د. شهاب المكاحله
قبل أيام أطلعني زميل على وثيقة مهمة جداً تتعلق بدراسة أعدتها إحدى مراكز الدراسات الأمنية الغربية والتي عملت مقاربات وسيناريوهات التشابه بين أزمة الصواريخ الكوبية، التي استمرت 35 يوماً (١٦ أكتوبر – ٢٠ نوفمبر ١٩٦٢) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي آنذاك، والتي تصاعدت إلى أزمة دولية عندما تزامن انتشار الصواريخ الأميركية في إيطاليا وتركيا مع انتشار سوفييتي لصواريخ بالستية مماثلة في كوبا. واليوم، أزمة أوكرانيا تنذر بالمواجهة النووية لأن الغرب بات متورطاً إلى ذقنه في تلك الحرب تسليحاً وتمويلاً بل إن جنرالاته يحاربون في جبهات محددة تم أسر بعضهم من قبل القوات الروسية ومبادلتهم بأسرى روس في الأسابيع الماضية.
فما الذي يحدث الآن فعليا؟ فوفق الدراسة الأمنية المبنية على كتاب “The Grand Chessboard ” لمستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيجنيو بريجنسكي، ترى الدراسة أنه من الضروري بمكان دعم الكيانات الإرهابية والمتطرفة في كل المناطق المحيط بالاتحاد الروسي تمهيداً لفصل الدول المحيطة بالاتحاد الروسي عن الحدود الروسية وخلق مناطق عازلة (Buffer Zones) كعائق طبيعي بين روسيا وتلك الدول. وتشدد الدراسة على أنه لا بد من دعم تلك الكيانات بالسلاح والمال والأفراد وتوفير الغطاء السياسي والإعلامي لتلك الهيئات بدعم من عدد من المحطات الإعلامية الغربية والشرق أوسطية ذات المشاهدة العالية.
ولما كانت الحروب الحديثة حروباً تكنولوجية، فإن المراد من تلك الكيانات هو السيطرة على المناطقة الغنية بالموارد الطبيعية النادرة والنفيسة التي تدخل في الصناعات التكنولوجية، ولما كانت روسيا وتايوان هما الأغنى عالمياً بالموارد الطبيعية النادرة، سنعرف لماذا نشهد التآمر على روسيا اليوم وعلى تايوان والصين.
ففي مؤتمر صحفي عُقد في ١٦ سبتمبر ٢٠٢٢ في سمرقند بأوزبكستان، بعد أيام من مؤتمر منظمة شنغهاي للتعاون، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن خطط تقسيم الاتحاد السوفيتي بعد انتصار السوفييت على المانيا. تحدث بوتين عما يقوم به الناتو في شرق أوروبا بناء على توصيات من كتاب بريجنسكي مع فرصة إبقاء الجزء الشرقي من روسيا الاتحادية موحدا لمواجهة الصين.
في خطابه يوم ٢١ سبتمبر ٢٠٢٢ إلى الأمة الروسية، وصف بوتين هدف “بعض النخب الغربية من إضعاف وتقسيم وتدمير روسيا في نهاية المطاف. إنهم يقولون بصراحة الآن، إنهم تمكنوا في عام ١٩٩١ من تقسيم الاتحاد السوفيتي والآن حان الوقت لفعل الشيء ذاته مع روسيا، التي يجب تقسيمها إلى مناطق عديدة من شأنها أن تكون في صراع مميت مع بعضها البعض”.
وأضاف بوتين: “لقد ابتكروا هذه الخطط منذ زمن بعيد. لقد شجعوا مجموعات من الإرهابيين الدوليين في القوقاز ونقلوا البنية التحتية الهجومية لحلف شمال الأطلسي بالقرب من حدودنا. لقد استخدموا رهاب روسيا العشوائي كسلاح، بما في ذلك عن طريق تغذية الكراهية ضد الروس لعقود، بشكل واسع في أوكرانيا، والتي أسست لتصبح رأس حربة مناهض لروسيا، بتحويل الشعب الأوكراني إلى وقود للمدافع ودفعوهم إلى حرب مع روسيا، أطلقوا العنان لها في عام ٢٠١٤”.
