حسين مجدوبي
تتفاقم الأزمة الأوكرانية بين الغرب وروسيا، وتستمر القراءات والتأويلات وأغلبها تلك الصادرة عن مؤسسات أوروبية وأمريكية مهيمنة على الرأي العام العالمي، بسبب قوة الإعلام الغربي، غير أن هناك واقعا أقرب إلى الحقيقة، آخذاً في التبلور وهو، إصرار قيادة موسكو بتنسيق مع الصين على فرض مبادئ جديدة في العلاقات الدولية، مفادها لا لتغيير الخرائط الجيوسياسية، وإن اقتضى الأمر بالقوة.
وتستمر الأزمة الأوكرانية في لفت انتباه العالم، نظرا لانعكاساتها الخطيرة على الأمن والاستقرار العالميين، في حالة وقوع حرب مفتوحة ليس بين روسيا وأوكرانيا فحسب، بل ستتطور إلى مواجهة بين الغرب، وروسيا بدعم من الصين. ويقدم الغرب “التحرش الروسي” بأوكرانيا ضمن إطار سياسة الاتحاد السوفييتي السابقة، أي التحرش بحرية أوكرانيا لمنعها من العيش في “العالم الحر”، الذي يفترض أن الغرب هو الذي يمثله: لاسيما وأن السبب الرئيسي لتفجير هذه الأزمة كان مع قرار أوكرانيا التوقيع على معاهدة تجارية مع الاتحاد الأوروبي، وهي المعاهدة، التي كانت تمهد لانخراط هذا البلد في منظمة شمال الحلف الأطلسي ولاحقا في الاتحاد الأوروبي. وتطبق روسيا بدعم من الصين سياسة ترمي إلى ترسيخ مبادئ جديدة تهم أمنها القومي وأمن عدد من المناطق التي تعتبرها ضرورية لأمنها، لمنع حدوث تغييرات في الخريطة الجيوسياسية العالمية. نجحت روسيا من خلال الأزمة الأوكرانية في إرسال رسالة واضحة إلى الغرب مفادها لن يحصل أي تغيير في الجوار الروسي، ومناطق نفوذ روسيا من دون اتفاق مسبق. وتهدف روسيا من خلال الأزمة الأوكرانية إلى تحقيق أهداف استراتيجية عميقة تتجلى في:
المقام الأول، منع أوكرانيا لسنوات طويلة من التفكير في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو الانخراط في منظمة شمال الحلف الأطلسي. وهي تركز على إقناع الرأي العام الأوكراني، بأن مصلحته تكمن في بقائه بعيدا عن هذا الحلف، وبالتالي عدم الرهان على الحركات الوطنية القومية المتطرفة التي تميل إلى الغرب. وهي بذلك تكرر السيناريو، الذي نجحت فيه مع بعض الدول مثل فنلندا. فعلى الرغم من انتماء هذا البلد إلى الاتحاد الأوروبي، الذي يشكل جزءا من الغرب، لم تتجرأ الطبقة السياسية الفنلندية على الانخراط في الحلف الأطلسي، ويعارض الرأي العام أي عملية انخراط لعواقبه الوخيمة. ويتكرر هذا مع السويد، الدولة غير العضو في الحلف الأطلسي.
في المقام الثاني، يرغب الكرملين بزعامة فلاديمير بوتين تصحيح خلل وقع إبان تفكك الاتحاد السوفييتي، حيث امتد الحلف الأطلسي إلى الدول التي كانت تدور في فلك حلف وارسو الشيوعي. ورغب الكرملين في جعل الدول الجديدة في الحلف تدفع فاتورة عدم الاستقرار مستقبلا، وبالتالي عليها الرهان على سياسة فنلندا والسويد والنمسا، بالتفكير في الانسحاب مستقبلا من الحلف وعدم احتضان قواعد عسكرية.
