في العام 2019، نشرت مؤسسة “RAND” المقربة من وزارة الدفاع الأميركية دراسة خاصة عن عقيدة وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر ومستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبغنيو بريجنسكي، تتلخّص بالخيارات التي ينبغي لواشنطن وحلفائها اتباعها في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، من أجل الضغط على الاقتصاد والقوات المسلحة الروسية والموقف السياسي تحت وطأة الضغوط والألاعيب الغربية لإثارة القلاقل، عبر تزييف الحقائق الإعلامية وفرض وجهة نظر واحدة على العالم لتبنيها.
بُنيت الدراسة على مفهوم المنافسة الاستراتيجية الطويلة المدى التي تم تطويرها خلال الحرب الباردة من خلال عدة سيناريوهات:
الإجراءات الاقتصادية
قد يؤدي توسيع إنتاج الطاقة في الولايات المتحدة إلى إجهاد الاقتصاد الروسي، ما قد يقيد ميزانيتها الحكومية، وبالتالي، إنفاقها الدفاعي. ومن خلال تبني سياسات توسيع العرض العالمي للنفط والغاز، يتم خفض الأسعار العالمية.
وبالضغط على دول “أوبك” لزيادة الإنتاج وإغراق الأسواق العالمية، يمكن للولايات المتحدة أن تحدّ من الإيرادات الروسية حين يصبح سعر البرميل من البترول قليلاً جداً، ما يؤثر في القرارات الاستراتيجية الروسية.
ووفقاً للدراسة، من المرجّح أيضاً أن يؤدّي فرض عقوبات تجارية ومالية على روسيا إلى تدهور اقتصادها، وخصوصاً إذا كانت هذه العقوبات شاملة ومتعددة الأطراف بالتعاون مع الشركاء في أوروبا وعدد من الدول التي تدور في الفلك الأميركي. وبالتالي، إنّ فعالية تلك العقوبات ستعتمد على استعداد البلدان الأخرى للانضمام إلى مثل هذه العملية، لكن العقوبات لها تكاليف ومخاطر كبيرة، بحسب شدتها.
زيادة قدرة أوروبا على استيراد الغاز من موردين بخلاف روسيا، يمكن أن يزيد الضغط على موسكو اقتصادياً، ويحمي أوروبا من الإملاءات الروسية في مجال الطاقة، وفق ما تشير إليه الدراسة الاستخباراتية.
ولكن لكي يكون هذا الخيار فعالاً حقاً، سيحتاج إلى أن تصبح أسواق الغاز الطبيعي المسال العالمية أكثر مرونة مما هي عليه الآن، وسيحتاج إلى أن يصبح الغاز الطبيعي المسال أكثر تنافسية من حيث السعر مع الغاز الروسي.
الإجراءات الجيوسياسية
ترى الدراسة أن تقديم مساعدة بأسلحة قاتلة ومميتة لأوكرانيا من شأنه أن يستغلّ أكبر نقاط الضعف الخارجية لروسيا، لكن أي زيادة في الأسلحة العسكرية الأميركية مع تقديم المشورة لأوكرانيا يجب أن يتم ضبطها بعناية لزيادة التكاليف التي تتحملها روسيا، للحفاظ على التزامها الحالي، من دون إثارة صراع أكبر؛ ففي تلك الحالة، سيكون لروسيا فيه ميزة فضلى.
وتحثّ الدراسة على زيادة الدعم للإرهابيين في سوريا والعراق لممارسة المزيد من الضغط على الجيشين الروسي والسوري معاً. لذلك، لا بد من جس النبض أولاً في بيلاروسيا وغيرها من الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي سابقاً، وهو ما شهدناه في السنوات الأخيرة من إضرابات في مينسك وأستانة وغيرها من الدول التي كانت تحت النفوذ السوفياتي. وبحسب الدراسة، لا بد من الحد من النفوذ الروسي في آسيا الوسطى.
