لتركيا سجل حافل بالانتخابات الديمقراطية لا سيّما خلال العقود الأخيرة، ومع ذلك قد تكون الانتخابات القادمة استثناءً مهمًّا، وقيمة رمزية كبيرة، إذ ستعقد في بداية المئوية الثانية من تاريخ الجمهورية التركية، وستحدد القائد الذي سيقود تركيا إلى القرن المقبل.
يمكن أن تشكّل هذه الانتخابات نقطة تحول مهمة في المشهد السياسي التركي، وقد تؤثر بشكل كبير على مستقبل البلاد، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية المستمرة والاستقطاب السياسي الحاد الذي تشهده الساحة المحليّة.
لذا، من المتوقع أن تشهد الانتخابات المقبلة مشاركة استثنائية، إذ يترقب الشعب التركي والمجتمع الدولي بفارغ الصبر النتائج المحتملة لهذا التصويت التاريخي.
توجد العديد من المسارات السياسية المحتملة التي يمكن أن تتكشف في تركيا خلال الأيام المقبلة بعد الانتهاء من الانتخابات، أحد هذه المسارات هو استمرار الوضع الراهن، مع احتفاظ تحالف الجمهور (الشعب) بقيادة حزب العدالة والتنمية بالسلطة ومتابعة سياساته الحالية، وقد يؤدي هذا إلى الاستقرار، لكنه قد يعني أيضًا استمرار التحديات الاقتصادية التي تعيشها البلاد.
هناك مسار آخر محتمل، وهو تحول في السلطة نحو المعارضة بعد نجاحها في تشكيل تحالف عريض يضمّ 6 أحزاب هو تحالف الأمة أو ما يعرَف بالطاولة السداسية، إضافة إلى الدعم الذي يتلقاه من ثاني أكبر أحزاب المعارضة، وهو حزب الشعوب الديمقراطي (HDP).
يثير هذا المسار الكثير من القلق والتساؤلات حول مستقبل البلاد، وطريقة إدارتها من قبل 7 أحزاب ذات توجهات وأيديولوجيات متناقضة.
بغضّ النظر عمّن يصل إلى السلطة في تركيا، هناك العديد من التحديات الرئيسية التي يجب معالجتها في السنوات القادمة، واحدة من أكثر الأمور إلحاحًا هي حالة الاقتصاد، إذ عانت تركيا من ارتفاع مستوى التضخم والبطالة، وانخفاض العملة في السنوات الأخيرة، وستحتاج الحكومة الجديدة إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لمعالجة هذه القضايا ووضع البلاد على طريق النمو المستدام.
التحدي الآخر هو التحول إلى النظام البرلماني أو الإبقاء على النظام الرئاسي السائد حاليًّا، إضافة إلى تحديات تتعلق بالسياسة الخارجية، وأزمة اللاجئين في تركيا، والوجود العسكري التركي في الخارج، وقضايا الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، وتعزيز المؤسسات الديمقراطية في البلاد.
لا يضع هذا المقال أي تنبؤات محددة لصالح أي حزب أو تحالف، بل يقدّم سيناريوهات محتملة بناءً على تحليل وفهم للمشهد السياسي الحالي في تركيا.
بعد إجراء عملية التصويت والإعلان عن النتائج، سنكون على الأرجح أمام ثلاث سيناريوهات، سنناقش إيجابيات وسلبيات كل واحد منها، مع التركيز على التحالفَين الرئيسيَّين اللذين يتنافسان بقوة في الانتخابات المقبلة، وهما تحالف الجمهور (الشعب) بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، وتحالف الأمة المعارض بقيادة كمال كليجدار أوغلو.
