يجب النّظر إلى اتّفاق بكين بين المملكة العربيّة السعوديّة وإيران الذي رعاه الرئيس الصيني شخصيًّا، ليس من زاوية إعادة العلاقات وفتح السّفارات بين البلدين، وإنّما أيضًا من زاوية نجاحه في قطع خطوات طويلة على طريق تحقيق المُصالحة بين مذهبيّ العالم الإسلامي الأبرز، أيّ الشيعة والسنّة، وقطع الطريق كُلّيًّا على كُلّ أشكال التحريض الطائفي لتأجيج الفتنة والانقسام الذي تقف خلفه الولايات المتحدة و”إسرائيل” وأجهزتهما الأمنيّة، وشبكة العُملاء العاملين تحت مِظلّتها.
استضافة الصين للحلقة الأخيرة من المُفاوضات التي تتوّجت بالاتّفاق، يعني ارتفاع أسهمها في مِنطقة الشّرق الاوسط، على أنقاضِ النّفوذ الأمريكي المُتآكل، حيث تُوجد المصادر الرئيسيّة للطاقة النفطيّة والغازيّة في العالم، وتأمينها، وهذا شرطٌ أساسيّ لأيّ دولةٍ عُظمى، فإيران وقطر ثاني وثالث أكبر مُصدّر للغاز، والسعوديّة أكبر مُنتج ومُصدّر للنفط في العالم، ولهذا لم تُفاجئنا الأنباء التي تتحدّث عن خطّةٍ صينيّةٍ لاستِضافة قمّة لقادة دول مجلس التعاون الخليجي وإيران في بكين ربّما بعد عيد الفطر المُبارك، لتعزيز العلاقات وتخفيض حدّة التوتّر بين الجانبين الخليجي والإيراني.
من الطّبيعي أن تكون هُناك جبهة مُعارضة قويّة لهذا الاتّفاق التاريخي التصالحي من قِبَل بعض الجهات العربيّة، والإسرائيليّة، التي فُوجئت به، وكانت تُراهن على تأجيج الصّراع الإيراني السعودي، وأزماته في اليمن ولبنان وسورية، وكانَ من أبرز ركائز التّشكيك بفُرص نجاح هذا الاتّفاق، القول بأنّ تأجيل فتح السّفارات، وتبادل السّفراء سيتأخّر لشهرين، كمَرحلةِ اختبارٍ للنّوايا، ويغيب عن ذِهن هؤلاء أن إعادة ترميم السّفارات بعد حواليّ ثماني سنوات تقريبًا من الإغلاق، والاقتِحامات (نحن نتحدّث هُنا عن السّفارة السعوديّة في طِهران)، مُضافًا إلى ذلك الانتقال من القطيعة والعداوة الكاملين إلى المُصالحة والتعاون، يحتاج إلى فترةٍ انتقاليّة.
وقف الحملات الإعلاميّة، والتّحريض الطّائفي بين البلدين، كان من أبرز النتائج الإيجابيّة الأوّليّة لهذا الاتّفاق، وخطوة مهمّة على صعيد التهدئة والتهيئة لمرحلةٍ جديدة، ولُوحِظ حُدوث تغييرٍ في اللّهجة بشَكلٍ إيجابيّ، ليس في وسائل إعلام البلدين، المرئيّة والمسموعة فقط، وإنّما على مواقع التواصل الاجتماعي أيضًا، ولا نستبعد إغلاق قنوات تلفزيونيّة مِثل “إيران إنترناشونال” المُمَوّلة سعوديًّا، وأُخرى مُماثلة في الجانب الإيراني.
هُناك مخاوف تتردّد بكثافةٍ على بعض وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونيّة، من قِيام الولايات المتحدة و”إسرائيل” المُتضرّرين الرئيسيّين من هذا الاتّفاق، بالعمل على إفشاله، وربّما اللّجوء إلى عملٍ عسكريٍّ ضدّ إيران كأحد الخِيارات المطروحة.
هذه المخاوف مفهومة، لأنّ المُصابُ كبير، واللّكمة كانت شِبه قاضية، ومن الوزن الثّقيل، ولكنّ احتِمالات إفشال الاتّفاق تبدو ضعيفةً لعدّة أسباب:
- أوّلًا: الإدارة الأمريكيّة تخوض حربًا غير مُباشرة في أوكرانيا، والوقائع في الميدان تُؤكّد تحقيق الخصم الروسي مكاسب كبيرة بعد دخول الحرب عامها الثاني، خاصّةً في المجالات الاقتصاديّة بعد فشل العُقوبات، وارتفاع أسعار الغاز والنفط، ولا نعتقد أنها مُؤهّلة لخوضِ حربٍ جديدةٍ في الشّرق الأوسط (اليوم أُعلن إفلاس بنك “سيليكون فالي” الأمريكي الضّخم وبُنوك أُخرى في الطّريق).
