تحتاج العديد من الاقتصادات الكبرى إلى تسليم كميات ضخمة من الغاز بسرعة كبيرة في عالم اليوم. وتحتل قطر، باعتبارها أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال، مكانة “المنتج المتأرجح” في سوق الغاز العالمي مثلما تفعل المملكة العربية السعودية في سوق النفط.
ويقول المحلل الاقتصادي سيمون واتكينز إنه “نظرا إلى ما هو على المحك بالنسبة إلى الدول الصناعية الكبرى في الغرب والشرق، فلا ينبغي أن نتفاجأ بأن قطر كانت حريصة على البقاء في مسار دبلوماسي بين القادة الفعّالين لمجالي النفوذ هذين: الولايات المتحدة والصين. ويبدو أن قطر قد اقتربت تدريجيا من الصين وتواصل ذلك في الأشهر الأخيرة مع تزايد متطلبات إمدادات الطاقة بسبب غزو روسيا لأوكرانيا”.
وتضيف أحدث صفقة ضخمة لتوريد الغاز الطبيعي المسال بين البلدين وزنا إضافيا إلى هذا التقارب. وتتضمن الصفقة التي تتجاوز قيمتها 60 مليار دولار تزويد شركة قطر للطاقة المملوكة للدولة شركة الصين للبترول والكيماويات (سينوبك) بـ4 ملايين طن متري من الغاز الطبيعي المسال سنويا لمدة 27 عاما بدءا من 2026. وأصبح هذا أطول عقد لتوريد الغاز الطبيعي المسال للصين وأحد أكبر عقودها من حيث الحجم. وهذه أول صفقة إمداد يعلن عنها لمشروع حقل الشمال الشرقي للإمارة العربية، وفقا لسعد بن شريدة الكعبي وزير الدولة لشؤون الطاقة في دولة قطر والرئيس والمدير التنفيذي لقطر للبترول. وقال “نحن سعداء للغاية بهذه الصفقة مع سينوبك لأن لدينا علاقة طويلة الأمد وهذا ينقل علاقتنا إلى آفاق جديدة مع وجود اتفاقية بيع وشراء تستمر حتى الخمسينات من هذا القرن”.
سيمون واتكينز: الدوحة لا تنظر إلى الصفقات مع الصين من منظور تجاري فقط
وتتبع هذه الصفقة سلسلة من الصفقات المماثلة التي انطلقت بشكل جدي، وبدرجة من البصيرة التي تبدو أكثر من مجرد مصادفة، قبل عدة أسابيع من الغزو الروسي لأوكرانيا الذي بدأ في الرابع والعشرين فبراير 2022.
ولم تتوقع الصين، التي تعدّ أقرب حليف لروسيا، أسعار الغاز المرتفعة التي تلت ذلك في جميع أنحاء العالم فقط، بل جهّزت نفسها أيضا من خلال صفقات الغاز الطبيعي المسال مع قطر وغيرها.
وشهد شهر مارس 2021 اتفاقية شراء ومبيعات مدتها 10 سنوات بين شركة سينوبك وقطر للبترول مقابل 2 مليون طن متري سنويا من الغاز الطبيعي المسال، وفقا لموقع “أويل برايس”. كما شهد ديسمبر 2021 صفقة أخرى بين شركة قطر للطاقة ومجموعة غوانغدونغ للطاقة لتوريد مليون طن سنويا من الغاز الطبيعي المسال من 2024 إلى 2034، مع إمكانية تمديد ذلك.
ويرى واتكينز في تقرير له بموقع “أويل برايس” الأميركي أنه من غير المحتمل أن تكون الدوحة ساذجة برؤية مثل هذه الصفقات في مثل هذا الوقت الحاسم من تاريخ العالم من منظور تجاري بحت.
وتقع قطر بين المملكة العربية السعودية من جهة وإيران من جهة أخرى، وقد كانت الإمارة في السابق حريصة للغاية على عدم الانحياز بشكل علني إلى جانب الولايات المتحدة وحلفائها (بما في ذلك السعودية حتى وقت قريب) من جهة، أو الصين وحلفائها (بما في ذلك إيران) من جهة أخرى. ومع ذلك، يبدو أن قيادة الإمارة تنكر أنه كلما زادت شراكة دولة ما مع الصين زاد احتمال أن ينتهي الأمر بها في صفقات من نوع “فندق كاليفورنيا” (يمكنك أن تترك غرفتك في أي وقت تريد لكن ليس بوسعك الرحيل أبدا) من خلال التمويل المرتبط بمشروع الاستيلاء على الطاقة متعدد الأجيال “حزام واحد، طريق واحد”. وربما لا تعتقد قيادة الإمارة أن نفس الشيء سيحدث لها، مثل كل من وقع في مثل هذه الصفقات.
واستخدمت الصين هذا النمط من الصفقات في جميع أنحاء العالم لتأمين مساحات إستراتيجية رئيسية من البر أو البحر بدلا من الديون المستحقة مثلما شهدنا مع المطارات والموانئ البحرية الإيرانية الرئيسية بموجب اتفاق مدته 25 عاما مع الصين، وميناء هامبانتوتا في سريلانكا، وميناء دوراليه في جيبوتي، من بين أمور أخرى. ومن المناسب أن نلاحظ أن صفقة الغاز الطبيعي المسال الأخيرة بين قطر والصين قد صنفها كبار القطريين والصينيين باعتبارها مكونا رئيسيا لـ”شراكة متكاملة في مشروع حقل الشمال الشرقي”. وأشارت سينوبك نفسها إلى أنها قد تشارك في مفاوضات لنيل حصة في هذا المجال الضخم. كما ذكرت عدة مصادر إخبارية محلية أن شركات النفط الوطنية الصينية الكبرى تجري محادثات متقدمة مع قطر للاستثمار في حقل الشمال الشرقي.
