اذا وضعنا التهديدات التركية بغزو سورية، ومناورات الرئيس رجب طيب اردوغان وتهديداته في هذا الصدد جانبا، وركزنا على الجانب الأهم في قمة طهران الثلاثية وهو العلاقات الروسية الإيرانية التي بلغت ذروة قوتها في اللقاء “المغلق” بين الرئيس فلاديمير بوتين ومضيفه السيد علي خامئني، المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، فيمكن القول أننا امام تحالف عسكري وسياسي واقتصادي بين الجانبين بات من الطبيعي ان يثير قلق الغرب، والولايات المتحدة الامريكية على وجه الخصوص، لما يمكن ان يترتب عليه من تغيير في معادلات القوة والنفوذ في منطقتي الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى.
نشرح أكثر ونقول انه لم يكن من قبيل الصدفة ان يجعل الرئيس الروسي من طهران أول عاصمة خارجية يزورها منذ اقتحام قواته لاوكرانيا في شباط (فبراير) الماضي، وتزامن هذه الزيارة مع تصريحات لجيك سوليفان، مستشار الامن القومي الأمريكي، أكد فيها اتفاقا عسكريا بتزويد ايران لروسيا مئات الطائرات المسيرّة، وذهاب وفد من الخبراء العسكريين الإيرانيين الى موسكو لتدريب الكوادر الروسية على كيفية تشغيل هذه الطائرات.
الرئيس الأمريكي جو بايدن أكد اثناء زيارته للسعودية لتزعم قمة جدة مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق، ان بلاده لن تسمح بحدوث فراغ أمني استراتيجي في المنطقة يملأه التحالف الصيني الروسي، وها هو الرئيس بوتين يتخذ خطوة كبرى لملئ هذا الفراغ بعد الانسحاب الأمريكي، بتوثيق علاقاته الاستراتيجية مع طهران على هامش مشاركته في القمة الثلاثية، واللقاءات الثنائية التي عقدها مع القيادتين الروحية (السيد خامنئي) والتنفيذية (الرئيس ابراهيم رئيسي).
هناك مجموعة من الإنجازات الاستراتيجية حققتها زيارة بوتين لطهران على الصعد كافة، تصب في مصلحة توثيق التحالف الجديد:
- الأولى: توسيع منظومة “البريكس” التي تضم روسيا والصين الى جانب الهند وجنوب افريقيا ودول أمريكا اللاتينية بضم ايران القوة الإقليمية الصاعدة اليها.
- الثانية: تقديم ايران طائرات مسيّرة الى روسيا تعوض خسائرها في الحرب الاوكرانية وتعزز قدراتها الهجومية، وبما يؤكد أمرين أساسيين: الأول تقدم الصناعات العسكرية الإيرانية وتطورها، والثاني حسم ايران لموقفها في هذه الحرب بإلقاء كل ثقلها خلف الحليف الاستراتيجي الروسي الجديد، وربما تحصل في المقابل على أسلحة روسية متطورة مثل طائرات “سوخوي”، ومنظومات صواريخ “اس 400”.
- الثالثة: إستفادة روسيا بشكل مباشر من الخبرات الإيرانية التي تمتد لأكثر من 40 عاما في مواجهة العقوبات الاقتصادية الامريكية، ولا نعتقد ان ايران ستبخل على الرئيس بوتين وحكومته بمثل هذه الخبرات بعد ان اصبحا في خندق واحد في مواجهة العدو الأمريكي المشترك.
- الرابعة: تنسيق إيراني روسي كامل في حرب الطاقة الحالية، فروسيا تحتل المرتبة الأولى في انتاج الغاز وصادراته عالميا، تليها ايران، مضافا الى ذلك احتلالها مرتبة متقدمة في انتاج النفط أيضا، حيث تتربع روسيا على المرتبة الثانية (9 ملايين برميل من الصادرات يوميا)، وتحتل ايران مكانة فاعلة ومهمة في منظمة “أوبك”.
