هل بالغت حزمة الإنعاش التي قدمها بايدن وأقرّها الكونغرس في تحفيز الاقتصاد ما أدى إلى خلق مشكلة تضخم خطيرة؟
هدف الجمهوريين استثمار قلق الأمريكيين من ارتفاع الأسعار، خاصة بمحال البقالة وأسعار البنزين، في الانتخابات النصفية القادمة.
المثير أن الطلب الذي يحفز عادة التضخم، قد تأثر بالأشهر الماضية بإجراءات كابحة له، كان من المفترض أن تكبح التضخم بدورها.
هل يتعين على البنك المركزي الأمريكي رفع أسعار الفائدة لإبطاء الاقتصاد وأن موقف الانتظار والترقب غير مسؤول وسيؤدي إلى مزيد من التضخم؟
من الإجحاف إلقاء اللوم على مؤشر حزمة الإنعاش باعتباره السبب الوحيد لارتفاع التضخم. فقد بلغ التضخم في بريطانيا 4.2% رغم عدم وجود حزمة إنعاش.
يوماً بعد يوم، يتحول التضخم إلى أحد عناوين التنازع في أمريكا بين رؤيتين سياسيتين اقتصاديتين متضادتين: بين رؤية الجناح القوي داخل الحزب الديمقراطي الذي يدعو لإعادة البناء (بيريسترويكا أمريكية)، من خلال حزمتي تحفيز مالي ضخمتين:
– الأولى وافق عليها مجلس الشيوخ، يوم الثلاثاء 10 أغسطس/ آب 2021، تحت مسمى مشروع قانون البنية التحتية، وقيمتها تريليون دولار، وتستهدف إعادة بناء الطرق والجسور المتدهورة في البلاد، وتمويل مبادرات المرونة المناخية والنطاق العريض الجديد للإنترنت؛
– الثانية مرّرها مجلس النواب باسم قانون الإنفاق الاجتماعي والمناخ، بكلفة إجمالية تبلغ تريليوني دولار، انخفاضاً من 3.5 تريليون دولار كان طلبها الرئيس بايدن، وهي بانتظار موافقة مجلس الشيوخ عليه..
وبين رؤية الحزب الجمهوري، والقوى المحافظة عموماً، التي تحمّل الديمقراطيين وزعيمهم الرئيس بايدن، وحزم التحفيز التي يصرون على تمريرها، مسؤولية وصول التضخم إلى 6.4% في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2021 (بحسب مؤشر أسعار المستهلك ارتفع إلى 6.8% في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي).
هدف الجمهوريين هو استثمار قلق الأمريكيين من ارتفاع الأسعار، خاصة في محال البقالة وأسعار البنزين، في الانتخابات النصفية القادمة.
ويقول المدافعون عن حزم التحفيز هذه، ومنهم اقتصاديون كبار، إن أولئك الذين يلقون باللوم على الرئيس بايدن في ارتفاع التضخم، لا يذكرون أيضاً أن الأجور أصبحت في الأشهر الثلاثة الماضية أكثر مما كانت عليه في العشرين عاماً الماضية، وأن ملايين الأمريكيين عادوا إلى أعمالهم نتيجة لسياسات إدارته.
ويتجاهلون الفوائد التي تحصلت عليها الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط من الإعفاء الضريبي للأطفال، كما أنهم لا يقاربون الحقيقة وهي أن الشركات الكبرى ورؤساءها التنفيذيين الأثرياء يستغلون المستهلكين.
لكن في المقابل، هناك في الطرف الآخر، رموز كبار يواصلون توجيه سهامهم لحزم تحفيز بايدن، وتحميلها مسؤولية التضخم.
فكتب لاري سمرز، وهو اقتصادي أمريكي كان شغل منصب وزير الخزانة في الفترة من 1999 إلى 2001، ومنصب رئيس المجلس الاقتصادي الاستشاري في إدارة باراك أوباما من 2009 إلى 2010، مقالاً في واشنطن بوست في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021. وفي اليوم التالي، 18 نوفمبر، كتب ستيفن راتنر، وهو مدير أصول استثمارية في نيويورك كان عمل مستشارا للرئيس أوباما، عموداً في نيويورك تايمز.
