الرئيسية / الرأي / أراء / العراق وسيطاً إقليمياً

العراق وسيطاً إقليمياً

وسط مخاضاته المتعدّدة، ومع سيل النواقص التي رافقت أعمال الحكومات المتعاقبة وسنواتها، بما أفضى إلى شعور شعبي متنام بعدم الرضا عن أدائها، برز العراق وبشكل فعّال وصامت وسيطا مهمّا وناجحا في وأد المشكلات الثنائية بين دول إقليمية أو جماعية بالمشاركة مع جهود دول أخرى، كما حصل مع مساعي عودة سورية إلى جامعة الدول العربية ومشاركتها بأعلى المستويات السياسية في قمّة جدّة.

قناعات حكومتي مصطفى الكاظمي ومحمد شياع السوداني في العراق بأن إصلاح العلاقات البينية مع المحيطيْن، العربي والإقليمي، وإبعاد العراق عن جعله ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية وتنفيذ عمليات حشد وتعبئة داخله نتاجها المزيد من فقدان الأمن وهروب الاستثمار وارتفاع نسب الشحن الأمني والتعبوي في المنطقة التي يمثّل العراق قلبها المؤثّر والمتأثّر بها أو أن يكون ممرّاً أو مقرّاً للاعتداء على الدول الأخرى.

من أهم الأدوار العراقية في مجال السعي وسيطا إقليميا وساطته بين السعودية وإيران التي نجمت عنها ست جولات من الحوار التمهيدي بين الجانبين، أولها نهايات عام 2020، والتي توّجت بتدخّل الصين ضامنا دوليا للاتفاق بين الطرفين الإيراني والسعودية على تطبيع العلاقات الدبلوماسية والأمنية، وحتى الإستراتيجية بينهما، من أبرز ثمارها المقطوفة سريعاً الإعلان والالتزام بهدنة في الحرب الدائرة بين السعودية وجماعة الحوثي منذ 2015، وبذلك تحقّق أول دوافع التوافق السعودي مع المبادرة العراقية للوساطة مع إعلان الرئيس الأميركي جوزيف بايدن مطلع فبراير/ شباط 2021 قراره “إنهاء كل أشكال الدعم الأميركي للعمليات الهجومية للحرب في اليمن، بما في ذلك مبيعات الأسلحة ذات الصلة” لكل من السعودية والإمارات.

الهدف المقبل للوساطة العراقية القاهرة، فطهران تعتبر عودة العلاقات مع مصر أحد أكبر أهدافها الإقليمية

عزّزت مكاسب الجهود الدبلوماسية للعراق من ثقة المحيطين، الدولي والإقليمي، به، وهناك ربما سبب جوهري لذلك، علاقات بغداد (الحميمة) مع طهران، وهو بذلك يعمل كقبّان يجمع كفّتي كل من إيران وأي طرفٍ لديها مشكلة معه، والعكس صحيح، لكن ما يجب معرفته حتى لا يرتفع منسوب الثقة بقدرات العراق الدبلوماسية الذاتية أن العراق عمل ويعمل وفق رغبة أحد طرفي النزاع أو التوتر بتهدئة هذا الأمر، ويطلب من العراق بجسّ نبض الطرف الآخر، وهذا الطرف دائماً هو إيران ؛ فتحرّك بغداد، سواء في وزارة الكاظمي أو وزارة السوداني، نحو السعودية جاء بناءً على ذلك، وقد شعرت الرياض به، بداية الأمر، بكثير من الريبة، بسبب علمها بماهية العملية السياسية في العراق برمّتها وتمسّك هذه العملية بالإرادات الإيرانية. لذلك كانت لقاءات الجانب السعودي مع نظيره الإيراني للتحدّث عن الملفّات الأمنية فقط، حتى ساءت الأمور في حربها في اليمن، وتغير الموقف الأميركي سلباً؛ ما دفع الرياض إلى التمسّك أكثر بالدور العراقي لإنهاء هذا الملف عِبر بوابة تطبيع العلاقات مع طهران.

