نحن والعالم تحت أضواء حرب أوكرانيا
بعض ما شاهدناه وبعض ما سمعناه فى أرجاء قاعة قمة جدة وقع متأثرا بأجواء وتطورات حرب أوكرانيا.
كثيرون فى داخل قاعة قمة جدة ظلوا غير مقتنعين بحكمة دعوة الأسد للمشاركة فى القمة قبل أن تزول أسباب القطيعة.
أثارت دعوة زيلينسكي جدلا جانبيا غير محسوب أو متوقع ولا مرغوبا فى هذه القمة تحديدا وهى قمة توقعتُ أن تتحرك بحرص وحساسية شديدة وحسابات دقيقة.
تأثر العالم بأسره بالحرب سياسة واقتصادا وارتزاقا وجريمة منظمة وتضخما وبطالة وأزمات غذاء وتحولات دولية وإقليمية وبغيرها من ثوابت ومتغيرات العالم.
تمثل حرب أوكرانيا مجسما لحرب عالمية أطرافها ثلاث قوى عظمى وحلفاء انضموا لخدمة مصالح أو تحت إقناع وضغط أو خوف عقوبات ومقاطعة وحملات الإعلام.
انتهت القمة بلا حل معقول ومقبول للمسألة السورية ليست المرة الأولى تبقى سوريا كما بدأت مشوارها العربى والعروبى، «عنوان مسألة» لا اسم دولة عضو بالجامعة العربية.
لا أحد بين أعضاء الوفود وقياداتها أسعده خبر حضور زيلينسكي خاصة عندما استرسل فى خطاب لم يكلف نفسه أن يعلن أمام أصحاب الشأن فى القاعة أو ملايين العرب عبر الأثير أنه يقف بجانب أي قضية عربية.
* * *
يشاء حظى أن أعيش لأشهد نموذجا مصغرا لحرب عالمية أتأثر بها وأحاول التأثير فيها. ضاعت منى فرصة أن أكون شاهدا على حرب عالمية حقيقية، نشبت الأولى وانتهت قبل أن أولد، ونشبت الثانية وانتهت وأنا طفل يعى ولا يستوعب. ولم تنشب الثالثة، أو ما يشبهها، لأكون شاهدا عليها إلا وقد صرت واعيا إلى درجة تسمح باستيعاب ما يجرى.
نشب ما يشبه المجسم لحرب عالمية طرفاه، وبمعنى أدق أطرافه، ثلاثة من القوى العظمى ومعهم عديد الحلفاء. بين هؤلاء الحلفاء من انضم إلى الحرب من تلقاء ذاته ولخدمة مصالح بعينها ومنهم من انضم تحت الإقناع بالضغط أو بغيره ومنهم من يخاف العقوبات وأرهبه التهديد بالمقاطعة الاقتصادية والحملات الإعلامية.
دول أخرى أكثر عددا وقفت على هامش دائرة الحرب رافضة إغراءات وتهديدات عديدة ومتمسكة بموقف عدم الانحياز الخجول بطبعه الجديد، المتوسل حينا والمتهور حينا آخر.
المؤكد فى كل الأحوال، من وجهة نظرى على الأقل، هو المدى البعيد الذى راحت إليه هذه الحرب أو مجسم الحرب كما أطلقت عليه فى التأثير والتأثر بالعالم بأسره سياسة واقتصادا وارتزاقا وجريمة منظمة وتضخما وبطالة وأزمات غذاء وتحولات دولية وإقليمية وبغيرها من ثوابت ومتغيرات العالم الذى نعيش فيه. أختار منها لهذا المقال نتفا لا تفى الموضوع حقه بقدر ما تلفت الانتباه إليه.
* * *
أولًا: زيلينسكى فى قمة العرب
لم أُخف يوما، على امتداد أيام عملى فى الأمانة العامة للجامعة العربية، اعتراضي على دعوة شخصيات أجنبية لحضور اجتماع من اجتماعات الجامعة. لم تجر العادة على دعوة رؤساء قممنا العربية لحضور اجتماعات منظمات إقليمية أو دولية إلا نادرا وإن كنت لا أذكر الآن إحداها. ينبع اعتراضى من واقع وطبيعة اجتماعاتنا.
لمن لا يعرف أو يدرك أذكره بنوع خلافاتنا المختلف غالبا عن أنواع الخلافات بين الدول أعضاء منظمات أخرى. أذكره أيضا بالحدة التى تتسم بها أحيانا حواراتنا، زعماء كنا أم مثقفين أم بيروقراطيين وأحيانا دبلوماسيين من ذوى الباع الطويل فى مؤتمرات دولية.