نجحت روسيا في إرسال رسالة واضحة إلى الغرب مفادها، لن يحصل أي تغيير في الجوار الروسي، ومناطق نفوذ روسيا من دون اتفاق مسبق
في المقام الثالث، يهدف الكرملين إلى إعادة بناء هيبة الاتحاد السوفييتي عبر إقامة سياج أمني يتضمن فاصلا من الدول بينه وبين النسخة الأولى من الحلف الأطلسي، أي دول أوروبا الغربية. وتعتبر موسكو هذا السياج من ضمن الأسس الرئيسية لفرض السلام في العالم.
وارتباطا بالنقطة الثانية والثالثة، أصبحت الدول الجديدة في الحلف الأطلسي، دول أوروبا الشرقية، تدرك استحالة دفاع الحلف الأطلسي عنها، على الرغم من وجود بعض المئات أو الآلاف من الجنود من دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة. فإذا هاجمت روسيا غدا إحدى دول البلطيق أو بلغاريا، لن يهرع الحلف الأطلسي إلى الدفاع عنها، بل سيقتصر الأمر على تمويلها بالسلاح وفرض عقوبات اقتصادية على موسكو. وهناك أطروحة لا يكشف عنها الغربيون وهي، أن الحلف الأطلسي مستعد للدفاع فقط عن الدول الأوروبية الغربية مثل ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، أي النواة التاريخية للغرب، سواء على المستوى العسكري أو التجاري أو الثقافي. في هذا الصدد، تبقى أخبار مثل إرسال جنود بريطانيين أو فرنسيين أو أمريكيين إلى دول أوروبا الشرقية لحمايتها من موسكو، هو كلام للاستهلاك، لأن بضعة آلاف لن يصمدوا ولو يوما واحدا في وجه الآلة العسكرية الروسية. ومن جانب آخر، تبعث موسكو برسائل ما بين مشفرة وواضحة إلى الغرب، وأساسا الولايات المتحدة بضرورة إعادة النظر في سياستها العسكرية تجاه روسيا، وأهمها قرار تعزيز الوجود العسكري في البلطيق مسنودة بالجيب الروسي كالينينغراد الواقع بين لتوانيا وبولونيا وقبالة السويد. علاوة على الرفع من تمارين عسكرية، لا تصل إلى مستوى المناورات بالقرب من شواطئ أوروبا مثل فرنسا وإسبانيا، عندما تمر سفن حربية وتبقى راسية في المياه الدولية قبالة قواعد عسكرية غربية أو مرور مقنبلات استراتيجية مثل تو 160 في محاذاة سواحل هذه الدول، ويضاف إلى كل هذا نقل جزء من الضغط إلى القارة الأمريكية عبر التهديد بنقل أسلحة وإقامة قواعد عسكرية في كوبا وفنزويلا. لقد برهنت روسيا على عقيدتها العسكرية المتمثلة في دعم الحلفاء، ولو اقتضى الأمر استعمال السلاح النووي، وهو ما أكد عليه فلاديمير بوتين في خطابه الشهير، بداية مارس/آذار عام 2018، ثم معارضة تغيير الخرائط الجيوسياسية. وفي هذا الصدد، لم تتردد في التدخل في سوريا للحفاظ على الشريك والحليف الدمشقي، ولم تتردد في تمويل إيران سرا، بأهم المضادات الصاروخية ضد الصواريخ والطائرات المقاتلة، لجعل أي حرب أمريكية ضد هذا البلد غير مضمونة الانتصار، بل قد تتكبد خسائر مرعبة. وقامت موسكو بضم شبه جزيرة القرم بالقوة ثم التهديد بغزو أوكرانيا في الوقت الراهن، ليؤكد بوتين للعالم “موسكو ستفرض واقعا بالحرب أو المفاوضات في أوكرانيا، وملفات أخرى حماية لأمنها القومي ومكانتها المستقبلة في الخريطة الدولية”.
لقد أصبح بوتين بارعا في تحريك رقعة الشطرنج الدولية، وهو تحرك يرمي إلى البقاء على الخرائط الجيوسياسية، من دون تغيير، وكذلك تصحيح الخلل الذي وقع في الماضي، استغلال الغرب لحالة ضعف روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي.