رغبة دولية لإيجاد بدائل لتفادي التأثير الضار لتسليح الولايات المتحدة للدولار”.
ويضيف “التغير الذي يمكن أن نشهده نتيجة الحرب أن اليوان سيخرج من نطاق التعامل التجاري بين دولة ما والصين، ليصبح وسيلة للدفع بين دولتين يقيمان علاقة تجارية أو صفقة ما لا تشارك فيها الصين، وهذا تطور مهم للغاية ويمثل قفزة عملاقة إلى الأمام بالنسبة إلى اليوان ويضفي عليه صبغة دولية حقيقية، فعلى سبيل المثال بنغلادش تدفع لروسيا باليوان لبناء محطة للطاقة النووية، لا شك أن هذا النوع من الصفقات أو المعاملات محدود في الوقت الراهن لكن مع مرور الوقت سيتزايد هذا الاتجاه عالميا، ليفتح الطريق أمام اليوان لتعزيز مكانته الدولية”.
الدكتورة ففيان كيرسون أستاذة التجارة الدولية في جامعة غلاسكو ترى أن الحرب الروسية الأوكرانية لها تأثير إيجابي في اليوان الصيني، متوقعة أن يبرز باعتباره ثاني أهم عملة دولية بعد الدولار خلال الأعوام الثلاثة التالية للحرب بعد توقفها، وكلما طال أمد الحرب تم تعزيز قوة اليوان الدولية بين العملات المنافسة، وزاد الاعتماد عليه كاحتياطي نقدي دولي.
وتؤكد أن المدخل الصيني لتعزيز واقع اليوان دوليا يعتمد على مزيد من العلاقات التجارية مع روسيا، ويلاحظ ارتفاع حصة اليوان في تسويات الواردات الروسية من 4 في المائة إلى 23 في المائة عام 2022.
وتقول “زادت الصين بشكل كبير من استخدام اليوان لشراء السلع الروسية، وفي الوقت الراهن مجموعة رئيسة من الصادرات الاستراتيجية الروسية للصين مثل النفط والفحم وبعض المعادن تتم تسوية مدفوعاتها باليوان بدلا من الدولار، وإجمالي تجارة السلع الأساسية بين روسيا والصين 88 مليار دولار وتم التحول إلى اليوان لدفع جزء كبير منها في أعقاب الحرب الأوكرانية، التي ساعدت الصين على تدويل عملتها على حساب الدولار”.
على الرغم من أن تلك النسبة من التبادل التجاري باليوان بين الصين وروسيا تمثل جزءا ضئيلا من إجمالي التجارة الدولية، إلا أنها توجد ما يطلق عليه “تأثير كرة الثلج”، إذ يشجع ذلك مزيدا من الدول إلى الانضمام إلى ما يعرف الآن بـ”كتلة اليوان” لتقليل مخاطر التعرض للدولار.
الديمومة
مع هذا يرى أستون باركر الخبير الاقتصادي والاستشاري السابق في البنك الدولي أنه يصعب في الوقت الراهن الحديث عن “ديمومة” في الطريق الذي فتحته الحرب الروسية – الأوكرانية لصعود نجم اليوان الصيني بين العملات الدولية.
ويشير، إلى أنه “في الوقت الراهن نحن أمام مشهد استثنائي، فالحرب ستتوقف يوما ما وستجلس الأطراف المتصارعة على المائدة للتفاوض، وبعد أن تصمت المدافع سيعاد ترتيب أوراق الاقتصاد الدولي المبعثرة حاليا. بالطبع الحرب الروسية – الأوكرانية عبدت الطريق لليوان لنيل مزيد من الحظوة الدولية، لكن في الأغلب ستتقلص تلك الحظوة بعد الحرب وستنحصر في تجارة السلع والطاقة، فالصين تسعى منذ عقد إلى تدويل اليوان، وفي عام 2015 أطلقت بكين نظام المدفوعات عبر الحدود بين البنوك لتسهيل المدفوعات الدولية باليوان، وفي عام 2018 أطلقت أول عقود آجلة للنفط الخام مقومة باليوان للسماح للمصدرين ببيع النفط باليوان، وفي الأغلب ما تستخدم العملة الصينية بشكل متقطع في مشتريات السلع الصينية الكبيرة لأن معظم التجارة العالمية في النفط والغاز والمعادن الأساسية يتم تسعيرها بالدولار”.
الخبير المصرفي أستون كولي يرى أن الحرب الروسية – الأوكرانية أسهمت في نمو اتجاه تعمل عليه الصين منذ أعوام لتعزيز وضع عملتها الدولية في سوق التجارة الدولية، مع تقليل الاعتماد على الدولار مدفوعة في ذلك بالمخاطر الناشئة من الاقتصاد الأمريكي مثل الانهيار المالي عام 2008، وبالطبع الرغبة في تعزيز نطاق نفوذها الدولي.
ويقول، إن “الصين تسرع حاليا من تحويل تجارتها الخارجية إلى اليوان، فهناك حملة أمريكية لعزل الاقتصاد الصيني، كما تخشى بكين تعرضها لعقوبات مماثلة لروسيا إذا ما نشبت حرب في تايوان، واليوم ولأول مرة في التاريخ يتجاوز اليوان الدولار الأمريكي ليصبح العملة الأكثر تداولا في بورصة موسكو”.
ويضيف “دفع الصين إلى تعزيز تداول عملتها يسبق الحرب في أوكرانيا، وعلى الرغم من أن اليوان لا يزال بعيدا عن الدولار من حيث النشاط العالمي، لكنه بين مارس 2021 ومارس 2023 بلغت حصته في سوق تمويل التجارة وهو النظام البيئي الذي تبلغ تكلفته عدة تريليونات من الدولارات ويدعم 80 في المائة من التجارة العالمية، أكثر من الضعف”.
مع هذا ترى الدكتورة هازل ميتشيل أستاذة التمويل الدولي في جامعة لندن أن كل تلك الجهود لن تحقق الأهداف الصينية طالما ظلت تعمل ضمن أطر المؤسسات الغربية التي تنظم عملية التبادل التجاري الدولي، وأن الحرب الروسية – الأوكرانية مثلت خطوة مهمة في مسيرة اليوان، لكن تلك المسيرة يمكن أن تصطدم بمعوقات تحد من إكمال عملية التحول، وأبرز تلك المعوقات الهياكل التنظيمية الغربية المرتبطة بأنظمة الدفع والسداد العالمية.
وتؤكد أن القيادة الصينية تدرك تماما أهمية الإسراع بتوسيع نطاق تدويل اليوان لحماية إمداداتها من الطاقة في أعقاب العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، لكن الأهم بالنسبة إليها إيجاد أنظمة بديلة ومؤسسات فاعلة لتعزيز عملية تداول العملة الصينية، فلا ينسجم المضي قدما في ترسيخ اليوان في المعاملات الدولية، والاستمرار في الاعتماد على أنظمة مالية مثل نظام سوفت”.
وتضيف “لهذا سعت بكين إلى السير في مسارين أحدهما تعزيز اليوان مستفيدة من انعكاسات الحرب الروسية – الأوكرانية على الاقتصاد الدولي، والمسار الآخر إيجاد بدائل ومؤسسات وابتكارات تكنولوجية يمكن الارتكاز عليها وقت الحاجة إذا ما حدث صدام مع الغرب وتحديدا الولايات المتحدة”.
عمر نجيب
Omar_najib2003@yahoo.fr