- ثانيًا: تعيش دولة الاحتِلال الإسرائيلي أضعف حالاتها، بسبب الحرب الأهليّة الداخليّة المُتأجّجة، وتصاعد أعمال المُقاومة الفِلسطينيّة الجديدة التي ضربت أهم ثلاثة أُسس لوجودها، وهي: الأمن، الاستِقرار، والرّخاء الاقتصادي، وإقدامها على أيّ عُدوانٍ على إيران سيُؤدّي إلى تدميرها من خِلالِ استِهدافها بآلافِ الصّواريخ والمُسيّرات من كُلّ الاتّجاهات.
- ثالثًا: بخُروج السعوديّة بشَكلٍ مُتسارع من المحور الأمريكي، باتت الدّول العربيّة التي ما زالت في هذا المحور ضعيفةً وغير ذات أهميّة عسكريًّا واقتصاديًّا، مُضافًا إلى ذلك أنها من الصّعب أن تتورّط في أيّ حربٍ أمريكيّة إسرائيليّة ضدّ إيران والمملكة العربيّة السعوديّة بسبب أزماتها الداخليّة، وحالة الرّفض المُتزايد في صُفوفِ شُعوبها.
- رابعًا: هذا الاتّفاق سيُؤدّي على المدّيين القريب والمتوسّط، إلى انهاء جميع الأزمات المُنبثقة عن الخِلاف السعودي الإيراني في اليمن وسورية ولبنان، وهي أزمات من صُنُعٍ أمريكيّ، فالوِفاق السعودي الإيراني يعني إنهاء الحرب بالإنابة بين طرفيه في اليمن، والتوصّل إلى اتّفاق تهدئة في لبنان على غِرار اتّفاق الطائف، وتحقيق مُصالحة وطنيّة تُؤدّي إلى إحياء مُؤسّسات الدّولة، وانتخاب رئيس لبناني جديد، ومن المُرجّح أن يكون سليمان فرنجية الذي تربطه وأُسرته علاقات قويّة مع جميع الأطراف، والسعوديّة تحديدًا، وإرث والده العربيّ العظيم في الدّفاع عن القضيّة الفِلسطينيّة، واحتِمال رفع الحِصار عن سورية ورصد مِليارات لإعادة الإعمار.
- خامسًا: هذا الاتّفاق صلب، لأنّه ليس وليد ساعته، وإنّما ثمرة إعداد وقناعات استراتيجيّة مُتبادلة وجولات ومُفاوضات طويلة وعميقة ومُعقّدة، بدأت في العِراق، وانتقلت إلى مسقط، وتكلّلت بالنّجاح في الصين محطّتها الأخيرة.
***
بنيامين نِتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي تنهال عليه الصّفعات من كُلّ الجهات، داخليًّا وخارجيًّا، كان يتبجّح بالقول بكُل ثقة إن أوّل زيارة خارجيّة له ستكون إلى أبوظبي، وأوّل دولة ستُطبّع مع حُكومته وتنضم إلى “مِظلّة” سلام أبراهام، ستكون المملكة العربيّة السعوديّة.
نِتنياهو لم يَفِ بوعده بزيارة الإمارات، ولم يتحقّق حُلمه بالتّطبيع مع المملكة العربيّة السعوديّة، والأخطر من ذلك، أن الأولى، أيّ الامارات، أجّلت، وربّما ألغت، شِراء منظومات دفاعيّة جويّة من دولة الاحتِلال تُقدّر بمِليارات الدّولارات، أمّا الثانية، أيّ السعودية، فقد رفضت منح تأشيرات دُخول لوفدٍ إسرائيليٍّ بهدف المُشاركة في أحد المُؤتمرات الدوليّة في مدينة العُلا.
هذا الاتّفاق إذا قُدّر له النّجاح والاستِمرار، ولا شيء يُوحي بغيْر ذلك حتّى الآن، سيُغيّر الخرائط الاستراتيجيّة في مِنطقة الشّرق الأوسط والعالم، ولن يُسرّع بعُدوانٍ إسرائيليٍّ أمريكيٍّ ضدّ إيران ومُنشآتها النوويّة، بل قد يُسرّع بإنهاء النّفوذ الأمريكي كُلّيًّا في المِنطقة، وربّما دمار “دولة إسرائيل”، فعندما تتّفق جميع الأطراف المُتفاوضة، ومن ثمّ المُوقّعة، على الاتّفاق على عدم استِخدام اللّغة الإنجليزيّة أثناء التّفاوض، وتُصِر على استِخدام ثلاث لُغات فقط هي العربيّة والفارسيّة والماندرين الصينيّة، فهذا يعني بداية نهاية مرحلة الهيمنة الغربيّة ثقافيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، وبدء انطِلاق النّظام العالمي الجديد بزعامة الصين وروسيا ودول “البريكس