في مارس ٢٠٠٧، نشرت مجلة The Economist دراسة عن مستقبل الاتحاد الأوروبي بقيادة بريطانيا بعد سيناريو مواجهة أميركية روسية تودي إلى انهيار مالي للولايات المتحدة ومواجهة نووية روسية أميركية بتحريض من الاتحاد الأوروبي بشأن أوكرانيا. كان هذا سيناريو ما قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكن لندن وغيرها من المؤسسات البحثية التي ترعاها بريطانيا كانت تعمل على ابتكار سيناريوهات جديدة للقرن الحادي والعشرين. ففي مايو ٢٠٢٢، قال مالكولم تشالمرز، نائب المدير العام للمعهد الملكي لدراسات الدفاع والأمن في المملكة المتحدة، إن مواجهة الأسلحة النووية الروسية في شبه جزيرة القرم يشبه أزمة صواريخ كوبا في العام ١٩٦٢. وقال تشالمرز، “هذه الحرب لا تزال تمثل مخاطر نووية”. وفي دراسة أخرى، كتب ماثيو كرونيج، الباحث الاستراتيجي في “مجلس الأطلسي”، مؤسسة بحثية مقرها واشنطن، “إن روسيا قد تستخدم السلاح النووي في مرحلة ما، لذ على واشنطن ان تكون مستعدة للردع”.
ما لا يعرفه الغرب ولا باحثوه أن الروس لن يستخدموا السلاح النووي المدمر إلا في حالة واحدة: التهديد الوجودي لوحدة الأراضي الروسية وهنا الحديث يشمل القرم والمقاطعات التي انضمت إلى روسيا مؤخراً في شرق أوكرانيا. وما أعرفه عن العقلية العسكرية الروسية أنهم يعلمون كل العلم أن حرب العراق مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لم تكن لتنتهي بدخول القوات الغربية إلى العراق لولا استخدام قوات الناتو قنابل تكتيكية، وتحديداً في مطار بغداد الذي كان مقبرة للجنود الأجانب، ما استدعى نقل مئات الالاف من الاطنان من الاتربة من منطقة المطار التي تعرضت للهجوم الى الصحراء واستبدالها بأخرى، لا خوفاً على أرواح العراقيين من الإصابة بالأمراض الخطيرة بل على أرواح جنود الناتو الذي استقروا هناك لأعوام.
ووفقا لمصادر روسية، فخطاب بوتين في 21 سبتمبر ٢٠٢٢ عن إعلان التعبئة الجزئية لالتحاق الشباب الروس بالخدمة العسكرية ممن خدموا في القوات المسلحة ولديهم تخصصات مهنية عسكرية محددة لا يقصد منه ضعف الجيش الروسي في مواجهة الغرب أو في مواجهة جيش دولة أخرى، بل هو من أجل رفع مستوى الشباب الروس لمواجهة تحديات الناتو التي تسعى لانتزاع حقوقهم ومكتسباتهم.
بوتين كشف وللمرة الأولى أنه في شهر مارس الماضي، استجابت كييف بشكل إيجابي لمقترحات روسيا في المفاوضات، والتي “تهتم قبل كل شيء بضمان أمن روسيا ومصالحها”. وهذا يعني تخلي أوكرانيا عن تطلعاتها للانضمام إلى الناتو. وتابع بوتين: “لكن من الواضح أن التسوية السلمية لم تكن مناسبة للغرب”، “لقد أُمرت كييف فعليا بتمزيق كل هذه الاتفاقيات”.
وأشار خبراء روس وخبراء عسكريون آخرون إلى أن الهدف الروسي المعلن المتمثل في “نزع السلاح الأوكراني” قد تحقق في الأشهر الأولى من العملية العسكرية الخاصة. لكن التدفق المستمر للأسلحة من دول الناتو خلق حالة معقدة تقاتل فيها القوات الروسية “ليس فقط وحدات النازيين الجدد، ولكن في الواقع الماكينة العسكرية للناتو مجتمعاً”.
فمع عدم كفاية القوات الروسية المنتشرة لتغطية خط أمامي امتد بطول 1000 كم، تخلت روسيا في أوائل سبتمبر ٢٠٢٢، عن بعض المساحات في ظل كثافة عددية (١٠-١) وفي ظل هجمات القوات المسلحة الأوكرانية التي ورد أن القادة الميدانيين الأجانب كانوا يتواجدون فيها بكثافة، في عدة بلدات في شمال شرق خاركوف.
قبل أيام، كان لي لقاء مع سياسيين روس عبر الأنترنت، أبديت فيه رأيي في العملية العسكرية الروسية وما هو متوقع في الشهر القادم من أحداث لأن روسيا تعول كثيراً على قلب الموازين على الأرض الأوكرانية سياسياً وعسكرياَ وشعبياً إضافة إلى قلب الأنظمة الأوروبية التي بدأت تتساقط واحدة تلو الأخرى. ولكن التعويل الرئيس سيكون على تغيير الخطاب السياسية الأميركي في الشهر القادم بعد أن يفوز الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية الأميركية والتي ستحد من صلاحيات الرئيس الأميركي ونشاطات الجيش الأميركي في أوروبا والبحر الأسود. ويقوم الناخبون الأميركيون في ٨ نوفمبر ٢٠٢٢ بتجديد جزء من أعضاء الكونغرس ومجلس النواب وحكام بعض الولايات ومسؤولين محليين.
كاتب اردني