الهدف المقبل للوساطة العراقية هو القاهرة، فطهران تعتبر عودة العلاقات مع مصر أحد أكبر أهدافها الإقليمية، ورغم حجم المشكلات بين البلدين التي توجزها القاهرة بإطلاق الحكومة الإيرانية اسم خالد الإسلامبولي، قاتل الرئيس المصري الراحل أنور السادات، على أحد شوارع طهران، کما اتهمت القاهرة طهران برعاية الإرهاب في الشرق الأوسط ودعم الجماعات الإسلامية المسلحة في مصر في فترة التسعينيات، إضافة إلى أنشطة ذات طابع طائفي، فيما تبنّت طهران مواقف متشدّدة من حكومة القاهرة، بسبب اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، وكذلك قبول مصر منح شاه إيران المخلوع حقّ اللجوء السياسي. ورغم أن العلاقات بين البلدين على مستوى مكاتب حماية المصالح ورئيسي المكتبين الموجودين في إيران ومصر، إلا أن توجّسات القاهرة على وجه الخصوص لم تنخفض تجاه مشروع إيران للتدخل في شؤون دول المنطقة، إن لم تكن قد زادت.

ليست جهود بغداد الآن هي الوحيدة لرأب الصدع بين البلدين، ففي عام 2004، عُقد في القاهرة اجتماع سرّي بين رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الأمن القومي الإيراني وأسامة الباز، المستشار السياسي في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك. وجرى التوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بين مصر وإيران. لكنّ الاتفاق سقط أمام رفض صانعي القرار في كل من القاهرة وطهران. وبعد سقوط نظام مبارك في بدايات عام 2011، انطلقت العلاقة بين إيران ومصر، ولكن من دون أن تصل إلى مستوى العلاقة الطبيعية، وإن تناولت جوانب أمنية وأممية ومسألة ضمان أمن الشركات المصرية في العراق والملاحة في البحر الأحمر وسواها.

العراق توسّط وما زال بين طهران وعمّان لإعادة العلاقات بينهما إلى وضعها الطبيعي

الحراك الدبلوماسي، وكما هو الحال في موضوع السعودية، بدأ منذ 2021، وكان قطبا هذا الحراك العراق وعُمان التي طرحت الموضوع جدّياً خلال زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مسقط منتصف عام 2022، حيث عُقد إضافة إلى حديث سلطان عُمان بهذا الشأن مع السيسي اجتماع مسؤولين مصريين كانوا مرافقين للرئيس المصري مع مسؤولين إيرانيين.

وأعلن وزير الخارجية العراقية، فؤاد حسين، في 30 يوليو/ تموز 2022، أن بلاده ترعى حواراتٍ بين إيران ومصر منذ عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، وأن هناك تقدّماً في هذا المجال. وفي دراسة أكاديمية بعنوان “الوساطة العراقية ومستقبل العلاقات المصرية – الإيرانية” أعدّها مركز البيان للدراسات والتخطيط في بغداد، خلُصت إلى أنه “إذا أرادت إيران إقامة علاقات مستقرّة مع مصر، فعليها أن تدرك حساسيات مصر في المجالات المذهبية، والأمن القومي العربي والأمن الإقليمي، واستمرار العلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة والدول العربية”.

لن نفاجأ إذا ما علمنا أن العراق توسّط وما زال بين طهران وعمّان لإعادة العلاقات بينهما إلى وضعها الطبيعي، والأهم دور العراق الكبير في إيجاد حالة من التفاهمات بين طهران وواشنطن، وقد أتت أُكُلها بشكل واضح في الفترة القريبة الماضية.

قد يلقي اعتماد العراق وسيطا إقليميا بظلاله على المشهد العراقي الداخلي الذي لم يصبه أي نصيب من أجواء التفاهمات المتحققة على المستوى الإقليمي، لكن إذا ما استمرّ الدور العراقي بهذا الاتجاه فهذا يعني، بالنتيجة، سعي الجميع إلى الحفاظ على عراق مقبول من كل الأطراف للحفاظ على توازن مطلوب جداً بين المحيطيْن، العربي وغير العربي، لتغيير معادلة العلاقات الدولية فيه نحو تنمية بشرية واقتصادية تدفع بدوله نحو الرخاء والتطوّر.