ياسر سليم
عام 1949 أقامت الجمهورية الصينية الشعبية بقيادة ماو تسي تونغ، الفترة التي شهدت فوضى اقتصادية وانتشار المجاعة التي راح ضحيتها الملايين من الصينين، وألغى الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج، وأصبحت الحياة الاقتصادية بالكامل تحت سيطرة الدولة، وبعد موت ماو عام 1976 أصبحت الصين أشبه بالمريض الذي يعاني من النزيف الحاد سواء على المستوى الاقتصادي أم السياسي، حتى شعر الحزب الشيوعي أن هيمنته مهددة بقيام انتفاضة شعبية أو اعتداء خارجي.
حاول دينج شياو بمجرد وصوله للحكم عام 1978 إقناع الحزب الشيوعي بأن الهيمنة على المجتمع تكمن في ترك التنظيم الجماعي للاقتصاد، وقرر العودة إلى الرأسمالية ووضع المبدأ الشيوعي للملكية العامة لوسائل الإنتاج، حيث خصخص عددًا كبيرًا من الشركات العامة ودعم اللامركزية في اتخاذ القرارات بالمؤسسات، وسمح بإنشاء وتأسيس الشركات الخاصة الصغيرة والكبيرة في المجالات كافة، كما أنشأ المناطق الاقتصادية وطور السوق إلى أن تمكن من إقامة معرض كوانجو للمنتجات الصينية.
النظام الاقتصادي الصيني
الصين دولة رأسمالية قائمة على نظرية حرية التبادل، وتتبنى بنفس الوقت نظامًا سياسيًا شموليًا، فالحزب الشيوعي الصيني الحاكم له حضور في جميع مجالس إدارة الشركات، وذلك من أجل بناء وتطوير دبلوماسية اقتصادية نشطة في الخارج، واستخدامها وسائل ضغط ذات فاعلية، تضمن لها تحقيق المكاسب الاقتصادية، كما أن الأجور منخفضة، وذلك حسب نظام الإيكو الذي يفرض أحكام الرقابة على السكان الأكثر فقرًا في أماكنهم التي نشأوا فيها، حتى يمكن تزويد الشركات بيد عاملة مطيعة ورخيصة الثمن في آن واحد.
في ظل الانفتاح العالمي الذي يرى الاقتصاديون ومنهم الاقتصادي الفرنسي موريس إلياس الذي أخبرنا عام 1999 أن الانفتاح العالمي في كل الاتجاهات السبب الرئيسي لأزمة عميقة، يمكن أن تؤدي إلى الهلاك، لقد كان بالفعل على وعي كامل بمدى ضخامة الخطر الذي يهدد المجتمعات الغربية.
خداع البلدان الأوروبية
إحلال الجماعية الاقتصادية بالرأسمالية أعطى انطباعًا لدى المحللين الأوروبيين أن الصين سوف تتبنى نظامًا ديمقراطيًا، ولكن على العكس تمامًا، حيث شهد ميدان تيانانمين أعمال قمع عندما أقام الطلاب الصينيون تمثالًا يحمل مضمونًا للديمقراطية، مما أعطى إشارة إلى الشعب “يا شعب الصين اتركوا أحلامكم بالحرية والديمقراطية لأن ليس لها علاقة بتقاليد وطنكم، بل هي أفكار يقترحها عليكم أعداؤكم في الخارج لخداعكم، واتبعوا حزبكم المبجل المجيد لتجدوا معه الرخاء والعمل والسكن”.
من هنا أدرك العالم أن الفكر السلطوي لم ينتهِ، فالصين تحافظ على ميراث الفكر الكونفوشيوسي (مجموعة من المعتقدات والمبادئ تتمحور في مجملها حول الأخلاق والأدب وإدارة الحكم، وهي منهج حياة الصينيين، قامت عليها المؤسسات والسياسة في الصين)، وتعد هذه الخطوط الأساسية التي وضعها أكسيانغ ليسير عليها القادة الصينيون لبناء الإستراتيجية التي تقوم عليها إلى يومنا هذا.
إستراتيجيات مخطط لها جعلت الصين لا تسعى للتفاخر والتباهي بنجاحها الاقتصادي من أجل خداع العالم بأن الصين – لأطول وقت ممكن – دولة ذات قوة أقل، فهم يحبون دائمًا تكرار أن الصين ما هي إلا دولة صغيرة اقتصاديًا، وهذه الرسالة غير الحقيقية يحاول بثها الحزب الشيوعي لأجل عدم إثارة الخوف لدى البلدان الصناعية من القدرة التي تمتلكها الصين للسيطرة على العالم.
إستراتيجات إدارة الحزب الحاكم
إن الحزب الشيوعي الحاكم في الصين يقوم على نظام شمولي، أي أن كل شيء للدولة ولا شيء يجب أن يكون خارجها ولا شيء يجب أن يعترض طريقها، وهذه النظم تبرهن أن المنظمات والجمعيات العالمية قائمة على أساس مصلحي وليس كما تدعي أنها تنادي لأجل الحرية وحقوق الانسان.
فنظام الحزب الواحد الشيوعي الصيني الحاكم قائم على سياسات تخالف ما تستند عليه أركان الحرية، فلم يتم إجراء أي انتخابات في الصين منذ عام 1949، ولا يسمح بإنشاء أحزاب أو جمعيات، وتوجد نقابة واحدة هي النقابة الرسمية التي ليس لها أي دور داخل المؤسسات العمالية، والصحافة والإعلام تحت رقابة الحزب الشيوعي الصيني لدرجة أن محرك البحث جوجل مغلق في الصين، ويحرم استخدام الأسماء المستعارة في شبكات الإنترنت، لكي يسهل عملية الاستمرار في التجسس، وكذلك يتم تزويد كل جهاز شخصي بجهاز مراقبة، بالإضافة إلى أن السلطة التنفيذية والحزب الشيوعي يسيطران على النظام القضائي.
إستراتيجيات القوة الصينية “الميركانتيلية”
تتبنى الصين إستراتيجية الميركانتيلية التي تحقق فوائض تجارية مستمرة منذ 20 عامًا، سمحت لها بالصعود لكي تصبح قوة عالمية ملفتة للانتباه، وها هي الصين اليوم تقف موقف الند أمام الولايات المتحدة، وقد سمحت هذه الإستراتيجية لإنجلترا أن تهيمن على العالم لمدة 130 عامًا، كما سمحت للولايات المتحدة منذ أكثر من 90 عامًا أن تهيمن عليه.
وآن الأوان أن نشاهد الصين المنافس الأول للقيادة العالمية في عام 2020، في ظل ما يشهده العالم المتقدم اليوم من أزمة مالية عاصفة تكاد تصل في خطورة نتائجها إلى تلك التي شهدها العالم عام 1929، كما تشهد دول العالم المتقدم اختفاءً تدريجيًا لصناعتها، وبدأت تظهر مشكلات البطالة وتدني ظروف العمل، وكل ذلك دفع بعض الدول إلى تبني سياسات تقشفية، وذلك تحت ضغط الدائنين، وهذا جعل الصين تمتلك العديد من القوى ومنها:
القوة التجارية
تعد الصين أكبر قوة تجارية في العالم، ففي عام 2009 تجاوزت صادراتها للمرة الأولى الصادرات الألمانية وتخطت الصادرات اليابانية، وكذلك صادرات الولايات المتحدة الأمريكية، وبالأصل كل ذلك تحقق قبل هذا التاريخ، فالإحصاءات الصينية الخاصة بالصادرات لا تعبر إلا عن بيانات أقل من الحقيقة، إذا كانت – كما يقال – دولة فقيرة، فكيف يمكننا تفسير أن ناتجها المحلي الإجمالي يعادل نظيره الأمريكي.
فالإحصاءات الخاصة بالناتج المحلي الإجمالي لعام 2009 كانت تشير إلى أن الناتج بلغ 14.500 مليار دولار في الولايات المتحدة، بينما بلغ نحو 33.500 مليار يوان في الصين أي 4.900 مليار دولار، أي ما يعادل 34% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، ونحو 96% من نظيره الياباني، ولا شك أن هذا الرقم يبدو متواضعًا لمن يعرف الصين.
إذا استخدمنا الإحصاءات على المستوى القطاعي، فإن الصين أول مستهلك للطاقة في العالم، وكذلك بالنسبة للإسمنت والصلب والنحاس والألمنيوم، بما يعكس أهمية قطاع التشييد والهندسة المدنية في الصين، كما أن قيمة مبيعات للسيارات الصينية في السوق الصينية تتعدى وتفوق بدرجة كبيرة نظيرتها في الولايات المتحدة.
باختصار عندما نرى هذه الأرقام وهذه المكانة التي تشغلها الصين كأول مستهلك في العالم يجب علينا الاقتناع بأن الناتج المحلي الإجمالي للصين في أقل الحالات هو ضعف ما المعلن في الإحصاءات.
القوة المالية
تستحوذ الصين على نحو 3.125 تريليون دولار من الاحتياطي العالمي من النقد الأجنبي، وتحتفظ الصين بهذه الاحتياطات على أشكال مختلفة، منها الاحتياطات الرسمية للنقد في الصين وهونغ كونغ، وتعد الصين منافسًا قويًا للولايات المتحدة في الاحتياطي النقدي من الدولار.