- الخامسة: توسيع حجم التبادل التجاري والاستثماري بين البلدين، وتوقيع اتفاقات مهمة لتحقيق هذا الهدف، مثل توقيع شركة النفط الإيرانية الوطنية اتفاقا في تزامن مع هذه القمة بمذكرة تفاهم قيمتها 40 مليار دولار مع نظيرتها الروسية العملاقة “غازبروم” لتطوير حقلي غاز وستة حقول نفط إيرانية.
- السادسة: اشتراك ايران بفاعلية مع النظام المالي الجديد الذي تسعى الصين وروسيا على تأسيسه بحيث يكون بديلا عن نظام “سويفت” الأمريكي، يقوم على أساس وقف التعامل بالدولار، وتكوين سلة عملات جماعية موحدة من العملات المحلية، ورفع التبادل التجاري بين البلدين على قاعدة الدفع بالعملات الوطنية.
من الواضح ان دور الرئيس اردوغان في هذه القمة كان محصورا في الملف السوري فقط، لأنه ما زال يضع رجلا في المحور الروسي الصيني الإيراني، وأخرى في المعسكر الأمريكي، ويلعب على جميع الحبال، ومن غير المعتقد ان تغفر له روسيا بوتين ارساله طائرات “البيرقدار” المسيّرة الى الجيش الاوكراني التي أحدثت خسائر كبيرة في صفوف القوات الروسية المقتحمة لاوكرانيا، واغلاقه مضيقي البوسفور والدردنيل في وجه السفن الحربية الروسية، مضافا الى ذلك تحشيد قواته على الحدود السورية الشمالية والتهديد بشن هجوم موسع وإقامة حاجز آمن على طولها في ارباك متعمد للقيادة الروسية في ذروة انشغالها بالحرب الأوكرانية، ولكن هذا ليس وقت فتح جبهات إضافية.
رسالة المرشد الإيراني الأعلى للرئيس اردوغان اثناء اللقاء المشترك بينهما، كانت واضحة وقوية، وهي ان الخلافات السورية التركية لا يمكن حلها الا بالحوار، وأمن سورية من أمن تركيا، وان قضية فلسطين هي قضية العالم الإسلامي المركزية، ولا يجب الاعتماد على أمريكا و”إسرائيل” في حلها، مما يعني، ان ايران تعارض بقوة أي هجوم تركي على سورية، وكل خطوات التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
لا شك ان تركيا دولة إسلامية عظمى تتمتع بكل أسباب القوة، وامامها خيار مفتوح للخروج من حالة اللاقرار التي تعيشها حاليا، والانضمام الى التحالف الروسي الصيني الإيراني (دول البريكس)، واعتماد الحوار للوصول الى المصالحة مع سورية على أرضية اتفاق “اضنة عام 1998” الذي يوفر الحماية لأمن البلدين، ولكن من الواضح ان للرئيس اردوغان رأي آخر لا نعتقد انه الأكثر صوابا.
زيارة الرئيس بوتين لطهران زيارة تاريخية، وتؤسس للتحالف الثنائي الروسي الإيراني الذي تمخض عنها محورا جديدا قد يكون له الكلمة الأقوى في مستقبل الشرق الأوسط وآسيا الوسطى سلما او حربا، خاصة اذا أشرنا الى انه يأتي استكمالا لتحالف إيراني صيني، ولعل التسريبات التي تتحدث هذه الأيام عن سعي كل من مصر والسعودية، وتركيا بدرجة اقل، للانضمام الى منظومة “بريكس” والتقدم بطلبات الانضمام فعليا، وفتح مصر قنوات حوار مع ايران في مسقط يؤكد ما ذكرناه آنفا.
الرئيس بايدن كان “نعسانا” فعلا عندما تحدث عن قدرة بلاده منع حدوث فراغ استراتيجي في الشرق الاوسط تملؤه روسيا والصين، فقد إمتلأ هذا الفراغ فعلا، وقمة طهران الثلاثية “جبّت” كل ما قبلها بما في ذلك قمة جدة.