كان الاحتكار هو قدر سوق النفط منذ بداية اكتشافه، إذ وقع في قبضة مجموعة من أكبر شركات النفط في العالم التي عرفتفي منتصف القرن الفائت باسم «الأخوات السبع»، وهي: «إكسون موبيل، وبريتش بتروليوم، ورويال داتش شل، وتكساكو، وشيفرون، وإيسو، وجلف أويل»، وانضمت إليهم لاحقًا شركة النفط الفرنسية، التي تغير اسمها بعد ذلك إلى «توتال».
وتعود نشأة هذا التحالف لشهر يوليو (تموز) عام 1928، حين وقعت الأخوات السبع على ما سمي باتفاقيات «الخط الأحمر»، والتي تضمنت تقسيم الموارد البترولية في الدولة العثمانية السابقة (أي فلسطين والعراق وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية).
كانت هذه الشركات، التي يسميها البعض «القطط السمان»، تحتكر جميع مراحل البحث عن البترول وحتى اكتشافه واستخراجه وإنتاجه ونقله وتكريره ثم تسويقه في الأسواق العالمية، دون أن تعطي الدول صاحبة الثروة النفطية حق مشاركة استغلال ثرواتها الطبيعية.
لجأت بعض الدول لاحقًا إلى حيلة للالتفاف على عقود الامتياز المجحفة التي أبرمتها سابقًا مع هذه الشركات، ففرضت ضريبة على الشركات الأجنبية تتمثل في 50% من الأرباح، وهو ما يعني اقتسام الدولة الأرباح مع الشركة، وأول من بدأ بتلك الفكرة كانت فنزويلا عام 1948، ثم السعودية عام 1950، والعراق 1952، وإيران 1954، والكويت عام 1959.
لكن في الحقيقة، لم يعن هذا النظام حصول الدولة على نصف قيمة النفط المستخرج من أراضيها فعليًا، إذ أن اقتسام الأرباح لا ينطبق إلا على المبالغ المتحصل عليها في عملية الإنتاج، دون النقل والتسويق والتكرير لأنها كانت تتم خارج الدول المنتجة للنفط غالبًا.
وحاولت بعض الشركات المستقلة، مثل الشركة الإيطالية «إيني»، والفرنسية «إيرب»، التقدم بعروضٍ أفضل للدول النفطية، في محاولةٍ لكسر احتكار الشركات السبع الكبرى، ولكنها لم تنجح سوى بنسبة محدودة.
من «القطط السمان» إلى عمالقة الحاضر.. ما هي أكبر شركات النفط في العالم؟
بعد موجة من عمليات الاستحواذ واندماج العديد من الشركات الكبرى بين عام 1984 ونهاية فترة التسعينيات، لم يبق على قيد الحياة من «الأخوات السبع»، اعتبارًا من عام 2017، سوى: «إكسون موبيل» و«شيفرون» الأمريكيتين و«رويال داتش شل» و«بي بي» الأوروبيتين. وظهرت، لتظهر في النهاية الشركات الخمس الكبرى، وهي: «إكسون» و«موبيل»، و«شل»، و«بريتش بتروليوم»، و«شيفرون»، و«توتال»، وقدر إجمالي أرباحها ما بين عامي 2004 و2007 فقط بنحو 494.8 مليار دولار أمريكي.
نجحت بعض الدول في إنشاء شركات نفط وطنية قوية، مثل «بتروتشاينا» الصينية و«أرامكو» السعودية، إلى حد وصف صحيفة «فاينانشيال تايمز» هذه الشركات بـ«الأخوات السبع الجديدة»، بيد أن إطلالة على ترتيب أكبر شركات النفط والغاز في العالم خلال عام 2019 حسب الإيرادات السنوية، تظهر أن الشركات العالمية القديمة ما زالت تحتفظ بمكانتها.
