عكست ردود الفعل الدولية حيال انفجار مرفأ بيروت ملامح السياسة الخارجية للدول تجاه العديد من ملفات الشرق الأوسط التي تعاني في حقيقتها من التشابك، وتتسق في كثير من ملامحها مع المواقف الرسمية المسبقة لتلك الأنظمة من الأحداث الدائرة في الداخل اللبناني.
المواقف التي تتباين من دولة لأخرى من الممكن أن تقدم خريطة تفصيلية لتوجهات الأنظمة الحاكمة التي تتقاطع مصالحها وأجنداتها مع الدولة اللبنانية في أكثر من مسار، وهو ما يفسر حالة الزخم الدولي الشديد تجاه هذا الانفجار الذي خلف العديد من الخسائر البشرية والمادية.
ونظرًا لما تتميز به الخريطة السياسية اللبنانية من تنوع أقرب للتعقيد، وطلاسم في حاجة ماسة إلى فك شفراتها، في ظل الطائفية التي تخيم على أرجائها، باتت بيروت في بؤرة أحداث العالم، حتى إن كانت بعيدة نسبيًا عن دائرة الصراع، غير أن تعدد اللاعبين على أرضها جعلها محط اهتمام الجميع.
وبينما كان الشارع اللبناني يئن طيلة الأشهر الماضية، جراء التصعيد الاحتجاجي ضد السلطات الحاكمة، ورفضًا لسياسات المحاصصة والطائفية التي أودت بالبلاد إلى حيث لا يستحق اللبنانيون، ساعد في ذلك الفساد المتجذر على مدار عقود طويلة، كان العالم يتابع المشهد من مقاعد المتفرجين، غير مبال بالتصعيد المتبادل الذي أدخل الدولة في مسارات بات من الصعب العودة منها.
لكن مع تفجيرات الثلاثاء، الـ4 من أغسطس/آب 2020 تبدلت الصورة تمامًا، حيث الدعم الدولي وردود الفعل السريعة التي إن أتت في كثير منها استجابة لظرفية إنسانية، فإن ذلك لا ينكر بعدها السياسي والأيديولوجي، إذ جاءت انعكاسًا واضحًا لتوجهات ومواقف رسمية حيال بعض الملفات الإقليمية التي اتخذت من لبنان ساحة لمعاركها.
العراق.. الحاضر الأقوى
كان الموقف العراقي هو الأسرع من بين المواقف الدولية تجاوبًا مع الكارثة، فبعد ساعات قليلة من الحادث أصدر رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي قرارته بتقديم المساعدات للبنانيين، وتنوعت حزم الدعم المقدم بين براميل نفط مجانًا وبصورة يومية، وأطنان من المواد الطبية والمساعدات العينية.
الموقف العراقي متسق تمامًا مع ما يمثله لبنان لدى السياسة الخارجية لبغداد، وعليه لم يأت متجاوزًا الخط المعروف مسبقًا للدبلوماسية العراقية حيال الدولة العربية الشقيقة، فالعلاقات بين البلدين تتميز بالتنسيق والتعاون المثمر في العديد من المجالات.
ردود الفعل الخليجية جاءت هي الأخرى انعكاسًا للصراع والنزاعات بين دول مجلس التعاون، لا سيما أن الدولة اللبنانية تعد ساحة كبيرة للحرب البادرة بين العديد من العواصم الخليجية
وفي الجهة الأخرى كانت القاهرة من بين الدول التي سارعت للتجاوب مع الأزمة، حيث أرسلت طائرتين عسكريتين محملتين بالمستلزمات الطبية المختلفة، هذا بجانب تعزيز إمكانات المستشفى الميداني الطبي المصري في بيروت، والموجود هناك منذ عدة سنوات.
التحرك المصري كان دبلوماسيًا أكثر منه تنفيذًا لأجندات خارجية، فلبنان لم يكن على خريطة السياسة الخارجية المصرية بالصورة التي تؤهله لأن يكون حاضرًا بقوة في المشهد، ومن ثم فإن الموقف الرسمي جاء متناغمًا ما تنتهجه الدولة المصرية من سياسات داعمة للدول التي تتعرض لكوارث ونكبات، كإحدى إستراتيجيات القاهرة للحفاظ على علاقاتها الإيجابية مع الدول كافة.
الخليج.. انعكاس للحرب الباردة
ردود الفعل الخليجية جاءت هي الأخرى انعكاسًا للصراع والنزاعات بين دول مجلس التعاون، لا سيما أن الدولة اللبنانية تعد ساحة كبيرة للحرب البادرة بين العديد من العواصم الخليجية، وعلى رأسها السعودية التي جاء تحركها باهتًا رغم إعلان تضامنها مع لبنان في أزمته.
المتابع للمشهد اللبناني السعودي يجد أن الأخير يتعامل مع حكومة حسان دياب كونها تابعة لحزب الله ومن ثم إيران، الخصم الأبرز للسعوديين، فالبيان الصادر عن الرياض جاء بروتوكوليًا أكثر منه ممارسات على أرض الواقع، وبينما كانت المملكة تبني جسور دعم ومساعدات لبعض الدول الأوروبية وفي أمريكا اللاتينية التي تعرضت لكوارث طبيعية نجدها تكتفي ببيانات دعم وتضامن أجوف من أي مضمون.
