المهندس سليم البطاينة
أدى تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية في دول العالم الثالث إلى دفع العلماء والباحثين إلى دراسة الدور ما فوق العسكري للجيش ، وتحليل الظاهرة العسكرية التي تجاوز تأثيرها البنية المحلية والإقليمية .. حيث تُعد جدلية العسكر والسياسة في الوطن العربي بشكل خاص إحدى أبرز المشاكل الكبرى.
فالعسكراتية كانت في دول العالم الثالث ولا زالت وراء تدهور الديموقراطيات المدنية.
وبإعتقادي حان الوقت لتسليط مزيد من الضوء على أدوار المؤسسات العسكرية في الوطن العربي ، وإعادة قراءة تلك الأدوار من جديد .. فهناك الكثير من الأسئلة التي لم تعد محرجة خصوصاً في سياق العلاقة بين العسكر والسياسة.
ففي خمسينات وستينات القرن الماضي لعبت المؤسسات العسكرية العربية أخطر الأدوار في الحركة السياسية الرسمية ، إذ كانت الإنقلابات العسكرية على الحكومات المدنية ظاهرة متكررة في أغلب البلاد العربية.
ومع نهاية ثمانينات القرن الماضي شهدت الساحة السياسية الدولية ثلاثة أحداث تاريخية غيرت من مجرى الأمور كالموجة الديموقراطية الثالثة وانهيار المعسكر الشرقي ونهاية الحرب الباردة ، وكل تلك الأحداث المترابطة غيرت جذرياً السياسات الداخلية لدول كثيرة ، مما جعل العلاقة بين السلطة السياسية والجيش تعود للواجهة مجدداً.
ويرجع التأكيد على عدم مشاركة العسكر أو تدخلهم في السياسة لعدة أسباب : منها قلة خبرتهم في هذا الشأن.
فتدخل المؤسسة العسكرية في العمل السياسي يُضعفها من جانب ، ويضعف ويُكلس الحياة السياسية ويفسدُها من جانب آخر ، ويكمم الأفواه ، ويتم توجيه القرار السياسي بناء على إرادة قادة العسكر .. فالدور الطبيعي للعسكر وقادتهم هو بالدرجة الأولى إهتمامهم بالمهام المنوطة بهم للحفاظ على الدولة وصيانتها من أي إعتداء خارجي .. فالجيش يجب أن يكون مستقلاً عن السلطة السياسية ، وإذا ما تدخل في السياسة فلا يُنتظر منه أن يخرجَ منها .. فالتاريخ يقول والشواهد كثيرة إذا ما تدخل الجيش في الشؤون السياسية يصبح من العسير جداً إرغامه على التخلي عن هذا الدور ، ولن يقبل بتسيبج دوره داخل حدود مرسومة.
وإذا كان لنا من رؤية في ذلك فإننا نُلخّصُها أنه لا سياسة في العسكرية ولا عسكرية في السياسة ، والرهان هنا على النُخب ورجال الدولة لا على الثكنات .. فالجيش يجب ألا يتجاوز مجال عمل حدود ثكناته .. فهو لا يستطيع أي كان أن يقوم بدور ليس له أصلاً ، وإن حاول فإنه لن يتقن الدور الجديد ، كما أن كفائته في دوره الأصلي ستُضعِفه بشكل كبير.
نسوق هذا الكلام في ظل ظروف غامضة تُحيط بنا .. فالعمل السياسي المدني هو أسلوب من أساليب إدارة شؤون الدولة يتطلب في كثير من الأحيان المناورة والتكتل مع بعض الأحزاب ضد أحزاب أخرى ، وهذا يتنافى مع طبيعة وتفكير العسكر .. فتدخّلهم وإبداء رأيهم في أي صراع سياسي سيكون خطراً على الدولة والمجتمع.
وهنا أُقدم ما طرحه العالم السياسي والقاضي الإنجليزي Samuel Vagner حول دور الجيش في السياسة وارتكازه على عدة مبادىء أساسية وهي خضوعه للسلطة المدنية الديموقراطية والولاء للدولة ، والإلتزام بالحياد السياسي .. وأشار أن دور الجيش مرتبط بالثقافة السياسية للمجتمع ، ولا بد من تحديد مجال تحركه القانوني خارج ثكناته في الفضاء العام ، وتقنين أدواره الدستورية داخل الدولة والمجتمع ، وأن لا يمارس إلا المهام المقررة له دستورياً.
وكل من زار أوروبا يستغرب وكأن تلك الدول ليس لها جيوش أو عسكر .. فالسياسة عندهم يصنعها المدنيين ويديرها السياسيين .. ومع ذلك نراها دولاً قوية يهابها القوي قبل الضعيف.
وبعد كل تلك الطروحات لدي سؤال : هل يمكن للشعوب العربية أن تُحكم من دون عسكرها ؟ والجواب هو نعم فالإنتقال الديموقراطي يبدأ بإعادة التوازن داخل بنية الدولة وبين القوى السياسية والمجتمعية ، وإعادة الجيوش إلى دورهم الطبيعي بعيداً عن المشاركة في السياسة.
فقبل سنوات تم الكشف في الولايات المتحدة الأمريكية عن بعضٍ من الأبحاث السرية التي تؤكد أن حكم العسكر هو ثمرة نظرية أمريكية مكتوبة تقول أن العالم العربي متخلّف إلى حد أن الديموقراطية فيه فاشلة تماماً .. فعندما يحكم العسكر تسود ثقافة البقاء للأقوى وتكون هناك مؤسسات عسكرية بسلطات واسعة وسياسيين بمهام استشارية غير ملزِمة ، وكل ذلك على على حساب ثقافة المساواة والعدالة وحقوق المواطنة.
وهذا ما اعترف به الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في أذار ٢٠١٦ ، خلال زيارة رسمية للأرجنتين بأن أمريكا تورطت في دعم الإنقلاب الذي قاده قادة الجيش في الأرجنتين عام ١٩٧٦.
والمثير للضحك أنه بعد تلك الزيارة بأسابيع قليلة تمت الإطاحة بالرئيسة البرازيلية ( ديلما روسيف ) بإنقلاب ناعم بدعم أمريكي.