هكذا تستحوذ الشركات الأجنبية على النفط العربي
رغم أن أغلب البلدان العربية والأفريقية دشنت شركات وطنية للنفط، إلا أن الشركات الأجنبية احتفظت بوجودها عبر عقود طويلة الأجل، تمكنها من الوصول إلى احتياطيات النفط، وتفتح لها الباب على مصراعيه لاستغلال هذه الثروة النفطية، وذلك من خلال نوعين من العقود:
أولًا: عقود الامتياز
وفيها تصبح شركات النفط والغاز الأجنبية هي المالكة للموارد النفطية، لفترة محددة سلفًا، بينما تتقاسم أرباح بيع المنتجات البترولية مع الشركة الوطنية، ويمكن لهذه الشركات الأجنبية، المعروفة باسم أصحاب الامتياز، استكشاف ما تستطيع اكتشافه داخل المنطقة الممنوحة لها، كما تحتفظ بملكية المنشآت التي تعمل من خلالها بأعمال استكشاف والتطوير والإنتاج والتسويق، فيما يجب عليها دفع ضرائب ورسوم محددة في العقد، والتي تتوقف بشكل كبير على كمية النفط التي تستخرجها. وظهرت هذه العقود في الصناعة النفطية منذ عام 1901م، حين أبرم عقد امتياز بين إيران وشركة النفط البريطانية «شل».
وبقدر ما تجلب هذه العقود أرباحًا ومميزات كبيرة للشركة الأجنبية، بقدر ما تضيع على الدولة النفطية وشعبها فرصًا كبيرة للاستفادة من ثرواتها الطبيعية، لأن عقود الامتياز تتسم بطول مدتها الزمنية التي تتراوح ما بين 60 إلى 90 سنة، وفي مقابل ذلك تحصل الدولة على مكافأة وضريبة وحصة قليلة من النفط المستخرج، فضلًا عن عدم خضوع عمليات الشركة الأجنبية لرقابة سلطات الدولة المضيفة ومتابعتها.
ثانيًا: عقود المشاركة في الإنتاج
وتسمى أيضًا بعقود «تقاسم الإنتاج» وفيها تحتفظ الدولة بالسيطرة على احتياطيات الدولة النفطية والبنية التحتية التشغيلية التي تستثمر فيها الشركات الخاصة، وفي هذه الحالة، تمنح الشركة الوطنية جزءًا من الإنتاج إلى الشركات الأجنبية وتتقاسم معها نسبة معينة من النفط أو الغاز، تحدد بموجب العقد، وبالإضافة إلى ذلك، يجب على الشركة الأجنبية دفع الضرائب للدولة.
وفي هذه العقود، تحصل الشركة الأجنبية على حق استكشاف وتطوير وإنتاج الاحتياطيات النفطية ويحصل على حصة من الإنتاج وليس من الربح، كما يحدد عقد المشاركة في الإنتاج مدة سريان العقد. وفي الغالب تنقسم إلى مرحلتين: مرحلة الاستكشاف؛ وتتراوح ما بين سنتين إلى 12 سنة، ثم مرحلة الاستغلال؛ وغالبًا ما تتراوح مدتها بين 25 و35 سنة.
3 نماذج على الفساد النفطي في الشرق الأوسط
لا تقتصر خسارة الشعوب لثرواتها النفطية عند حدود استغلال الشركات الأجنبية، بل هناك أيضًا فساد الحكومات التي تتواطأ مع تلك الشركات، مقابل عمولات هائلة لكبار المسؤولين، مما يحرم الشعوب من موارد مالية ونفطية هائلة.
العراق
مطلع العام الجاري، كشف محققون بريطانيون عن رشاوى بما لا يقل عن 25 مليون دولار للفوز بصفقات نفطية بالعراق، في أعقاب سقوط حكم الرئيس الراحل صدام حسين.
ووجهت اتهامات لاثنين من المديرين التنفيذيين السابقين لشركة «أونا أويل»، ومدير مبيعات في شركة من عملائها، بالتآمر لتقديم رشاوى لتأمين عقود عمل بملايين الدولارات في العراق بين عامي 2005 و2011.
