في وقت بدت فيه سيطرة الولايات المتحدة مطبقة على أفغانستان، فإن ذلك لم يمنع مفكراً مثل جورج فريدمان من الإعلان سنة 2009 في كتابه الشهير «المئة عام القادمة» عن أن الأمريكيين لم يكن هدفهم تحقيق النصر عند غزوهم أفغانستان، وأنهم لا يمتلكون تعريفاً لمعنى الانتصار في هذه الحرب، والهدف الحقيقي من وجودهم كان تشويش العالم الإسلامي، والحيلولة دون قيام إمبراطورية إسلامية. ولا يعني فريدمان بالإمبراطورية الجانب الحضاري، بقدر ما كان يعني وقف التهديد الفعلي للأمريكيين من قبل الجماعات الإسلامية.
في هذا السياق يمكن تفهم الرحيل الأمريكي عن أفغانستان، ويمكن التنبؤ بمصير البلاد، في ظل الفهم الأمريكي للوقائع الجارية من حولها، بل يمكن أيضاً أن نتوقع مسارات جديدة ومختلفة لمجمل الاستراتيجية الأمريكية في منطقة وسط آسيا.
بدايةً، أتى الخروج الأمريكي بناء على اتفاق مع طالبان، أي أن واشنطن قبلت أساساً بوجود طالبان في نسخة جديدة، وأنها قدمت تنازلات وحصلت على أخرى، والأمريكيون لا يبدون اهتماماً كبيراً بمستقبل الشعب الأفغاني، فالحديث عن حقوق الإنسان وما إلى ذلك، مجرد كلشيهات لا تقدم ولا تؤخر في علاقة الأمريكيين مع أي دولة، وبما أن طالبان حصلت على الشعب الأفغاني، وأعادته إلى وصايتها، فإن التنازلات من طالبان ستتعلق بجوارها، وبما يمكن أن تشكله أفغانستان من أعباء على الآخرين.
تتاخم أفغانستان من الشمال ثلاث جمهوريات سوفييتية سابقة، طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان، وجميعها تحتفظ بعلاقات جيدة مع الأمريكيين، وللطاجيك والأوزبك وجود عرقي في أفغانستان، يصل إلى قرابة نصف الشعب الأفغاني، وتشكل هذه الدول نطاق الحراسة التي ستفرضها الولايات المتحدة على سلوك طالبان مستقبلاً، أي أن واشنطن تمتلك بصورة مباشرة المفاتيح اللازمة لإشعال حرب أهلية في أفغانستان في أي وقت، وإن كانت المعطيات الحالية بعد صدها لأحمد نجل القائد الأفغاني ـ الطاجيكي أحمد شاه مسعود تؤشر إلى استبعاد ذلك الخيار إلى أجل غير مسمى. في شرق أفغانستان تماس مع الصين يمكن أن يعتبر خياراً لإثارة قلق الصينيين من توفير التدريب والملاذ لمسلمي الإيغور، على الرغم من وعورة الطرقات وضيقها، إلا أن ذلك يلقي أيضاً عبئا استخباراتياً على باكستان، التي اقتربت من الصين مؤخراً بأكثر مما تتقبله أمريكا، وستكون باكستان تحت ضغط دائم، وفي وضعية المساومة والإرهاق المعنوي، المرشح ليتحول إلى استنزاف فعلي، مع وجود امتدادين أفغانيين في باكستان الأول، التيارات الدينية المتطرفة وجناح حركة طالبان الباكستاني. والثاني، الامتداد العرقي لقبائل البشتون، والباكستانيون ربما يشهدون بناء على ذلك مرحلة جديدة من الاضطرابات بعد سنوات من الاستقرار الإيجابي مع عمران خان، الذي استقبل تطورات المشهد الأفغاني بشيء من الحماس الذي يدلل على ضيقه بالوجود والسلوك الأمريكي تجاه بلاده في السنوات الأخيرة. أخيراً إيران، الجارة الشيعية التي ستتوقع استفزازاً من جارتها السنية المتطرفة بين وقت وآخر، يكون موضوعه طائفة الهزارة المستضعفة تقليدياً في أفغانستان، وبما يضع الإيرانيين في موقف محرج للدفاع، وبالحد الأدنى ممارسة الغضب والمناكفة، والإيرانيون الذين يرون أذرع بلادهم في لبنان واليمن، لن يكونوا مرتاحين مع وقائع إهانة الهزارة الشيعة في حالة حدوثها، والظروف الراهنة مختلفة عن التسعينيات التي لم تكن ايران قدمت نفسها خلالها بوصفها قوة إقليمية تستطيع التمدد والتأثير، والشيعة في أفغانستان سيظلون ورقة جاهزة للتصعيد والتأزيم، على الرغم من استمهال قيادة طالبان للاحتكاك مع قضيتهم من خلال طلبهم من رجالهم عدم التعرض للحسينيات الشيعية.
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يقدم نموذجاً لسياسة الأرض المحروقة على مستوى التوازنات الدولية
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يقدم نموذجاً لسياسة الأرض المحروقة على مستوى التوازنات الدولية، فأمريكا تخلف وراءها فجوة مرشحة لتصبح هاوية إقليمية في منطقة حساسة من العالم، خاصة أن الوزن النسبي لما تشكله منطقة وسط آسيا، يفوق منطقة الشرق الأوسط ككل، نظراً لثروات المنطقة الطبيعية وثقلها السكاني وموقعها الذي يتماس مع أهم خطرين استراتيجيين للمصالح الأمريكية في الصين وروسيا، وزادت أهمية هذه المنطقة استراتيجياً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يعتبرها امتداداً لنفوذه وحديقة خلفية لإمبراطوريته. تبقى مسارات الأمور في أفغانستان قابلة للتحول في أي اتجاه، وهو ما لا يعني واشنطن، طالما أن الحريق سيكون بعيداً عنها، وأن آخرين سيدفعون الثمن، أما حركة طالبان فتبدو مرتاحة لواقع أن أحداً لا يود أن يتلقط الثمرة المحرمة من شجرتها، وأن القوى القلقة من حولها لن تمتلك الجرأة على التقدم لتجنب ردود الفعل من الآخرين. فقدت أفغانستان شخصيتها منذ السبعينيات من القرن الماضي، وكان ذلك قدرها الجغرافي، الذي وضعها في طريق الحلم الروسي الإمبراطوري بالمياه الدافئة، ومن داخل أفغانستان كانت الأزمة في الصراع بين الأجنحة المختلفة للشيوعيين، وصراع الشيوعيين مع بقية أطياف المجتمع، وداخل مجتمع ذي طبيعة متعددة ومتنوعة، توجد أمامه ترسانة أسلحة هائلة تركها الأمريكيون والجيش الأفغاني، الذي تبخر في أيام معدودة، فإن الحديث عن الصدام يصبح منحصراً في التوقيت الذي سيطلقه من قمقمه، واتجاهات الرياح التي ستجعل أطرافاً ما تتحمل تكلفته أكثر من غيرها، وبذلك تكتمل حلقات إدارة القلق الذي يعتبر المكسب الأمريكي الكبير مع الخروج من أفغانستان.