سمعتهم هناك وسمعتهم هنا والفارق كبير. ليس هذا موضوعنا على أية حال، إنما كانت دعوة زيلينسكى تحديدا السبب الذى أثار جدلا جانبيا غير محسوب أو متوقع ولا كان مرغوبا فى هذه القمة تحديدا، وهى القمة التى توقعت أن تتحرك بحساسية شديدة وحرص بالغ وحسابات دقيقة.
لم يكن يليق بالولايات المتحدة أو بحليف فى حرب أوكرانيأ أن يقترح أو يوصى بدعوة زيلينسكى إلى مؤتمر له طبيعة خاصة وسلوكيات معظم أعضائه تشى برغبتهم فى التمسك بموقف عدم الانحياز، وفى قول آخر بموقف أقل انحيازا، وبرغبتهم فى تفادى كل ما من شأنه أن يثير خلافات إضافية بين الأعضاء.
كنت تقريبا هناك، أسمع أولا بأول، تفاصيل بعض ما دار. أعود فأؤكد هنا أن لا أحد بين أعضاء الوفود وقياداتها أسعده خبر حضور زيلينسكى وبخاصة عندما راح يسترسل فى خطاب لم يكلف نفسه أو من صاغ له بعض أهم فقراته أن يعلن أمام أصحاب الشأن فى القاعة أو ملايين العرب عبر الأثير أنه يقف إلى جانب قضية عربية أو أخرى.
قيل لى ولغيرى أن للرجل حساباته الشخصية والسياسية التى منعته وستمنعه دوما وأبدا من تأييد حق شعب عربى فى التخلص من الاحتلال الغاصب والمجرم. المهم أن الخطاب كان مذاعا فسمعه ملايين العرب وليس فقط رؤساؤهم. أساء إليه وإلينا حلفاؤه ومستشاروه حين دبروا وخططوا له الرحلة إلى قمة العرب.
* * *
ثانيا: بدأت القمة كعادة معظم القمم العربية وسط انقسام وتوتر وخلافات فى الرأى.
كدت أكتب أن هذه القمة اختلفت عن سابقاتها فى أن موضوع الخلاف الرئيس فيها دار حول شخص رئيس دولة عربية مشارك فى المؤتمر. نسيت للحظة أن خلافات قوية كثيرا ما نشبت فى قمم سابقة بسبب وجود ومداخلات الرئيس الليبى العقيد القذافى. هذه المرة كان الدافع للانقسام أشد وأخطر.
كثيرون فى داخل القاعة ظلوا غير مقتنعين بحكمة دعوة الرئيس الأسد للمشاركة فى القمة قبل أن تزول أسباب القطيعة. سمعت من يقول عادت مصر ولم تزل أسباب القطيعة قائمة. رد آخرون بأن خطيئة الرئيس الأسد أكبر ولا تغتفر. لم يتأخر الرد على الرد. استمر الجدل دائرا ليتصاعد صعودا مفاجئا حينما انطلق الرئيس الأسد فى خطابه غير آسف وغير متردد بل مهاجما ومتوعدا.
ها هى القمة العربية تستعيد إبداعاتها. لا أحد يقاطع ولا أحد يعلق دعما أو استنكارا. هناك من غادر القاعة قبل أن يلقى الأسد خطابه وهناك من تبادل نظرات الاستنكار مع زملاء وهناك من أخفى وجهه خشية أن يقرأ أحد فيه ما حاول أن يخفيه أو يكتمه فى داخله.
ينتهى المؤتمر تاركا بدون حل ممكن ومعقول ومقبول المسألة السورية. ليست المرة الأولى على كل حال. تبقى سوريا كما بدأت مشوارها العربى، والعروبى أيضا، تبقى «عنوان مسألة» وليس اسم دولة عضو فى جامعة الدول العربية.
ثالثا: توقعت شخصيا أن يصدر عن هذه القمة تحديدا خارطة طريق مالية وإدارية لمسارات العمل داخل الأمانة العامة للجامعة العربية على امتداد سنوات قادمة، لم تصدر ويبدو أنها لن تصدر قريبا أو صرف النظر عنها. كمراقبين من الخارج، كان اللافت لنظرنا على امتداد سنوات الانشغال الدائب والمفصل من جانب السعودية بالشؤون المالية والإدارية للجامعة.