وحين فتح مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الخطيرة في بريطانيا تحقيقًا بشأن شركة «بتروفاك»، بعد إدانة رئيس المبيعات الدولية بالشركة ديفيد لوفكين في شهر فبراير (شباط) بـ11 اتهامًا بالرشى، منع العراق الشركة مؤقتًا من التقدم بعروض لعقود جديدة، لكنه أكد أن الصفقات القائمة لن تتأثر.
وصرح ممثل الادعاء في المكتب مايكل برومبتون بأن شركة استشارية في قطاع النفط أسستها عائلة أحساني في موناكو وشركة «أس بي أم» الهولندية، حصلتا بمساعدة «أونا أويل» على عقد لتزويد ثلاثة أنظمة عائمة بحرية في الخليج، وقد تم ذلك «بعد عملية طويلة من المناورة والتلاعب».
وهذا الفساد عميق الجذور؛ إذ كانت شركة «أونا أويل» تعمل في العراق نيابة عن عملاء أستراليين وإيطاليين وألمانيين وهولنديين وبريطانيين وأمريكيين، هم: «سايبم» و«رولز رويس» وإف إم سي تكنولوجيز» و«كاميرون» و«مان تربو» و««ويذر فورد» و««لايتون أوف شور».
ولا يقتصر الفساد في العراق على هذه الحالة وحدها، إذ يؤكد النائب في البرلمان العراقي مازن الفيلي أن «أغلب ملفات وزارة النفط تشوبها العديد من شبهات الفساد».
سوريا
الفساد النفطي في دول الشرق الأوسط ليس بمعزل عن بعضه، وأحد الدلائل على ذلك أن شركة «أونا أويل» المتهمة بالفساد في العراق مثلت شركة «بتروفاك» البريطانية في سوريا، وساعدتها في الحصول على عقود مع شركات النفط التابعة لنظام الأسد من خلال رشاوٍ قدمتها بين 2008 و2009.
لكن إنتاج سوريا النفطي تعرض للانهيار منذ عام 2011، وأصبحت معظم آبار النفط ومصانع الغاز تقع حاليًا تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة أمريكيًّا.
بيد أن هذا لم يمنع الحكومة من إبرام عقود جديدة تضمنت استثناءات ضريبية وامتيازات خاصة، لشركات روسية، وأخرى مدعومة من إيران، للتنقيب عن النفط واستثمار الغاز وتطوير شبكات نقل استراتيجية من غرب العراق إلى غرب سوريا على البحر المتوسط.
مصر
يصف البعض مصر، على الرغم من مكانتها وثرواتها، بأنها دولة فقيرة جدًا، وهو ما يستنكره الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالخالق فاروق في كتابه «هل مصر فقيرة حقًا؟»، مؤكدًا أن الداء هو الفساد لا ندرة الموارد، ويقول: «اندفعت الحكومة المصرية ووزارة البترول فى توقيع أكثر من 21 عقدًا وبروتوكولًا للتصدير إلى ثماني دول، كانت كلها – دون استثناء واحد – تؤدي إلى إهدار هذا المورد الحيوي (النفط)، وبيعه بأبخس الأسعار، وخصوصًا في حالات إسرائيل والأردن وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا».
وثّق الخبير الاقتصادي خسائر مصرية تقدر بـ50 مليار دولار منذ عام 2003 حتى عام 2012، أي بمتوسط سنوي يقارب 5 مليار دولار، نتيجة تعاقدات الغاز مع شركتي «جاز دي فرانس» الفرنسية و«يونيون فيونيسيا» الإسبانية و«بريتش بتروليوم» البريطانية، وعمليات التصدير لإسرائيل والأردن.