أكد الرجلان أن سبب وصول التضخم إلى 6.4%، هو حزمة الإنعاش الأمريكية التي قدمها بايدن، وأقرّها الكونغرس في فبراير/ شباط الماضي، والتي بالغت في تحفيز الاقتصاد، ما أدى إلى خلق مشكلة خطيرة مع التضخم.
لذلك، يتعين– كما قالا– على مجلس الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة لإبطاء الاقتصاد، معتبرين أن موقف الانتظار والترقب غير مسؤول وسيؤدي إلى مزيد من التضخم.
ويرد المعسكر الآخر بالقول، إن حزمة الإنعاش الأمريكية قد أعطت فعلاً دفعة كبيرة للتعافي، وهو ما ظهرت نتائجه في انخفاض معدل البطالة إلى 4.6%، وهو المستوى الذي لم تحققه البلاد بعد الكساد العظيم إلا في فبراير/ شباط 2017، أي بعد أكثر من تسع سنوات من بدء الركود.
كما أن من الإجحاف إلقاء اللوم على مؤشر حزمة الإنعاش باعتباره السبب الوحيد لارتفاع التضخم. فقد بلغ التضخم في بريطانيا 4.2%، رغم عدم وجود حزمة إنعاش.
المثير أن الطلب الذي يحفز عادة التضخم، قد تأثر في الأشهر الماضية بإجراءات كابحة له، كان من المفترض أن تكبح التضخم بدورها. فقد تم في سبتمبر/ أيلول الماضي إنهاء العمل ببرامج التأمين ضد البطالة إبان الجائحة، ومعها الإعانات الأسبوعية بواقع 300 دولار للعاطل.
وكان يتلقى هذه المخصصات نحو 12 مليون شخص، قُدرت كلفتها بنحو 280 مليار دولار. إضافة إلى مخصصات أخرى تتعلق بقروض الطلبة وبأصحاب المساكن، جرى وقفها في سبتمبر الماضي.
والحال، أن التضخم تسلل إلى معظم بلدان العالم تقريباً، منذ بدء اضطراب سلسلة التوريد التي شملت المواد والمدخلات الصناعية وموانئ الشحن، بسبب اندلاع جائحة كورونا. حيث يستشعر المستهلكون في جميع أنحاء العالم ارتفاعاً ملحوظاً في أسعار السلع والخدمات، وهذا يشمل قوائم الطعام والمنتجات الغذائية، وأسعار البنزين، والإيجارات والإلكترونيات وألعاب الأطفال.
وكل شيء تقريباً تأثر بارتفاع تكاليف الشحن، ونفاد المخزونات السلعية بسبب الإغلاقات، الكلية أو الجزئية، وكذلك بسبب جشع التجار واستغلالهم للظروف الاستثنائية؛ ما حوّل التضخم إلى ظاهرة عالمية.
لكن التضخم يبقى قضية سياسية في الولايات المتحدة، وخارجها أيضاً. فالبنوك المركزية تمتنع حتى الآن عن استخدام بعض أدواتها، مثل رفع أسعار الفائدة، للحد من التضخم، مخافة أن يؤدي ذلك إلى إضعاف الانتعاش الاقتصادي، والتأثير سلبياً في الحظوظ الانتخابية.
إنما، كلما طال التضخم، كلما تعين على البنوك المركزية أن تتحرك بسرعة. ولكنها لا تستطيع الآن فعل ذلك قبالة قوة ونفوذ الشركات والبنوك الكبرى التي تشيع بأن كبح النمو سيؤدي لإحداث اضطرابات في الأسواق المالية، وقد ينتقل ذلك إلى الأسواق الناشئة والاقتصادات الأقل نمواً، ما سيتسبب بمزيد من الاضطراب بينما يحاول العالم التعافي من الوباء.
* د. محمد الصياد كاتب بحريني