وفي السياق ذاته تبنت بعض وسائل الإعلام السعودية ومنصات السوشيال ميديا التابعة لها خطابًا إعلاميًا يروج فيه لنظرية تورط حزب الله بمساعدة طهران في هذه الكارثة، في إشارة إلى كون الحزب جزءًا أصيلًا من النظام الطائفي الذي أودى بالدولة اللبنانية إلى هذا المستنقع.
الدوحة كانت على رأس دول الخليج التي سارعت ببناء جسر جوي من المساعدات للبنان، فمنذ الوهلة الأولى للانفجار أرسلت قطر مستشفيات ميدانية للتخفيف من الضغط على المنظومة الصحية اللبنانية، بجانب 4 طائرات محملة بالمعدات والمستلزمات الطبية بجانب المساعدات الاقتصادية الأخرى.
الدعم القطري للبنان لم يتوقف عند حاجز الموقف الرسمي للدولة فقط، فعلى المستوى الشعبي، قدمت “جمعية قطر الخيرية” (خاصة) العديد من المساعدات المادية والعينية، منها مشاركة فرقها الإغاثية في توزيع المواد الغذائية والضرورية على المتضررين من الانفجار.
إماراتيًا.. تبنت أبو ظبي خطابًا دبلوماسيًا في التعبير عن تضامنها مع الشعب اللبناني في مأزقه، حافظت فيه قدر الإمكان على تجنب غضب حليفتها الرياض، فيما أرسل حاكم دبي، محمد بن راشد آل مكتوم، جسرًا جويًا كمساعدات طارئة لبيروت، علمًا بأن العلاقات بين البلدين تشهد تنسيقًا وتعاونًا كبيرًا خلال الآونة الأخيرة، ولطهران دور كبير في تعميق تلك العلاقات.
كالعادة جاء موقف جامعة الدول العربية – كبقية الملفات العربية السابقة على مدار عقود طويلة مضت – خاويًا من أي مبادرات من شأنها أن تسهم في تقليل تداعيات الكارثة
إيران.. الهجوم خير وسيلة للدفاع
استبقت طهران الإدانات الموجهة لذراعها السياسي في لبنان، حزب الله، كونه متهمًا رئيسيًا في تلك التفجيرات بحسب البعض، برمي المسؤولية على خصومها التقليديين، متهمة إياهم بالاستفادة مما حدث، وعليه فهم على قائمة الجهات المتورطة في ارتكاب هذا الحادث.
وفي الوقت الذي تبنى فيه الشارع اللبناني رأيًا موحدًا باتهام حلفاء إيران في حكومة حسان دياب، الذي كان لهم دور كبير في تفشي الفساد الذي نخر عظم اللبنانيين وأودى بهم إلى تلك الوضعية الحرجة، إذ بالبرلمان الإيراني يوجه أصابع الاتهام لأطراف خارجية يقول إنها المستفيدة مما حدث.
مدير دائرة الشؤون الدولية في البرلمان الإيراني أمير حسين عبد اللهيان، في تصريحات له، صبيحة اليوم الثاني للتفجيرات، قال: “هناك أطراف خارجية مستفيدة من انفجار مرفأ بيروت”، مضيفًا “قد تكون إسرائيل خلف انفجار مرفأ بيروت، والمواقف السعودية حتى الآن إزاء الحادث غير بناءة”.
عبد اللهيان أشار إلى أن أمريكا المنتفع الأكبر من انفجار المرفأ، “لأن تدمير البنية التحتية لأهم المرافئ اللبنانية الذي يؤمن احتياجات الشعب اللبناني يساعد في زيادة ضغط العقوبات الأمريكية على الشعب اللبناني” على حد قوله، مستدركًا حديثه بأن “الكيان الصهيوني هو الطرف الثاني المنتفع من الحادث، وقد يكون من يقف وراءه”، ونوه إلى أن “لحادث انفجار مرفأ بيروت أبعادًا مختلفة، ونحن نتابع بدقة نتائج التحقيقات الفنية”.
المغرب العربي.. الإنسانية أولًا
رد الفعل المغربي ربما يكون الأكثر اتساقًا مع البعد الإنساني، خاصة في ظل العلاقات الجيدة – غير المؤدجلة في معظمها – التي تربط بين بيروت وعواصم دول المغرب العربي، حيث أرسلت تونس طائرتين عسكريتين محملتين بالمساعدات الغذائية والأدوية والمستلزمات الطبية لدعم الشعب اللبناني، بجانب إيفاد كوادر طبية لمساعدة نظرائهم اللبنانيين في عبور الأزمة.
كما حضرت الجزائر بصورة إيجابية، إذ أرسلت عن طريق الهلال الأحمر الجزائري قرابة 200 طن من المساعدات الإنسانية والطبية للشعب اللبناني، هذا بجانب الحملة الشعبية التي دشنها الجزائريون لتقديم يد العون والدعم لأشقائهم اللبنانيين.