السيناريو الأول
الفوز بمنصب الرئاسة وتحقيق الأغلبية البرلمانية
مبدئيًّا، قد يكون هذا السيناريو الأفضل لمستقبل الاستقرار السياسي في البلاد، فإذا فاز تحالف الجمهور (الشعب) بقيادة حزب العدالة والتنمية الذي حكم البلاد لأكثر من 20 سنة، قد تشهد تركيا تغييرات في السياسة الداخلية والخارجية، إلا أن هذه التغييرات ستتم بطريقة مدروسة وسيواصل تحالف الجمهور إصلاحاته وسياساته التنموية التي يركز عليها خلال حملاته الانتخابية في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مستفيدًا من تجاربه السابقة في الحكم.
أما في حال فوز تحالف الأمة بقيادة كمال كليجدار أوغلو، فسيواجه تحديات كبيرة تتعلق بإدارة البلاد، وهناك من يقول إن مؤسسات الدولة سوف تنقسم إلى إقطاعيات بين الأحزاب ذات الأيديولوجيات المختلفة داخل هذا التحالف.
التحدي الأكبر الذي سيواجهه تحالف الأمة هو تحقيق وعوده التي روّجها خلال حملاته الانتخابية، وعلى رأسها الانتقال إلى النظام البرلماني المعزز، لكن هذا الانتقال سيواجه صعوبة حتى في حال فاز تحالف الأمة بالأغلبية المطلقة في البرلمان، لأنه يحتاج إلى تعديل الدستور الحالي، وهذا يتطلب حصوله على ثلثي مقاعد البرلمان (400 مقعد) لتعديل الدستور داخل البرلمان، و360 مقعدًا لعرض التعديل على الاستفتاء الشعبي.
يملك تحالف الأمة حاليًّا 174 مقعدًا، وهذا يوجب عليه مضاعفة عدد مقاعده خلال الانتخابات المقبلة لكي يتمكن من الحصول على أغلبية مريحة داخل البرلمان، تمكّنه من إقرار التشريعات الهامة وتعديل الدستور.
في المقابل، يملك تحالف الجمهور بقيادة أردوغان حاليًّا 334 مقعدًا في البرلمان، وهذا يعني لتغيير النظام الرئاسي يتوجب أن تنخفض مقاعد تحالف الشعب إلى أقل من 240 مقعدًا في حال الذهاب إلى الاستفتاء الشعبي، وإلى 200 مقعد لتعديل الدستور داخل البرلمان، وهذا الأمر مستبعد إلى درجة كبيرة، حتى في حال الأخذ بنتائج استطلاعات الرأي التي تروّج لحصول تحالف الأمة على مرتبة عالية في تصويت الناخبين الأتراك.
وإذا سلّمنا بأن حزب الشعوب الديمقراطي سيدعم كمال كليجدار أوغلو وتحالف الأمة، فإن هذا الدعم لن يكون مجانيًّا، ويتوجب على تحالف الأمة تقديم تنازلات كبيرة في السياسة الداخلية والخارجية ليحظى بدعمه.
يتطلب هذا تسليط الضوء على الجزء الغامض وغير المرئي من الصفقة التي تمّت بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي، خاصة أن الأخير سيكون الأكثر نفوذًا داخل تحالف الأمة بحكم عدد المقاعد التي سيحصل عليها خلال الانتخابات، بالمقارنة مع التمثيل الضعيف للأحزاب الأخرى المنخرطة ضمن الطاولة السداسية.
بالإضافة إلى الآلية التي سيتبعها كليجدار أوغلو للتوفيق بين مصالح حزب الشعوب الديمقراطي وعدوه اللدود الحزب الجيد، وغيرهما من الأحزاب المحافظة مثل حزب المستقبل وحزب الديمقراطية والتقدم (ديفا) وحزب السعادة، في العديد من القضايا الخلافية.
السيناريو الثاني
فوز تحالف ما بمنصب الرئيس وفوز تحالف آخر بالأغلبية البرلمانية
هذا السيناريو من شأنه أن يعقّد إدارة البلاد، رغم أن الرئيس لديه سلطة إصدار مراسيم تشريعية بشأن العديد من القضايا بخلاف الحقوق الأساسية والحقوق السياسية، هناك احتمال أن تصدر الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا (البرلمان) قانونًا مختلفًا حول الموضوع نفسه، وتحييد هذا المرسوم.
