شغل اللاجئون الذين هاجروا إلى تركيا من مختلف الدول العربية، وفي مقدمتها سوريا، الأجندة الرئيسية لدى الأحزاب السياسية المتنافسة في الانتخابات الرئاسية التركية. فقد أصبحت تركيا الدولة التي تستضيف أكبر عدد من اللاجئين في العالم، على خلفية موجات الهجرة التي شهدتها دول المنطقة بعد «الربيع العربي»، وخاصة سوريا ومصر وليبيا واليمن، والعراق، ولبنان، وتونس.
وباتت قضية المهاجرين إحدى القضايا الرئيسية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية. وفي أكثر من مناسبة، يقول مرشح «تحالف الشعب»، الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان: «لن نعيد الأشخاص الذين لجأوا إلى بلدي ما لم تتحسن الظروف في بلدانهم». وفي الطرف المقابل، يحرص مرشح «تحالف الأمة» المعارض، زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو، على انتقاد إجراءات الحكومة ويقول عن اللاجئين: «سوف يرحلون».
كانت جميع استطلاعات الرأي المتعلقة بطالبي اللجوء في تركيا تشير إلى أن غالبية المجتمع ترفض بقاءهم لمدة أطول، وظن الجميع أن هذا سيؤثر بشكل كبير على سلوك الناخبين خلال التصويت. ورغم أن التصور الذي تشكل عنهم كان مجحفا وغير عادل، إلا أن تغييره لم يكن يستحق العناء. لأنه لم تكن هناك فائدة سياسية في ذلك. ولم يكن لدى المهاجرين أصلا حق التصويت وكانت التطورات المحتملة ستلحق الضرر الأكبر بهم. لكن رغم كل هذا، لجأ مرشح «تحالف الأمة» إلى الأكاذيب وطرح قضية المهاجرين على أجندته بقسوة شديدة. وعلى الرغم من أن عدد سكان سوريا يبلغ نحو 18 مليونا، خرج كليتشدار أوغلو يزعم قدوم 10 ملايين لاجئ سوري إلى تركيا. وأضاف: «إذا لم نصل إلى السلطة، سيأتي 20 مليون لاجئ إضافي إلى تركيا». وادعى أن الدولة وزعت الأموال على السوريين وجعلتهم يدرسون في الجامعات مجانا. ولا شك أن تصريحات وأكاذيب كليتشدار أوغلو هذه جعلت حتى الأطفال والنساء اللاجئين مستهدفين في البلاد، وزادت من حدة خطاب الكراهية ضدهم. المشكلة الحقيقية تمثلت في صمت حزب الدواء بزعامة علي باباجان، وحزب المستقبل، الذي أسسه أحمد داوود أوغلو، المنخرطين في «تحالف الأمة» مع كليتشدار أوغلو، على كل هذه الحملة.
تصريحات وأكاذيب كليتشدار أوغلو جعلت حتى الأطفال والنساء اللاجئين مستهدفين في البلاد وزادت من حدة خطاب الكراهية ضدهم
في ظل كل المعطيات التي كانت تصدر ضد اللاجئين و»المؤشرات» التي تدعو للتخلي عنهم، لم يقبل الرئيس أردوغان أن يركلهم هو الآخر بإجراءات من شأنها أن تضرهم أكثر، ولم ينتهك التقاليد والأعراف العريقة التي يتمتع بها هذا البلد المعروف باحتضان المهاجرين على مر التاريخ. كما أنه لم يتنازل عن هذا الموقف في الجولة الثانية مثلما فعل في الجولة الأولى من الانتخابات. لقد اتخذ موقفا واضحا مؤيدا للعدالة رغم مخاطر خسارة الأصوات. بالطبع كانت لديه بعض الأخطاء، لكنه وقف بكل حزم ومتانة في هذه القضية الحيوية. فلم يرتكب الخطأ القاتل بحق اللاجئين ولم يدفعهم إلى وادي الجذام نتيجة الحملات التي أطلقت ضدهم على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الساحة السياسية. وقال أردوغان عن الموضوع: «قد لا يفهم البعض هذا الأمر لكننا ندركه جيدا. هؤلاء الإخوة والأخوات سيذهبون بأنفسهم أصلا إلى منازلهم وأراضيهم، عندما تعود الأوضاع إلى طبيعتها هناك بمشيئة الله. أما نحن فلا يمكننا طردهم، ولا يمكننا إرسالهم إلى تحت القنابل».
رغم التكلفة الباهظة التي يمكن أن تترتب على رفض حملات العنصرية وكراهية الأجانب، فضل الرئيس أردوغان مواجهتها والتصدي لها بقوة، حتى أنه اعتبر ذلك ضروريا. هناك سببان رئيسيان يستدعيان معارضة منطق الترحيل: الأول هو عدم وجود مثال سابق على ذلك باستثناء التبادل القسري للسكان بعد اتفاقية لوزان عام 1923 والتبادل القسري للسكان بعد تقسيم باكستان والهند. وهذه الظاهرة غير قابلة للتنفيذ في العالم الحديث. هي مجرد خطاب غير واقعي، ولكنها تثير الاستقطاب ويستخدمها السياسيون اليمينيون العنصريون في كثير من الأحيان. والثاني: هو تجربة تركيا الخاصة بالهجرة. حان الوقت ليفهم الجميع الأسباب التي تجعل سكان سوريا يهاجرون إلى البلدان الأخرى منذ سنوات طويلة ويرفضون العودة إليها ولماذا وصل عدد السوريين في الخارج إلى أكثر من 7-8 ملايين. لو أصبحت سوريا سويسرا الشرق الأوسط، فإننا جميعا سنريد الهجرة إليها على أي حال، لكن يجب أن يكون همنا هو تحويل سوريا والبلدان التي تعاني مما تعانيه إلى سويسرا بالفعل.
البروفيسور بيرات أوز إيبك، أحد مؤسسي جمعية الفكر الليبرالي المشهورة في تركيا، تناول هذا الموضوع في مقال له، فقال إن «هناك غرباء في هذا البلد يراقبون نتائج الانتخابات واضعين أيديهم على قلوبهم يعيشون ما هو أشبه بقلق الحمام. وهناك أيضا أناس يقيسون ويخططون ويطورون لغة دقيقة في التواصل السياسي ويجرون الاستطلاعات وينظمون الحملات الانتخابية. هؤلاء يهمسون للسياسيين بسحق الحمام أو عدم الاكتراث. وفي الحقيقة ربما يكون هذا اختبارا يمكن فقط لمن يخاطرون بالخسارة اجتيازه. إنه اختبار لا ينجو منه أي واحد منا. على أمل أن ننتصر جميعا».
المثال التالي الذي طرحه بيرات أوز إيبك، يبدو وكأنه يكشف حالة المعارضة التركية التي تتصرف بقسوة في قضية المهاجرين، «في يوم من الأيام، يدخل شخص متنمر إلى محل للحلاقة. يصفع الشخص القلندري (درويش) الجالس على الكرسي ويقول له «قم يا كوسا» ثم يجبره على النهوض ويجلس مكانه. يتنحى القلندري جانبا دون أن تصدر منه ردة فعل. عندما ينتهي المتنمر من الحلاقة يتجه نحو باب المحل وأثناء خروجه تصطدم به عربة خيل فيظل عالقا تحتها. يدرك الحلاق أن القلندري ليس شخصا عاديا، فيسأل: «ألم يكن هذا (العقاب) شديدا يا سيد؟» يرد عليه القلندري قائلا: «في الواقع كنت قد عفوت عنه، لكن يبدو أن صاحب الكوسا لم يسامحه».