بالإضافة إلى ذلك فإن الصين تهيمن على الأسواق المالية والسندات في العالم، إذ إن 75% من الاحتياطات الكلية من النقد الأجنبي لدى الصين يتم توظيفها في شكل سندات بالبلدان الأوروبية، كما أن الصين لديها – بصفتها الدائن الأول للعالم – نظم مالية عامة غاية في الجودة والسلامة المالية، فهي تمتلك قدرة على استغلال مكانتها كدائن رئيسي من أجل إضعاف وزعزعة البلدان التي أصبحت مدينة لها.
وتستثمر الصين نفوذها المالي في الأزمات الاقتصادية منذ عام 2010 عندما كانت اليونان تعاني من أزمة مديونية، وكان يتعين على صندوق النقد الدولي وضع خطة إنقاذ بقرض نحو 120 مليار يورو على ثلاث سنوات، وفور وضع الخطة اشترت الصين سندات في إسبانيا، وهذا الفعل يشبه ما نطلق عليه رجل الإطفاء الذي تلذذ بإشعال الحرائق، ولا شك أن الحرائق التي تواجهها أوروبا لم يتم إخمادها منذ 2010.
القوة التكنولوجية
الصين تتقدم بخطى متسارعة في التكنولوجيا الأكثر تطورًا، فقد وطئت قدمها في كل مجالات الإنتاج الصناعي، وساعدها في ذلك الشركات المتعددة الجنسية، وأصبحت الشركات الصينية موردًا للشركات الأجنبية ومصدرًا للعديد من المنتجات النهائية للأسواق العالمية بفعل التكنولوجيا الصناعية التي جعلتها دولة ذات إمكانات في القوة العسكرية، فهي البلد الثالث بعد الولايات المتحدة وروسيا في القوة العسكرية، والحديث عن القوة التكنولوجية في الصين يحتاج العديد من المقالات.
القوة الدبلوماسية
تمتلك الصين قوةً في مجال العلاقات الخارجية من خلال شبكة واسعة تربطها بحلفائها وعملائها التجاريين، وتعمل على إستراتيجية المؤتمرات والجمعيات مثل شبكة البريك التي تضم روسيا والهند والبرازيل، وتقوم كذلك بسياسة الشركات في المحافظة على العملاء، حيث تجري مشاورات دائمة مع حلفائها خاصة قبل اقتراب موعد قمة العشرين، كما أن للصين حضورًا كبيرًا في إفريقيا لدرجة يمكننا القول إن اشترت القارة السوداء.
الصين أقامت علاقات مع دول تدين لها بالعرفان، وتعد هذه الدول ذات نظام ديكتاتوري (كوريا الشمالية – إيران – السودان – بيلاروسيا)، فهي تساند هذه الدول في منتديات الأمم المتحدة.
إستراتيجية الصين في استثمار أزمة كورونا
إن أزمات عام 2020 التي يمر بها العالم وعلى رأسها تفشي فيروس كورونا الذي بدأ في مدينة ووهان الصينية (التي نجحت في السيطرة عليه باستخدام الوسائل التكنولجية ووسائل القوة التي تمتلكها)، ثم انتشر الفيروس على المستوى العالمي إلى أن جعل منظمة الصحة العالمية تصنفه كوباء عالمي “جائحة”، وأصاب أكثر من نصف مليون إنسان على مستوى العالم، وراح ضحيته أكثر من 20.000، ولا زال العدد في ازدياد يومًا بعد يوم، نجحت الصين في السيطرة على انتشاره وأذهلت دول العالم.
بعد نجاح بكين في كبح جمتح فيروس كورونا من مواصلة الانتشار بعدما تفشى في مدينة ووهان الصينينة، عمدت مباشرة على الاستثمار في الأزمة وسط بعد الثناءات الغربية، فأجرى الرئيس الصيني شي جين بينغ اتصالات هاتفية مع العديد من الدول لتقديم مساعدات عاجلة شملت ملايين الكمامات والبذلات الواقية والأجهزة الطبية، فضلًا عن إرسال الكوادر الطبية إلى عدد من دول العالم، مُركزًا على البلدان الأوروبية والآسيوية، وعلى رأسها إيطاليا وهولندا وبولندا واليابان وكوريا الجنوبية والسعودية ومصر والعراق والعديد من البلدان التي تعد الشريك القتصادي الأكبر للصين التي زرعت ثقتها في البلدان الأوروبية والاسيوية.
فضلًا عن دعم الصين للمنظمات الدولية لأجل أداء أدوارها في مكافحة فيروس كورونا الجديد (كوفيد-19)، مما جعل منظمة الصحة العالمية تعرب عن تفاؤلها إزاء جهود احتواء الفيروس، وبذلك وضعت الصين ثقتها في القوة التي تمتلكها بمختلف المجالات، فماذا بعد انتهاء فيروس كورونا الجديد، هل سنرى إزاحة الولايات المتحدة الأمريكية من الهيمنة العالمية ليتصدر التنين الصيني؟