لا يوجد رابط ملموس أو يمكن تسييسه أو حتى فهمه بين عودة النائب عبد الكريم الدغمي رئيساً لمجلس النواب الأردني وبين ظهور وزير البلاط الأسبق الدكتور مروان المعشر مجدداً وبعد غياب سنوات طويلة على طاولة الحوارات الملكية.
كلاهما، ونقصد الدغمي والمعشر، ولسببين مختلفين غاب عن المشهد لأكثر من 10 سنوات، وهما لا يلتقيان أبداً ولم يلتقيا سابقاً كنموذجين سياسيين لا في الشخصي ولا في السياسي ولا حتى في الفكر أو في مسار الاتجاه والبوصلة.
ينتمي المعشر لمدرسة سياسية مختلفة في الشكل والمضمون عن تلك التي يمثلها في سياق موقعه وسط المراوحة بين المحافظين وغيرهم النائب الدغمي. وينتمي الأخير لمدرسة سياسية لا تقف عند حدود التباين مع الليبراليين والإصلاحيين لكنها تصارعهم أحياناً.
في كل حال، الأهم أنه ثمة ظرف في المشهد الداخلي الأردني ورغم وجود فوارق كبيرة جداً عاد بالرجلين إلى المشهد وبطريقة تناسب أو تحاكي كلاً منهما على حدة، فالدغمي مكنته الظروف ومقتضيات احتياجات وثيقة تحديث المنظومة السياسية للبلاد من العودة رئيساً لمجلس النواب. والمعشر رصد في أكثر من موقع يشتبك مع تفاصيل وثيقة المنظومة، محفزاً أولاً ومسانداً ثانياً وبشراسة دوماً، فيما ظهر لأول مرة منذ سنوات طويلة بعد غياب ضمن تلك النخب التي يتشاور معها القصر الملكي وبعد إيحاءات سابقة بقي فيها المعشر ناصحاً عن بعد ضمن مقاربة الإصلاح بوصفة وطنية ذاتية، مفضلاً في الوقت نفسه البقاء بعيداً وفي عزلة عن اللجنة الملكية لتحديث المنظومة حتى بصفته رئيساً سابقاً وموثوقاً للجنة الأجندة الوطنية الشهيرة التي وضعت وثيقتها في المتحف وعلاها الغبار لسنوات.
طبيعي أن يسأل المقربون من المعشر: ما الذي سيتغير فعلاً في مسألة الإصلاح السياسي؟ وطبيعي أن يجتهد بعض المعارضين الشرسين لوصفة تحديث المنظومة السياسية للدولة عن بصمة ما للدغمي تحديداً قبل غيره في الحد من جموح وجنوح تلك الوظيفة عبر موقعه البرلماني الجديد، مع أن الفرضية السياسية التي عاد بوجبها الرجل لسدة رئاسة سلطة التشريع هي تلك التي تربط الأمور بمعطيات اشتباك وعبور آمن لوصفة تحديث المنظومة.
ليس مبكراً القول بأن الأوساط الإصلاحية والليبرالية وحتى الإسلامية المعارضة لا ترى في عودة الدغمي للرئاسة خطوة تشجيعية وتحفيزية لصالح تحديث المنظومة السياسية. وطبيعي في المقابل، أن يرى المتحمسون للدغمي بأن المرحلة تحتاج لفرامل ومكابح سيتولاها البرلماني المخضرم وخبير الاشتباك لمدة 30 عاماً. هل تعني تلك الرسائل المشوشة في الإيقاع النخبوي العام شيئاً محدداً؟
سؤال صعب ومتدرج، لكن الإجابة عليه مرهونة في الأسابيع القليلة المقبلة وفي الانطباع المتشكل وسط السياسيين والمراقبين بأن المسألة لا تتعلق فقط بتحديث بعض التشريعات بقدر ما تتعلق بما هو أهم وأعمق وأبعد، وسيرصده الجميع لاحقاً. التشويش هنا قد يكون مقصوداً لذاته، بل نتج أصلاً عن عملية مدروسة ومنهجية تقول ضمنياً بأن الدولة الأردنية العميقة وتلك التي على السطح تنظران للمرحلة بصفة استثنائية تتطلب اللعب بجميع الأوراق، والتأسيس لحالة توافق ما حتى بين الأضداد والمتناقضين، بمعنى أن التشويش ليس مقصوداً بذاته، بل نتيجة لرغبة مركز القرار في العودة إلى صيغة عمل جميع المكونات بعضها مع بعض، والحرص على وقف شعور لاعبين أساسيين في المشهد السياسي بأنهم قيد الإقصاء والتهميش.
ويمكن فهم معطيات الاشتباك هنا من البصمة المهمة بتوقيع رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي، ضمن معركة «تحديث المنظومة السياسية» في الدولة، وهي بصمة كانت أساسية، مؤخراً وعلى الأرجح ستبقى بعدما سمعت «القدس العربي» الرفاعي يؤكد على دور مجلس الأعيان والحكومة في «الدفاع» عن خيارات تحديث المنظومة وتسويقها تحت قبة البرلمان.
تلك مغامرة لا بل مخاطرة سياسية، برأي العديد من رموز العمق الديمقراطي والإصلاحي، لكنها ضرورية للعبور بوثيقة المنظومة بأدنى حد من المخاسر، في رأي وتقدير حتى أطقم المطابخ الموجودة في دوائر صناعة القرار.
قد تكون تلك المترادفات عشوائية وناتجة عن الارتجال والعمل بنظام التقسيط اليومي في إدارة الملف السياسي، لكنها قد تكون في المقابل تعبيراً عن صناعة مشهد جديد وبشكل مدروس.
في كل حال، وبصرف النظر عن تلك التراتبية في مسار الأحداث، يمكن القول بأن المستجدات النخبوية الأردنية أكبر بكثير من أي محاولة لعدم رصدها والوقوف عندها، فخبير مخضرم وإصلاحي منسجم مع نفسه وخطابه مثل الدكتور مروان المعشر، يناور وينصح أحياناً ودون تواصل حقيقي معه يتميز بالديمومة. ورجل دولة ديناميكي مثل الرفاعي، يغادر موقعه التقليدي في السياسة ويمتدح أداء الإخوان المسلمين، ويتبنى في المجالس والنقاشات التحول نحو الأحزاب السياسية. وفي الأثناء، يعود الدغمي من الماضي القريب ليصبح شريكاً دستورياً في مرحلة حساسة.
تلك مناقلات وتبدلات وتموقعات من الصعب إنكار أهميتها، وتعني الكثير سياسياً على الأرجح، وسيعقبها بالتأكيد قريباً أشارات وترميزات هندسية ونخبوية تكمل النصاب وتعني الاسترسال في التحضير لبناء مشهد جديد أو مشروع ما قادر على ضرب عصفورين مهمين بحجر وطني واحد، هما احتواء الداخل أولاً، وتقديم نموذج للخارج والدولي ثانياً، والبقية ستأتي.