وفي حال إصدار البرلمان قانونًا، يحقّ لرئيس الجمهورية الاعتراض عليه خلال 15 يومًا، وأن يعيده إلى البرلمان لتعديله كليًّا أو جزئيًّا، لكن إذا أصرَّ البرلمان بالأغلبية المطلقة (300+1) على القانون دون أي تعديل، فيتوجب على الرئيس إصداره ولا يحق له نقضه مرة ثانية.
أما في حالة مخالفة القانون للدستور، فيمكن لرئيس الجمهورية أن يقدم التماسًا إلى المحكمة الدستورية العليا لإبطال القانون، في حال عدم دستوريته شكلًا أو مضمونًا، أما إذا أصدر الرئيس مرسومًا وحدث تعارض بين أحكامه وأحكام قانون نافذ، فإن أحكام القانون هي التي تسري.
ويعني هذا أن التحالف الذي يفوز بمنصب الرئاسة دون أن يكون لديه أغلبية برلمانية، سيواجه متاعب وتحديات كبيرة في إدارة البلاد، لأن التحالف الذي يسيطر على السلطة التشريعية سيعرقل عمل السلطة التنفيذية بشكل كبير.
مع ذلك، وفي مثل هذه الحالة، سيكون لحقّ النقض الذي يملكه الرئيس تأثير معقّد على التشريع، حيث يتم تمرير معظم القوانين بأقل من 301 صوت، بسبب حقيقة أن جميع النواب ليسوا حاضرين دائمًا في البرلمان.
نقطة أخيرة في هذا السيناريو تعطي للتحالف المعارض للرئيس، والذي لديه أغلبية برلمانية كبيرة، حق الدعوة إلى تجديد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية (انتخابات مبكرة)، في حال موافقة ثلاثة أخماس من إجمالي عدد الأعضاء في البرلمان (360 صوتًا).
السيناريو الثالث
فوز أحد التحالفات بمنصب الرئيس دون أن يتمكن أي تحالف من تحقيق الأغلبية البرلمانية
في هذا السيناريو يمكن أن يفوز أحد التحالفَين الرئيسيَّين بمنصب الرئيس، لكن لا يستطيع أي منهما تحقيق الأغلبية البرلمانية المطلوبة (50+1%).
قد يؤدي هذا إلى وضع معقّد داخل البرلمان من شأنه أن يجعل من الصعب على التحالفات إصدار وتعديل القوانين، يمكن توضيح ذلك بالمثال الآتي: إذا حصل تحالف الجمهور على 250 مقعدًا، وتحالف الأمة على 250 مقعدًا، وتحالف العمل والحرية على 70 مقعدًا، والأحزاب الأخرى على 30 مقعدًا، في هذه الحال يتعيّن على تحالفَين على الأقل العمل معًا لتمرير القوانين.
في هذه الحالة قد يشكّل تحالف العمل والحرية الذي يقوده حزب الشعوب الديمقراطي ما يسمّى بـ”بيضة القبان”، وإذا ما نظرنا إلى التفاهمات الضمنية بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي، يمكننا القول إن تحالف العمل والحرية سيقدّم الدعم لتحالف الأمة داخل البرلمان أيضًا، لكن هذا الدعم سيمرّ بمسارات معقّدة من المساومات في عدد من الملفات الحساسة.
عمومًا، أيام قليلة تفصلنا عن هذا الاستحقاق الذي تتفق الأطياف جميعًا على أنه “تاريخي”، وفيما قد نشهد تحقق أحد هذه السيناريوهات الثلاثة، فلن يكون مفاجئًا أن نصطدم بموقف آخر، يجبر الجميع على ترتيب أوراقهم.