وترسم الدراسة سيناريو شيطنة النظام السياسي الروسي، إضافة إلى الشعب الروسي، على اعتبار أنّه يكره البشرية والعدالة والمساواة، وأن العرق السلافي الروسي يرى نفسه مميزاً، وأنه شعب الله المختار. هذا السيناريو أشبه ما يكون بما وُضع أيام النازية قبيل الحرب العالمية الثانية.
ويريد الغرب أن يركّز على الفساد في روسيا، لكن الخبراء يرون أنَّ من الصعب تقييم ما إذا كانت التقلبات السياسية والاحتجاجات ستؤدي إلى إضعاف روسيا عبر تشجيع الاحتجاجات المحلية وغيرها من أشكال العصيان المدني، لتشتيت انتباه استقرار النظام الروسي أو زعزعته وتقليل احتمال اتخاذه إجراءات خارجية.
إنَّ تقويض صورة روسيا في الخارج سيركّز على تقليص مكانتها ونفوذها، وبالتالي تقويض مزاعم النظام الحالي في موسكو بإعادتها إلى مجدها السابق، فالمزيد من العقوبات، وعزل روسيا من المنتديات الدولية غير التابعة للأمم المتحدة، وإخراجها من الفعاليات العالمية كافة، ومنها الرياضية، مثل كأس العالم، يمكن أن تُنفذ كلها من قبل الدول الغربية، وستضر بمكانة روسيا، لكن من غير المؤكّد إلى أيّ مدى ستضر هذه الخطوات بالاستقرار المحلي الروسي.
وتؤكّد الدّراسة أنَّ إعادة نشر المقاتلين الأجانب، بحيث يكونون أقرب إلى أهدافهم من الحدود الروسية كوسيلة لتحقيق معادلة الرعب، تحمل فرص نجاح غير مؤكدة، لأنها ذات مخاطر عالية، نظراً إلى أنَّ سلاح الجو الروسي هو الأفضل عالمياً، بحيث يصبح هؤلاء هدفاً سهلاً للقوات الروسية.
وترى الدراسة أن نشر أسلحة نووية تكتيكية إضافية في مواقع في أوروبا وآسيا قد يؤدي إلى زيادة قلق روسيا بما يكفي لزيادة الاستثمارات في دفاعاتها الجوية بشكل كبير. كما أن إعادة وضع أنظمة الدفاع الصاروخي البالستية للولايات المتحدة وحلفائها للتعامل بشكل أفضل مع الصواريخ البالستية الروسية من شأنه أن يثير قلق موسكو أيضاً، ولكن من المحتمل أن يكون الخيار الأقل فاعلية، لأن روسيا يمكنها بسهولة القضاء على ميزة حلف الناتو من حيث المخزون الاستراتيجي للصواريخ.
ومن المحتمل أن يكون لزيادة القوات الأميركية في أوروبا، وخصوصاً أوكرانيا وما جاورها، وزيادة القدرات البرية لأعضاء الناتو الأوروبيين، ونشر عدد كبير من تلك القوات على الحدود الروسية، تأثيرات محدودة في روسيا.
كما أنّ عمليات الانتشار الواسعة النطاق على حدود روسيا ستزيد خطر نشوب صراع معها، ولا سيّما إذا نُظر إليها على أنها تحدٍ لموقف القيادة الروسية في شرق أوكرانيا أو بيلاروسيا أو القوقاز.
باختصار، إنّ الأحادية القطبية التي سهلت توسع الناتو باتجاه الشرق وهدّدت روسيا، أدت أيضاً إلى حدوث أزمة مضيق تايوان في 1995-1996. وبعد أن أطلقت الصين صواريخ على المضيق، أرسلت الولايات المتحدة مجموعتين قتاليتين من حاملات الطائرات من الأسطول السابع؛ إحداهما كانت بقيادة “يو إس إس نيميتز”، عبر مضيق تايوان، ما أجبر الصين على التراجع.