ويرى واتكينز أنه إذا كان المرء يلعب “مغامرة البنغو” على “موارد النفط والغاز الصينية في الشرق الأوسط”، فإن ورقته ستمتلئ بسرعة. لكن إستراتيجية الصين ليست عشوائية مثل لعبة الحظ، حيث إنها تركز على بناء الأصول الإستراتيجية على طول “طرق الحرير” البرية والبحرية القديمة التي تشكل الأساس لمبادرة الحزام والطريق اليوم.
وفي هذا السياق، يتساءل المحلل الاقتصادي لماذا تحولت بعض وسائل الإعلام بعيدا عن استخدام مصطلح “حزام واحد، طريق واحد” لاستخدام مصطلح “مبادرة الحزام والطريق”؟
هذا لأن الصين تفضل تسميته بهذه الطريقة، حيث تعتبر بكين أن عبارة “حزام واحد، طريق واحد” تبدو إمبريالية واستعمارية أكثر من اللازم. ومع ذلك، فإن مشروع الصين هو “حزام واحد” و”طريق واحد” وهو “حزام” بكين و”طريق” بكين كما تريده الصين.
ووضع يدها على أكبر خزان للغاز في العالم سيكسب الصين سيطرة لا مثيل لها على أكبر خزان للغاز في أي مكان في العالم من خلال تأمين موطئ قدم أكبر في حقل الشمال الشرقي لقطر، نظرا إلى سيطرتها الحالية على حقل فارس الجنوبي الإيراني لأن الحقلين يمثلان نصفي خزان غاز واحد كبير. وتبلغ مساحة حقل الغاز بالكامل 9700 كيلومتر مربع، ويحتوي على ما يقدر بـ1800 تريليون قدم مكعب (51 تريليون متر مكعب) من الغاز الطبيعي غير المصاحب وما لا يقل عن 50 مليار برميل من مكثفات الغاز الطبيعي.
ويمثل قسم قطر الذي تبلغ مساحته 6 آلاف كيلومتر مربع (الحقل الشمالي) حجر الزاوية لوضعها كمصدر للغاز الطبيعي المسال الرائد عالميا. ويمثل قسم إيران الذي تبلغ مساحته 3700 كيلومتر مربع (جنوب فارس) بالفعل حوالي 40 في المئة من إجمالي احتياطيات الغاز الإيرانية التي تقع معظمها في مناطق فارس الجنوبية وبوشهر وهرمزغان، وحوالي 75 في المئة من إنتاجها من الغاز.
وخشية أن يكون هناك أي سوء فهم صيني للنية الحقيقية وراء هذه المناورات، شهد شهر يناير من هذا العام وصول وزراء خارجية السعودية والكويت وعمان والبحرين والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي إلى بكين في زيارة تستغرق خمسة أيام للمضي قدما في المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي.
الصين تستخدم هذا النمط من الصفقات في جميع أنحاء العالم لتأمين مساحات إستراتيجية رئيسية من البر أو البحر
وكانت المواضيع الرئيسية للمحادثات في هذه الاجتماعات إبرام اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي أخيرا وتأسيس “تعاون إستراتيجي أعمق في منطقة تظهر فيها الهيمنة الأميركية علامات التراجع”، وفقا لتقارير إخبارية محلية.
وشهد شهر أكتوبر بعد ذلك قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي سعت فيها الصين لتعزيز نفوذها مع العديد من اللاعبين الرائدين في العالم في قطاعي النفط والغاز.
ولم يشمل ذلك فقط أعضاء منظمة شنغهاي للتعاون الأقوياء من روسيا وكازاخستان والهند (التي تسلّمت رئاسة المنظمة للعام المقبل) ولكن أيضا العضو الجديد الكامل، إيران، التي أعلن عن وضعها الجديد في المجموعة في نهاية القمة. وبالإضافة إلى ذلك، وفي أمر حاسم لخطط الصين طويلة الأجل لمنظمة شنغهاي للتعاون التي تعمل جنبا إلى جنب مع مشروع الاستيلاء على الطاقة متعدد الأجيال، جرى توقيع مذكرات تفاهم صرّح رئيس أوزبكستان إثرها بأن المنظمة ترحب “بتوقيع مذكرة حول منح صفة شركاء الحوار لجمهورية مصر العربية ودولة قطر، كما ستحصل البحرين وجزر المالديف والكويت والإمارات العربية المتحدة وميانمار على صفة شريك في الحوار”.
وقبل التطورات الأخيرة بين قطر والصين، كانت الآمال كبيرة في أوروبا بأنها قد تدعو الحكومة في الدوحة لمساعدتها في التعامل مع النقص المحتمل في إمدادات الغاز إثر العقوبات المفروضة على إمدادات الطاقة الروسية. وقد شاركت وفود رفيعة المستوى من ألمانيا وفرنسا في العديد من المفاوضات الموازية لعقد صفقات من شأنها تأمين إمدادات الغاز طوال الشتاء القادم وما بعده.
ومع ذلك، صرح الكعبي في أكتوبر، بعد الصفقات الموقعة بالفعل في ذلك الوقت مع الصين، وعلى ما يبدو مع التركيز على الصفقات القادمة من بكين، بوضوح أن قطر لن تحوّل الغاز الموجود ضمن عقد مع مشترين آسيويين إلى أوروبا هذا الشتاء.