وهو الموقف ذاته الذي تبنته الرباط، إذ أرسلت بناءً على توجهات من العاهل المغربي مساعدات عاجلة لتخفيف الأزمة الإنسانية في بيروت، حيث أقلعت أربع طائرات من مطار محمد الخامس بالدار البيضاء وطائرتان أخرتان من القاعدة العسكرية بالقنيطرة، بناء على توجيهات الملك محمد السادس الذي أمر كذلك بإرسال وإقامة مستشفى عسكري ميداني ببيروت بهدف تقديم العلاج الطبي العاجل للمصابين في الانفجار الدامي.
وكالعادة جاء موقف جامعة الدول العربية – كبقية الملفات العربية السابقة على مدار عقود طويلة مضت – خاويًا من أي مبادرات من شأنها أن تسهم في التقليل من تداعيات الكارثة، مكتفيًا بزيارة عاجلة لأمينها العام، أحمد أبو الغيط، لمرفأ بيروت، أمس السبت، التقى خلالها عددًا من القادة والساسة اللبنانيين، وتناقش معهم في سبل تقديم الدعم للشعب اللبناني.
الزيارة رغم أنها خلت من أي تحرك ميداني، فإن الأمين العام المساعد للجامعة العربية، السفير حسام زكي، اعتبر أنه قد “حققت أهدافها من حيث التعبير عن تضامن الجامعة العربية مع لبنان وشعبه المنكوب في هذه الكارثة الكبرى، بالإضافة إلى التأكيد لجميع القيادات اللبنانية على استعداد الجامعة العربية لحشد دعم من خلال منظومة العمل العربي المشترك، يسهم في مواجهة لبنان لتبعات هذه الكارثة من مختلف الوجوه”.
فرنسا.. استغلال الأزمة
الموقف الأكثر جدلًا على الإطلاق كان الموقف الفرنسي، إذ يبدو أن الرئيس إيمانويل ماكرون تناسى تمامًا أن لبنان لم يعد بعد تحت الانتداب الفرنسي، حيث دخل الرجل بيروت دخول الفاتحين، استقبال هائل في الوقت الذي كان يمنع فيه أعضاء الحكومة من المرور بين الغاضبين.
المشاهد التي تناقلتها منصات السوشيال ميديا لتفاعل اللبنانيين مع زيارة ماكرون، وردود الفعل بينه وبين بعض المتضررين من التفجيرات، أثارت حفيظة البعض رغم ما يعانون منه من تفشي الفساد السياسي والاقتصادي في جميع ربوع الدولة.
سرعة ماكرون في التوجه لبيروت عقب الكارثة وحزمة الدعم والوعود والمنح التي قطعها على نفسه لمساعدة اللبنانيين، – بينما يعاني هو من أزمات داخلية في بلاده، يسعى لانتصار مزيف لتعويض خسائره هناك – دفعت البعض إلى وصفه بـ”ماكرون بونابرت” و”إمبراطور القرن الحادي والعشرين نابليون”.
المشهد بتفاصيله يبدو كأنه صيد في الماء العكر، حيث يسعى ماكرون لتعزيز نفوذ بلاده داخل لبنان، مستدعيًا تاريخًا قد ولى، مستغلًا الفاجعة التي يعانون منها وزيادة منسوب الاحتقان الشعبي حيال السلطات الحاكمة، إلى الحد الذي دفع الآلاف إلى إبداء رغبتهم في إدخال بلادهم تحت الانتداب الفرنسي مرة أخرى، وهو ما ذهب بالبعض إلى وصف الزيارة بأنها غزوة استعمارية من الرئيس الفرنسي الساعي لاستعادة السيطرة على دولة تعاني من الفساد لسنوات طويلة.
ألمانيا هي الأخرى لم تكن بعيدة عن المشهد، حيث سارعت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لتقديم المساعدات الاقتصادية لإغاثة المتضررين، تلك المساعدات التي باتت ضرورية وبصورة ملحة أكثر من أي وقت مضى بحسب صحيفة “زوددويتشه” الألمانية.
الصحيفة في تقريرها المعنون بـ”كيف ساعدت ألمانيا لبنان؟” أشارت إلى أنه رغم أن لبنان كان دومًا على رادار السياسة الخارجية الألمانية، فإن الوضع بعد التفجيرات لا بد أن يتغير إلى مزيد من الدعم المقدم للدولة العربية، وبحسب الصحيفة تجنبًا لنزوح أعداد كبيرة من اللاجئين لأوروبا، وهو الملف الذي يمثل صداعًا مزمنًا في رأس حكومات القارة العجوز.
وفي المجمل تبدو ردود الفعل الدولية تجاه لبنان عقب تفجيرات مرفأ بيروت انعكاسًا حقيقيًا للمواقف السياسية الرسمية لتلك الدول حيال بعض الملفات التي تتقاطع في كثير من خيوطها مع الداخل اللبناني، الذي تحول فجأة بعد سنوات من التجاهل إلى بؤرة اهتمام العالم.