وبحلول العام 1996، شكَّلت روسيا والصين شراكة استراتيجية أدت إلى “الإعلان المشترك حول التعددية القطبية وتشكيل نظام عالمي جديد” خلال قمة موسكو في العام 1997. وبعد فترة وجيزة من اتفاقية الشراكة الاستراتيجية للعام 1996، سافر قادة البلدين إلى شنغهاي للقاء قادة قيرغيزستان وطاجيكستان وكازاخستان، وتشكَّل تحالفٌ فضفاض أطلق عليه اسم “شنغهاي -5 “، تطور في النهاية إلى منظمة شنغهاي للتعاون. وفي العام 2001، قامت روسيا والصين بإضفاء الطابع الرسمي على شراكتهما الاستراتيجية ضد الأحادية الأميركية من خلال معاهدة حسن الجوار والتعاون الودي.
مع ذلك، ومع صعود الصين، أصبحت العلاقة الصينية الروسية غير متكافئة بشكل متزايد. وفقاً للبنك الدولي، بلغ الناتج المحلي الإجمالي الإسمي للصين 427 مليار دولار في العام 1992، أي أقل قليلاً من روسيا، إذ بلغ الناتج المحلي الإسمي 460 مليار دولار. ومع ذلك، بحلول العام 2021، كان الناتج المحلي الإجمالي للصين يبلغ 16.8 تريليون دولار، أي أكثر من 10 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لروسيا البالغ 1.6 تريليون دولار.
إنَّ قيود ميزان القوى الهيكلي التي تفرضها الولايات المتحدة على كلٍّ من روسيا والصين تبقيهما معاً في تقدمهما نحو عالم متعدد الأقطاب. وعلى الرغم من أنَّ احتمال مشروع الناتو في منطقة المحيطين الهندي والهادئ يمثل مشكلة لبكين، فإنه يخلق أيضاً نقطة تقارب إضافية في العلاقات الصينية الروسية.
وما دامت روسيا قادرة على إبقاء قدرات الناتو مستثمرة في أوروبا، فإنها ستخلق بيئة استراتيجية مؤاتية للصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبالمثل، ترى روسيا أن الولايات المتحدة تشعر بشكل متزايد بالحاجة إلى “تصعيد لعبتها” في المحيطين الهندي والهادئ بسبب التهديد المستمر بـ”مفاجأة استراتيجية” من الصين، إذ إن الوقت حان للضغط من أجل ضمانات أمنية تجاه الناتو.
إنَّ ظهور نظام عالمي متعدد الأقطاب يعني أنَّ الولايات المتحدة ستحتاج إلى إعطاء الأولوية لتوازن قوى ملائم في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على تنافسها مع روسيا في أوروبا الشرقية. وفي التنافس الثنائي القطب في الحرب الباردة، كانت جهود الولايات المتحدة في الاحتواء السوفياتي ناجحة بسبب عدم وجود منافس نظير في المحيطين الهندي والهادئ.
أما اليوم، فقد اختلف الوضع، وبات الناتو يرى أن التهديد قائم من روسيا التي تعتبرها الصين بمثابة حصن منيع أمام الغرب؛ فقوة الصين الاقتصادية لا يمكن أن تحميها من ويل الناتو إن استفرد بها الغرب في حرب لم تكتفِ بالتضليل الإعلامي وتزييف كلّ ما هو حقيقي، بل تقوم تلك القوى “الديمقراطية” و”العالم الحر” بنقل الإرهابيين من دول الشرق الأوسط إلى نقاط التماس مع أعداء الناتو، فهم يريدون أن يحاربوا روسيا حتى آخر روسي، وأن يحاربوا المسلمين حتى آخر مسلم لا متأسلم، والصينيين حتى آخر صيني.
وفي الختام، ستنتصر روسيا، وسترسم معها العالم الجديد سياسياً واقتصادياً، شاء من شاء، وأبى من أبى.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.