على النسق ذاته، تلاحق التحذيرات الاتفاق الذي أبرمته مصر مع شركة «بريتش بتروليوم» البريطانية، على هامش المؤتمر الاقتصادي بشرم الشيخ في أبريل (نيسان) 2015، لما ينطوي عليه من إهدار لموارد مصر من الغاز الطبيعي؛ إذ يقضي الاتفاق بأن تستثمر الشركة البريطانية 12 مليار دولار مقابل حصولها على 100% من الإنتاج فضلًا عن أنها ستقوم بيع الغاز المستخرج – الذي يوازي 3 مليارات برميل من البترول – بعد ذلك للحكومة المصرية.
كل هذه المميزات للشركة البريطانية تأتي رغم أن عقدها انتهى أصلًا عام 2003، إلا أن الشركة ظلت بمواقعها ولم تخرج منها ودخلت في مفاوضات مطولة مع الحكومة حتى وصلت لحل يقضي بأن تستحوذ على 100% من الإنتاج، رغم أن حصتها في السابق لم تكن تتجاوز 20% من الإنتاج.
على خطا «إيني».. هل يتعلم العرب من دروس التاريخ؟
برغم هذه القيود التي تكبل الدول النفطية، بدأت بعض البلدان تتعلم من خسارتها مليارات الدولارات لصالح الشركات الأجنبية طوال عقود طويلة، ولأسباب تاريخية وسياسية، بات الاتجاه السائد اليوم يشهد توقيع عقود المشاركة في الإنتاج أكثر من عقود الامتياز.
وفي قصة تأسيس شركة «إيني» الإيطالية عبرة؛ ففي مطلع الخمسينيات، ظهر في إيطاليا شخص يدعى إنريكو ماتي تمرد على تغول شركات النفط العالمية، إذ كان قياديًا في حركة المقاومة الإيطالية ضد النازيين، وبعد ذلك سعى بكل جهده إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي في مجال النفط عن الاحتكار الأمريكي، والشركات النفطية الكبرى التي أطلق عليها ساخرًا اسم «القطط السبعة».
وبالفعل قرر العمل على توفير بيئة ملائمة لتحرير إيطاليا من التبعية للشركات الأمريكية والبريطانية وغيرها، وذلك عبر إنشاء شركة النفط والغاز الإيطالية «إيني» سنة 1953 التي اكتشفت وجود الغاز في وادي «بو» شمالي إيطاليا، وعلى إثر ذلك دخل مضمار المنافسة مع الشركات الكبرى.
وبعد ذلك أطلق ما أسماه بـ«دبلوماسية النفط»، بدأها عام 1957 بتوقيع عقد مع إيران يمنحها بموجبه 75% من الأرباح، وكانت هذه النسبة غير مسبوقة في ذلك الوقت، ولم يكتف بذلك ولكنه توجه إلى العواصم العربية يعرض عليها خدماته وأرقامه المُغرية باستثمار شركته في الحقول النفطية العربية، ثم توجه إلى موسكو لذات السبب.
ولكن رجلًا من هذه النوعية يمثل خطورة على شركات الحيتان النفطية فلم يطل به المقام كثيرًا، فبعد مراقبة لصيقة له من أجهزة المخابرات الأمريكية والغربية لقي حتفه بتفجير طائرته قرب مدينة ميلانو الإيطالية في 27 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1962، أثناء متابعته تنفيذ مشروع طموح لمد خط أنابيب نفط بين روسيا وأوروبا.
ورغم اغتيال «ماتي» إلا أن الشركة التي قام بتأسيسها «إيني» استمرت في طريق الصعود وتحدي الشركات الكبرى، ولم تحقق استقلال إيطاليا الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية فحسب، بل ساعدت في دفعه بقوة نحو النهوض. وهو ما يطرح سؤالًا حول إمكانية ظهور مثل هذا النموذج في الدول العربية، التي تمتلك ثروات من النفط والغاز تكفي لتحويلها إلى دول قوية وغنية، تمتلك إرادتها واستقلالها.