يَصعُب علينا تصديق الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب وروايته التي قال فيها إنّه ألغى “قمّةً سريّةً” كان بصدد عقدها اليوم الأحد في منتجع كامب ديفيد تضُم مُمثّلين عن حركة طالبان والرئيس الافغاني أشرف غني، للتوصّل إلى اتّفاقٍ نهائيٍّ حول الحرب يُؤدّي إلى سَحب جميع القوّات الأمريكيّة (14 ألفًا) قبل الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة.
ترامب قال إنّه ألغى هذه القمّة بسبب هُجوم شنّته قوّات طالبان على مدينة كابول أدّى إلى مقتل 12 عسكريًّا بينهم جندي أمريكي، وحُجّته أنّ حركة طالبان انتَهكت اتّفاق وقف إطلاق النّار ولم تعكِس نوايا حقيقيّةً تُجاه عمليّة السلام ونجاحها، ولكنّ الحقيقة مُغايرةٌ لذلك، حسب بعض التّسريبات من جِهاتٍ مُقرّبةٍ من حركة طالبان، تُفيد بأنّ الحركة لم تلتزم بوقف عمليّاتها العسكريّة اثناء عمليّة التّفاوض مع مُمثّلي الحُكومة الأفغانيّة في كابول، وتمسّكت بشُروطها في عودة إمارة أفغانستان الإسلاميّة بقيادتها، كما كان عليه الحال قبل الغزو الأمريكي في تشرين أوّل (أكتوبر) عام 2001.
فشَل المُفاوضات التي انعقدت طِوال العام في الدوحة بين الأمريكان وحركة طالبان في التوصّل إلى اتّفاقٍ تاريخيٍّ يُنهي الأزمة ويُؤدّي إلى انسحاب القوّات الأمريكيّة هو السّبب الحقيقيّ وراء غضب ترامب ودفعِه إلى إلغاء قمّة كامب ديفيد التي كان من المُفترض أن تشهد توقيع الاتّفاق النهائي بسبب تمسُّك حركة طالبان بشُروطها.
فلو كان الاتّفاق جاهِزًا للتّوقيع فِعلًا، فلماذا يعقِد ترامب قمّةً سريّةً؟ وبعيدًا عن كاميرات التّلفزة؟ ففي مثل هذه الحالات ليس هُناك أيّ داعٍ للسريّة، والمُفترض أن تكون قمّة كامب ديفيد هذه احتفاليّةً بهذا الإنجاز التاريخي في حالِ التوصّل إليه، وبحُضور زعماء من مُختلف أنحاء العالم.
ترامب يكذِب، ولا نُضيف جديدًا في هذا الصّدد، ولكنّ كذبته هذه حول التوصّل إلى اتّفاقٍ هي الأكبر حتى الآن، ولا نستبعِد أنّه تعرّض إلى خديعةٍ كُبرى أعدّتها له حركة طالبان، أضخَم بكثيرٍ من خديعةِ كيم جونغ أون، رئيس كوريا الشماليّة، ومِصيدته التي وقع فيها الرئيس الأمريكيّ عندما التقاه مرّتين في سنغافورة وهانوي، واعتقد أنّ الرئيس الكوريّ سيتخلّى عن تجاربه النوويّة والصاروخيّة فور الجُلوس معه.
شُيوخ الطالبان أثبتوا قُدرات تفاوضيّةً عاليةً جدًّا، وتعمّدوا إهانة الرئيس الأمريكيّ وخِداعه، لأنّهم لم ينسوا مُطلقًا المجازر البشِعَة التي ارتكبتها القوّات الأمريكيّة في حقّهم طِوال السنوات الـ18 الماضية من الاحتلال لبلادهم.
أمريكا خسِرت الحرب في أفغانستان التي كلّفتها أكثر من تريليون دولار حتى الآن، وأكثر من ثلاثة آلاف جندي أمريكي، و45 ألف عسكري أفغاني أنفقت عشرات المِليارات من الدولارات على تدريبهم وتسليحهم، وترامب تعهّد في حملته الانتخابيّة بالاعتراف بهذه الهزيمة وسحب جميع قوّاته من أفغانستان، ليعود ويتراجع أملًا في تحقيقِ انتصارٍ، وعندما فشِل في هزيمة طالبان، بات يبحث عن اتّفاقٍ يُنقِذ ماء وجهه، ويستخدمه كورقة في الانتخابات الرئاسيّة القادمة، ولكنّ حركة طالبان أفسدت عليه جميع مُخطّطاته.
لن يُضير حركة طالبان إلغاء القمّة السريّة في كامب ديفيد، مثلما لن يُضيرها استمرار حرب ضِد قوّات أمريكيّة مُحتلّة أطاحت بحُكمها، لأنّها تُدرك جيّدًا أنّها الكاسب الأكبر في نهاية المطاف، وأنّ أمريكا خسِرت هذه الحرب وستضطر إلى الانسحاب مِثل جميع المهزومين في حالاتٍ مُماثلةٍ، وخاصّةً في فيتنام والعِراق.
أليس لافتًا للنّظر أنّ ترامب خطّط لانعِقاد هذه القمّة السريّة وبحُضور مُمَثّلي حركة طالبان قبل أيّام من الذكرى الـ18 من هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي كانت السّبب الرئيسي لتورُّط بلاده في أفغانستان؟
ترامب، وكُل الرؤساء الأمريكيين كانوا يُعلنون دائمًا أنّهم لا يتفاوضون مع الإرهابيين؟ أليس حركة طالبان “الحركة الإرهابيّة” التي تتربّع على قائمة الإرهاب الأمريكيّة، وتكبّدت أمريكا كُل هذه الخسائر البشريّة للإطاحة بحُكمِها؟
اللّافت أنّ سكّان الكُهوف في قندهار وتورا بورا الأفغانيّة، ونُظرائهم في صعدة اليمنيّة، وفي قِطاع غزّة المُحاصر، ومغارات جنوب لبنان، هم الذين يُلقِّنون الرئيس ترامب وحُلفائه أقوى الدروس في المُقاومة والصّمود ووضع نُقطة النّهاية لصالحهم في كُل الحُروب الأمريكية في مِنطقة الشرق الأوسط، رغم الفارق الكبير في موازين القِوى.
هل يتّعظ حُلفاء أمريكا العرب من هذا الدّرس الطالباني ومعانيه؟