وصل الانشغال فى أوقات إلى حد سبب قلقا عظيما لدول كثيرة أو سعادة وانشراحا لدى دول أخرى عاشت على أمل أن تشهد إصلاحا حقيقيا وناجعا للعمل العربى المشترك وليس فقط فى الشئون المالية والإدارية.
جدير بالذكر أنه جاء فى خطاب ولى العهد السعودى والرئيس الفعلى للمؤتمر ما يلمح كما قال البعض وما يشير كما قال بعض آخر إلى أن المملكة تأمل أن تتاح الفرصة لدول المجموعة العربية أن تستفيد من النهضة الاقتصادية الشاملة التى سوف تكون من نصيب المملكة فى السنوات القليلة القادمة.
لم تصرح المملكة عن طريق ولى العهد أو وفدها لدى المؤتمر عن أن لديها خطة شاملة تحقق بواسطتها تكاملا اقتصاديا عربيا ينهض بالأمة نهضة غير مسبوقة، ولكنها ألمحت أو أشارت إلى علاقة سوف تربط النهضة السعودية المنتظرة بنهضة عربية تلحق بها بالضرورة وبالنية المسبقة.
مرة أخرى تعود فيما يبدو منطقة الخليج للتبشير بعهد جديد للعمل العربى المشترك. فى المرة الأولى شهدت السبعينيات انطلاق مرحلة صعود فى العمل العربى المشترك مدفوعا بالجهد القومى المشترك الذى حقق انتصارات عسكرية وطفرة مالية سمحت بنشاط مرموق لسنوات معدودة فى مجالات اقتصادية ومصرفية وزراعية مشتركة. آمال شبيهة بآمال السبعينيات طافت فى أجواء قاعة اجتماعات قمة جدة وربما ومما سمعت وقرأت وشاهدت لعلها أوسع طموحا لأسباب وظروف مفهومة.
* * *
لا أتجاوز أو أبالغ حين أقرر أن بعض ما شاهدناه وبعض ما سمعناه فى أرجاء قاعة قمة جدة وقع متأثرا بأجواء وتطورات حرب أوكرانيا. فى الوقت نفسه لا أقلل من أهمية واقع ملموس، وهو صوت أعلى وأعمال جسورة تصدر عن دول الجنوب فى مواجهاتها الخاصة مع دول الشمال المتصارعة على أرض أوكرانيا وشعبها.
أتصور، وبين زملائى من يشركنى هذا التصور، أتصور أن دولا فى الجنوب أكثر عددا صارت تحاول التفلت من ضغوط واستفزازات بعض دول الشمال وبخاصة من سلوكيات الهيمنة الأمريكية والإصرار على الاستمرار فى ممارسة سياسات استعمارية كان الظن أن أوان اختفائها حان وانقضى.
أتفهم أسباب الشعور الطاغى فى عالم الجنوب بأن أمريكا فقدت مشروعية الانفراد بقيادة العالم حين جرّت أوكرانيا أرضا وشعبا لحرب غير مبررة وكان من الممكن تفاديها بالتوقف عن استفزاز الوطنية الروسية وأمن روسيا.
أتفهم فى الوقت نفسه أسباب الانحسار المتدرج فى تعاطف، ولا أقول تأييد، أهل وحكومات الجنوب مع روسيا فى الحرب الناشبة بينها وبين أمريكا وجماعتها.
تعاطف الجنوب مع روسيا عن قناعة بأن روسيا كانت ضحية استفزاز يجرى ممارسته منذ انتهت الحرب الباردة. ثم راح التعاطف ينحسر مع أداء متواصل التدهور وبخاصة حين لجأت موسكو إلى جماعات المرتزقة تستكمل بها نقصا وتسد فراغا فى قدراتها الدفاعية، ثم حين راحت تهدد باستخدام أسلحة نووية.
أتابع مثل غيرى الميل المتصاعد من جانب أهل الجنوب فى اتجاه الصين وما يلحق بهذا الميل من اندفاع أمريكى نحو تصعيد المواجهة معها والانشغال بتدبير سلاسل استفزاز لجرها لحرب قبل أوانها، وفى تقديرنا أن الجنوب مقدر له، إن أحسن الاستعداد، لعب دور فى وقف هذا التدهور المتسارع فى العلاقات بين الدول العظمى.
*جميل مطر كاتب ومفكر سياسي، دبلوماسي مصري سابق